الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسائل غرام
بين نساء شهريات ورجال عظام
الرسالة السادسة
من الأميرة إميليا غوستاف إلى الأمير هنري أولدنزال
(كان الأمير رودلف غوستاف ملك إحدى المقاطعات الألمانية قد تزوج في أثناء إحدى سياحاته بفرنسا فتاة فرنسوية وضيعة الأصل وكتم زواجه عن الناس ثم هجر زوجته وعاد إلى ألمانيا. وبعد زمن بلغه أن امرأته قد رزقت منه ابنة هي طريدة شريدة في أزقة باريس. فعاد إلى فرنسا وأخذ يبحث عنها إلى أن وجدها بعد عناء كبير ورجع بها إلى ألمانيا. وكان كل من يرها يقف حائراً مبهوتاً لجمالها الساحر فلم يمر على قدومها بضعة أيام حتى كان جمالها الرائع حديث القوم وموضوع تغزل الشعراء. ولم تكن محاسن آدابها تقل عن محاسن جمالها فقد كانت على جانب عظيم من الشمم وعزة النفس. واتفق أنها رأت ابن عمها البرنس هنري أولدنزال فأحبته وأحبها حباً مبرحاً. ولكن تاريخها الماضي كان في نظرها لطخة سوداء فلم تشأ أن تصم بها حياة ابن عمها. ففضلت الترهب حباً به. وهكذا فعلت على رغم إلحاح أهلها وجميع أهل البلاط. وماتت في دير جيرولستين شبعانة من متاعب الحياة وآلام التذكارات. وقد كتبت الرسالة الآتية إلى حبيبها عند أوائل دخولها إلى ذلك الدير).
أيها الحبيب
أمامي رسالتك الأخيرة، كلما قرأتها شعرت بشوق إليك وحنين إلى مخاطبتك. أراك رازحاً تحت ثقل من اليأس فيزيد بي حزني وأتمنى لو أننا لم ير بعضنا بعضاً قط، إذ لولا الحب ما كنت حزيناً منكسر القلب.
ولو لم تعرفني ما شغلت بي عن العالم أجمع. فإن كان ذنبي إليك أنني أذكيت في قلبك جذوة الحب فإني مستعدة أن أطفئ تلك الجذوة وأكفر عن ذلك الذنب بأن أضع حداً لنبضات قلبي المثقل بأعباء الهموم وإلا فلماذا أنت حزين يا هنري؟ ولماذا يجعلك حبي شقياً عوضاً عن أن يمتعك بالسعادة والحبور؟ هل يسوءك أنني دخلت الدير وأنت تعلم لأجل من دخلته؟ أليس ذلك أسطع برهان على أن حبي لك صحيح ثابت ليس له بداءة ولا نهاية؟ فإن كنت تحبني كما احبك فلا تكتب إلي بلهجة اليائس، بل كن
فرحاً مسروراً لأنني أحب أن أراك كذلك أيها الحبيب وينقبض صدري كلما تمثلتك حزيناً مثقلاً بالهموم.
دخلت الدير يا هنري لأنني أجد فيه راحة وسلاماً وأستطيع أن أخلو بنفسي فأناجيك ولو عن بعد، وأضيف إلى عهودي السابقة عهداً جديداً لا تفصم عراه حتى تنطوي صفحة الخلود. فإذا لم يقدر لي أن أراك في هذه الحياة، فإن موعدنا الضفة الأخرى من نهر الأبدية، حيث نحلق كلانا في ذلك الفضاء الرحيب متنقلين بين الكواكب، كما تنتقل الفراشة بين الحقول.
لماذا تلومني على دخولي الدير يا هنري؟ أليس الدير أول محطة على الطريق إلى السماء حيث نجتمع كلانا بعد أن نخلع هذا الثوب الهيولي؟ فلماذا يسوءك هذا الأمر وأنت عالم بما ينطوي عليه من راحة وعزاء؟
هي أيام تنقضي يا هنري. فإما أن يشفيك الزمان من غرام الشباب، أو أن يزيدنا الفراق ثباتاً في الحب. وسواء قدر لنا اللقاء في هذه الحياة،
أو لم يقدر، فإنني مقيمة على عهودي لك لا أميل عنك قيد شعرة ولا أنساك طرفة عين.
. . اكفني عذاب الذاكرة يا هنري. إن السرور الذي تجده في تذكرك أيامنا السالفة ينقلب عندي إلى آلام مبرحة، فأخلو بنفسي وعيناني مغرورقتان بالدموع إذ تتمثل لي أيامنا السعيدة ونحن لاهيان عن كل شيء ما سوى الحب.
سقياً لمواقف العهد القديم! ليتني أستطيع أن أنساها، لأنني كلما تذكرتها تقوم في نفسي ثورة عواطف تضيع بين الشجن والسرور. فلقد كانت تلك الأيام أشبه بحلم هنيء أعقبته يقظة محزنة. لذلك أحاول أن أتناساها فلا أستطيع، لأن رسمك لا يبرح من فكري وصوتك الرخيم يرن دائماً في أذني. حقاً إنني مدينة لك بأيامي السعيدة يا هنري. ولو كنت الآن واقفاً أمامي، لألقيت نفسي بين ذراعيك وأسمعتك خفوق هذا الفؤاد الذي تنطق كل نبضة من نبضاته بما يكنه لك من الحب الخالد.
ربما تحزنك رسالتي هذه يا هنري. ولكن فؤادي مفعم بهموم تضيع معها الابتسامة التي كنت تعهدها في شفتي. كيفما التفت أرى مظاهر الطبيعة تذكرني بك، لأن حبي لك يمثلك حاضراً في كل مكان وزمان. وهذا دليل آخ على أن حبنا الطاهر يزيد كلما طال بنا
الفراق، ولا تؤثر فيه الأيام. ولقد كنت أستكثر على البشر روميو وجولييت، وأتصور حبهما من أساطير الأولين إلى أن أحببتك، فعلمت أن في العالم
روميو آخر وجولييت أخرى، وإن الحب قد يبلغ من النفس إلى درجة يحملها على ارتكاب كل جريمة، وجرائم المحبين حسنات عند الملائكة!
إن الراهبات هنا يسمينني الزنبقة، لأن كل فتاة تعطى عند دخولها هذا الدير اسماً جديداً للدلالة على انقطاعها عن العالم وابتدائها بحياة جديدة. فهل يعجبك اسمي الجديد يا هنري؟ وهل أنت واثق أنه سواء تغير اسمي، أو بقي كما هو، فإن حبي لك ثابت لا يتغير.
في هذا الدير زنابق كثيرة مثلي داميات القلوب. لعلهن يجدن في الانقطاع عن العالم بلسماً يشفي جروحهن التي لا تقبل الاندمال. أما أنا فلم أجد بعد هذا البلسم. والصلاة والحيدة التي أركع كل يوم لأرفعها إلى الله هي أن تعيش سعيداً في هذه الحياة.
لو خيرت أن اجلس على العرش طول العمر أو أكون زوجتك يوماً واحداً ثم أموت لنبذت العرش ولم أحفل به، لن سعادة يوم واحد معك أفضل عندي من أبهة الملك. ولو كان في كرهك إياي سعادة لك لكنت أنا أيضاً أتمتع بذلك الكره لأن سروري لا يتم إلا بسرورك أيها الحبيب.
إلى الملتقى يا هنري. بودي لو ينفسح لي أن أطيل حديثي معك ولكن. . .
إميليا
بقلم سليم عبد الأحد