الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 13
- بتاريخ: 1 - 4 - 1911
كل مياه البحر
لا تغسل الأدران التي تعلق بقلب الفتى من سوء التربية
لو شئنا أن نورد ما قاله الفلاسفة والشعراء والكتاب وأساتذة الاجتماع عن الولد، ذلك المخلوق الطاهر، لضاقت عن ذكر بعضه فقط المقالات الطوال. فإن الولد كان ولم يزل موضع عناية كل من اهتم بخدمة بني الإنسان وترقية شؤونهم، لأن هؤلاء الأطفال هم الحجارة التي نعدها لبناية الغد. وبقدر ما نسعى في صقلها وحسن وضعها يجيء وضع بناية مستقبلنا جميلاً متقناً. فمهنا كتبنا وسطرنا في هذا الموضوع الجليل لا نكون وفيناه حقه من الاهتمام.
ريع الجميع من كثرة القضايا التي تعرض على المحاكم بشأن التعدي على آداب الأولاد وهتك حرمتهم وتسطير حروف الفحشاء على صحيفتهم التي كانت بيضاء ناصعة، فعادت وقد مرت عليها يدُ المنكر فذرة سوداء. وقد زاد هذه الحوادث شناعةً وفظاعة أن أبطاها المشؤمين هم ممن يطالب منهم أكثر من سواهم السهر على نور الآداب لئلا تطفئة أهواء المفاسد.
ثم أنهم اتخذوا فريسة لنار شهواتهم أغصاناً رطبة ناضرة.
وإذا كانت هذه الأعمال تشجب وتستنكر وهي تكون برضى الفريقين فكيف يعبر عنها حين تتم قسراً وعنوة مع من لم يبلغوا سن الرشد ولم يعرفوا من لذات هذه الدنيا إلا قبلات أم حنون، ومن آلامها إلا الحرمان من لعبة أو تأنيب والد شفيق.
فهل بعد ما نرى ونسمع صباح مساء يمل القراء لو طرق الكتاب موضوع الآداب مراراً وأكثروا من الحض على التربية وهي المصل الواقي الشافي من كل هذه الأوبئة؟ لا لعمري أن الواجب الأول على حملة الأقلام قبل التسابق في نشر الأنباء السياسية وإذاعة الاكتشافات العملية الجري والمباراة في هذا الميدان.
تتبدئ تربية الولد بين جدران المنزل وفي حجر العائلة بين الأخوة والأخوات حين تكون نفس الطفل كما قال عنها الشاعر اللاتيني هوراس كالشمع المرن تتكيف بالكيفية التي يريدها وليُّها ومن منا إذا تطلع في مرآة الذاكرة إلى تلك الأيام البعيدة لا يذكر كلمة سمعها أو حادثة شهدها كان لها أكبر تأثير على ضميره الأبيض ولا بياض السوسنة في الحقل،
وأشد وقع على قلبه الصافي ولا صفاء الماء المتدفق من الصخر.
ولكن ما أقل سهرنا على أولادنا وأكثر تغافلنا عنهم وهم في العقد الأول من العمر. انزل معي أيها الوالد إلى أي شارع شئت من شوارع المدينة وافتح هناك عينيك وأذنيك. تنظر ما تنبو منه عينك وتسمع ما
تنفر منه أذنك بل أنت لست بحاجة إلى فتح هذه وتلك فإن المشاهد المخجلة تلفت منك الأبصار قسراً، والكلمات البذئية تشق إلى أسماعك سبيلاً. بل علام أدعوك إلى ذلك وكثيراً ما تسمع وترى طفلك الصغير يأتي من الحركات ويفوه من العبارات بما يأبى القلم تسطيره، وذلك على مرأى منك ومسمع وأنت باسم له مشجع لعمله بسكوتك المذنب. . .
وعندما يبلغ الولد العقد الثاني من العمر ويصير يافعاً ينتقل القسم الأكبر من واجب تربيته عن عاتق الوالدين إلى عاتق المؤدب في المدرسة. ففي هذا الطور من العمر تتفتح أزهار النفس وتستعد لطرح ثمرها. فإن وجدت الأزهار هواءً نقياً وماءً طاهراً، جاءت نضرة زاهية. وإن لاقت هواءً ساماً وماءً فاسداً، جاءت ذابلة قبل الأوان. فترى الشاب شيخاً هرماً ويا تعس من كان هذا شبابه. . .
وفي هذا العمر تزداد مهمة متولي التربية أهمية بازدياد الأخطار المحدقة باليافع: أخطار داخلية لأن عقله بات يفهم ما لم يكن يفهمه وقلبه أصبح لعبة في تيار الأهواء النفسانية، وأخطار خارجية لأن هناك عشراء السوء يضعون يدهم بيده للسير في طرق الضلال؛ ودواعي الفساد تحدق به من كل جانب وتتنازع إرادته الضعيفة التي لم تتقو في نار الاختبار ولم تتصلب في خبرة الدنيا والناس.
وما عسى أن يكون مصير الفرد الذي ألقيت بذرة الرذيلة في قلبه طفلاً، ووجدت من يتعهدها ويعمل على إنمائها في صدره يافعاً. .؟ إلا أن مصير هذا المسكين لا محالة إلى أدنى هوات الانحطاط الإنساني.
وهيهات أن يقبض الله له يداً فيها من القوة ما يكفي لانتشاله من هذه الوحدة. وإذا أسأنا تربية أولادنا فلا نعجب لكثرة الجرائم وتعددها بل فلنعجب لأنها لم تبلغ أضعاف ما نحن سامعون.
فلنجعل أذن شؤون التربية نصب أعيننا فلا ندخر وسعاً لأبعاد الأولاد عن كل أسباب الفساد
فنحفظ لهم حياة النفس والجسم. وعلى نظارة المعارف أن تزيد سهراً وتيقظاً في تعهد معاهد العلم، فتطهرها من حين إلى حين لئلا تنمو فيها ميكروبات أوبئة الآداب. وعلى رجال البوليس أن يحافظوا في الشوارع على حرمة الآداب فلا نسمع في غدواتنا وروحاتنا تلك الألفاظ البذيئة التي تعلو في الطريق على كل صوت. . .
تشكلت جمعية رعاية الأطفال بهمة بعض الأفاضل الغيورين على مصالح بلادهم فأخذت تعمل بجد ونشاط لوقاية الأطفال ودرء الأمراض والعاهات عن أجسامهم النحيفة، فنعم ما فعلت.
واهتمت الحكومة بوضع قانون يتعلق بتشغيل الأحداث واضعة نصب أعينها في سن هذا القانون صحة الولد لئلا تذبل وتذوي بين جدران المعامل ساعة هي في طور نموها، فحبذا ما فعلت.
ولكن يتحتم علينا مع الاهتمام بشؤون الأولاد المادية أن نوجه اهتمامنا إلى شؤونهم الأدبية، فنعمل على وقاية القلب كما نعمل على وقاية الجسم. حتى يسلم هذا وذاك من الأمراض القتاله.
وعليه فيجب أن تؤلف جمعيات لهذه الغاية تأخذ على عاتقها الاهتمام بهذه المسألة الخطيرة وما هذا على من يحب أبناء جلدته بالأمر العسير.