الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 14
- بتاريخ: 1 - 5 - 1911
زهرة الشباب
1
يوم من أيام الربيع: جو السماء صافٍ ووجه الأرض زاهر زاهٍ. خرجت إلى البرية وفي النفس عوامل لم أدرك سرها المكنون، وكنت آنئذٍ أجد لذة قلبية في الوحدة والانفراد.
نظرتُ إلى المغرب، فرأيتُ الشمس تتوارى وراء بحار من الذهب والياقوت، وستار الليل يمتدُّ شيئاً فشيئاً على وجه البسيطة وقد هبَّ نسيم لطيف ممسَّك فأحنى سنابل الحقل، وطلع القمر على أفق المشرق يتمايل تيهاً ويتمايس عجباً بين النجوم الزواهر وهو يرسل إلى الأرض أشعة أنواره الذهبية.
وبينما أنا أسير مرتشفاً هذه الأنوار العلوية، مستنشقاً هذه الروائح العطرية، إذ ظهرت لي في غسق المساء مخلوقةٌ عجيبة نظرت إليَّ وابتسمت، وقد سترها رداءٌ أنصع بياضاً من زنابق الحقل، ولاحت على وجهها حمرة أبهى من حمرة الورد الذي يكلل رأسها. وكان شعرها
الذهبي مسترسلاً على كتفيها. ومن عينيها الدعجاوين تنبعث أنوار الأمل والطهارة. . فمدَّت نحوي إحدى يديها وأشارت إليَّ بالثانية إشارة الحنو والانعطاف. . .
فبقيت برهةً شاخصاً إليها أقول في نفسي: لاشك إنها من سكان السماء. إذ لم يكن في بهائها الرائع شيءٌ أرضي، وكانت تحيط بها أنوار سماوية فتزيد في سنائها سناء. فمددت يدي وهتفت: ومن؟؟؟. . . .
فأجابتني بصوتٍ أرقّ من نسيم الربيع وأعذب من نغمة الشحرور: يا صاحٍ، وضعني الإله الخلاق في صدرك عند ولادتك، فنموت وترعرعت معك وها أنا قد بلغت أشدي مع سنتك السادسة عشرة. فحياتي حياتك وموتي موتك. أنا شقيقتك وأكون رفيقتك في قطع مفاوز هذه الحياة إلى أن أذوي وأذبل فأطرح على الحضيض، فأتركك في نصف الطريق بعد أن نكون قطعنا معاً النصف الأول منها، وليس هذا اليوم ببعيد يا أخي. فحياة الزهرة رمزٌ عن حياتي القصيرة. فمتى ذبلتُ تأسف عليَّ حين لا يجدي التأسف. فلا ماء عينيك يحييني ولا حرارة قلبك تنعشني. . . أنا لستُ غنية، وكل ثروتي في الزهور التي تكلل رأسي، لكني سأسكب عليك نعماً يحسدك عليها كبار الأرض وأغنياؤها. وأضع على مفرق رأسك إكليلاً يغبطك به كل من نظر إليه. سأتتبع آثارك دائماً دون أن تنظرني غير أنك دائماً تشعر
بوجودي. . . سأنفخ من روحي الطاهرة في الطبيعة لتروق عينك
وتبتسم لك في صباحك ومسائك. . . لكن عليك أن تقدّر هذه النعم قدرها قبل أن تفلت من يديك. وأدّخر منها للنصف الثاني من الطريق حيث أكون قد غادرتك. . . . .
قالت وكان كلامها ينسكب على قلبي كندى الصباح وبعد برهة استأنفت الكلام:
قلت لك يا أخي إن حياتي قصيرة ولكنه بوسعك أن تطيلها أو تقصرها. إن رجليّ نحيفتان فلا تقدني في المسالك الوعرة، وحمرة وجهي أبهى من حمرة الورد فلا تكدرها بريح الأهواء اللافحة، واعمل كي لا ينخزك الضمير إذا ما فقدتني. ومتى فارقتك فليبق ذكري محفوظاً طيَّ صدرك فينعشك ساعة القنوط ويضيء نبراسه ظلام حياتك
وحينئذ أحنت رأسها نحوي كالملاك الحارس وشعرت بيدها تخطُ على جبهتي علامة سرية ففتحت يديَّ
فكنت كالقابض على الهواء وتوارى طيفها في غسق المساء. . .
2
يوم من أيام الخريف: عبس وجه السماء واكفهر، وعريت الأرض من بهائها ورونقها. وكنت سائراً أجد في حزن الطبيعة صورة حزني وقد استولت عليًّ الوحشة التي تستولي على القلوب عند غروب شمس النهار.
فتراءت لي مخلوقة نظرت إليَّ وبكت، وقد اتشحت برداء ممزق بالٍ، ولاحت على خديها صفرة أشبه بصفرة الأوراق المتناثرة وقد حرقت
عينيها دموع الأسى، وكانت محنية الظهر كزنبقة ذابلة قُطعت عنها مياه الحياة. فعرفت فيها تلك التي ظهرت لي منذ خمسة عشر عاماً، وهتفت بصوت الرعشة: وما تريدين الآن؟. . .
فأجابتني بصوتٍ أشد حزناً من زمهرير هواء الشتاء:
قد أزفت ساعة الفراق وهو فراق أبدي، وقبل أن أتركك أحببت أن أودّعك وداعي الأخير. . .
لقد أنكرتني يا ناكر الجميل. قمت أنا بكل وعودي لكنك لم تكترث لها. وضعت على رأسك إكليل الطهارة وخفرتك بحراس الإيمان والأمل والمحبة. . . آنست وحدتك بأحلام ذهبية وشغلت مخيلتك بأفكار زهرية، جعلت السماء تبسم لك والأرض تتهلل أمامك. أما أنت فقل
لي بربك ماذا صنعت بكل هذه المواهب. . .؟ بذّرتها ودستها بالأقدام. . .
فهتف بصوتٍ تخنقهُ العبرات: قد زال الغشاء عن عينيّ. ألا رحماك إبقي. . . ردّي إليَّ الأمل والمحبة فأفارق الحياة ولساني يستمطر عليك البركات.
فأجابت:
أنت ستعيش بعد. أما أنا فعما قليل سأموت. انظر إليّ واعرف ما قاسيتُ من المشقات. أنهكتَ قواي وهددت عزيمتي. كنتُ أرفع إليك نداء الاستغاثة وأسألك الرحمة، أما أنت فلم تفهم هذا النداء بل كنت تقودني وتدفعني إلى المهالك. فمزَّق ثوبي شوك الطريق وأدمى