الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوقفت واعتبرت وترحمت. ثم خرجت من تلك المنازل مودعاً الراقدين فيها متسائلاً: هل تطول غيبتي عنهم، أم تكون عودتي إليهم قريبة لأودع حبيباً أو نسيباً أو لأرقد بينهم رقادي الأخير. . . .؟
الشعر
قبل ان نعطي الكلام قياده، ونلقي على كاهل القلم زمانه، لا نرى بداً من أن نعرف ما هو المفهوم بالشعر عند أربابه وبماذا يختلف عن كل قول ليس بشعري.
يطلقون لفظ الشعر إجمالاً على كل صناعة تقوم بإظهار الحسن البالغ ومن ثم فقد يكون لحذاق المصورين والموسيقيين وغيرهم نصيب في ذلك كما لصانع الشعر بالقول.
أما على سبيل التخصيص، فالشعر حقيقة هو القول الذي يظهر الحسن البالغ بالأقاويل الشعرية وهي الأقاويل المخيلة فقط - أعني الغير موزونة - فالوزن واللحن.
والمراد بالوزن العروض، وهو رصف اللفظ وسكبه في قالب القريض. ويراد باللحن الأنغام التي تحدث من الوزن عند نظم الكلام وسكبه في مهيع التفاعيل، فاللحن إذن داخل تحت حكم القول الموزون. إنما في بعض الأشعار يتولد اللحن بنوع خصوصي بواسطة تطابق ألفاظ وتجانس حركات، فتنبعث نغمات أكثر مما في سواها مثلما في نوع
الموشحات التي استنبطها أهل الأندلس وفي الأزجال (راجع تلخيص كتاب أرسطاطاليس في الشعر تأليف أبي الوليد بن رشد).
وقد ينفرد على حدة كل من الأقاويل المخيلة والوزن واللحن فنرى المحاكاة المخيلة في الأوصاف ونرى الوزن في الرقص واللحن في الزمر وآلات الطرب كافة.
والمفهوم عند الفريق العظيم من بني نحلتي إلم أقل السواد الأعظم، إن الشعر هو كل قوم منظوم ومقفى بدون اعتبار المعنى الشعري ركناً ضرورياً له. على أن في هذا الاعتقاد شططاً فاحشاً، ومن ذهب هذا المذهب قل عنه ولا حرج بأنه يقفه معنى الشعر ولو كان من الذين امتطوا متنه وتقلدوا أعنته. فقد يدعى شعراً - وهو ليس منه - بعض أقاويل منظومة إذ أنها لا تتضمن إلا الوزن فقط وقد قيل: الشعر ما اشتمل على المثل السائر والاستعارة الرائعة والتشبيه الواقع وما سوى ذلك فإن لقائله فضل الوزن.
ومثيل ذلك كثير في كل اللغات كأقوال سقراط وانبادقليس في الطبيعيات وكل من استخدم الشعر في الرياضيات وعلم الهيئة والآداب.
ولا مشاحة في أن الأقاويل المخيلة فقط كالأوصاف وغيرها أقرب إلى حقيقة الشعر وأحق بأن تدعى شعرية من منظومات هؤلاء الذين نظروا بها الآداب أو قواعد الإعراب ودونوا فوائد علمية أو فلسفية لأن كل هذا خارج عن حد الحسن البالغ اللهم إلا إذا التجئ إلى
صورة الشعر الحقيقية وطلاوة طرازه فلم يفتهم ضرب التخييل ولا روح الشعر
كما فعل هوراس الروماني في الصناعة الشعرية وحذا حذوه بوالو الفرنساوي فإنه والحق يقال تلطف في تأدية القواعد وأودعها قالب القريض بصورة بديعة النزعة حتى جاء نظمه من باب الشعر.
الشعر إذن وضع ليمثل كل حسن سيان أدبي أو مادي، وكان من شأنه أن ينفذ إلى النفس فيحرك أوتارها مثل ذلك في وصف الخيال والجمال والصفاء والسناء والمكرمات وكل شيء تنبسط له النفس وتجد إليه كما في وصف مشاهد الكون الجميلة من رياض باسمة وبدور ساطعة وبقاع شاسعة وبحار واسعة.
وليس من خواص الشعر ولا من مواده سن الشرائع ونشر الحقائق وتدوين الوقائع والحوادث التاريخية.
ولربما التجئ في الشعر إلى استعارة ما لا يدخل في صناعته متى كان ذلك على سبيل التشبيه على شريطة أن يكون التشبيه واقعاً ومألوفاً كقول الطغرائي في لاميته:
لو أن في شرف المأوى بلوغ منى
…
لم تبرح الشمس يوماً دارة الحمل
فهذا القول وإن كان من قضايا علم الهيئة إلا أن فيه تشبيهاً يقرب المعنى ويكسبه طلاوة.
وبعد ما تقدم يمكنا النظر في الشعر من الوجهة المعنوية والودهة اللفظية وهذا ما نراه في مقال آت.
حلمي المصري