الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول بأنه رجل شر يجب أن يبتر، إذ أنه يجوز أن يكون رجل خير قد رغب في خدمة الإنسان فعاقبه مضطهدو الإنسان بالقتل أو بالسجن.
وإن رأيتم شعباً دفع مثقلاً بالحديد إلى قساوة جلاده فلا تقولوا بأنه شعب دموي عكر السلام وأثار الاضطرابات فإنه قد يكون صائراً إلى الفناء لخلاص البشرية.
تعريب حنا صاده
سياحة في إسبانيا
عواصم البلاد ومتحفها ومعابدها وآثارها - المكتبة العمومية - سراي الملك والاصطبلات - زيارة الشاعر روستان في جبال كامبو - مصارعة الثيران - لعبة بلوت باسك
وعدتكم ووعد الحر دين، أن أوافيكم ببعض الأخبار عن سياحتي في البلاد الإسبانية، وكنت أود كثيراً ان أقوم بالوعد أحسن قيام، لولا شواغل كثيرة تحول دون بلوغ المرام، وما أكثر شواغل الأيام! خصوصاً لمن كان معها في جهاد وخصام. . . ولكني بحمد الله قد فزت الآن بما أرجو بالرغم من العقبات التي حاول أن يضعها في سبيلي ذوو الغايات فأزالتها يد الحقيقة ومهدت لي السبيل.
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
…
فأسهل ما يمر به الوحول
أختلس هذه الفرصة من وقتي لأحرر لكم ما يجول بالخاطر مما شاهدته النواظر فعسى أن يكون به تفكهة لقراء الزهور وأني أعدكم بتفصيلات أهم وأخبار أتم، عند إنهاء سياحتي في هذه البلاد.
إسبانيا بلاد جميلة تشبه كثيراً جبال لبنان بحسن مناظرها وعذوبة مائها وأخلاق رجالها وخلق وعادات نسائها. ولكنها أكثر منه عمراناً، وجبالها أقل منه وهاداً، وبعضها قاحل وأغلبها تكسوه الخضرة الجميلة والأشجار الباسقة وأكثرها من صنف الحور والسنديان والزيتون والصنوبر. وقد يستخرجون من هذا الشجر الأخير المادة الصمغية الموجودة فيه، ويبيعونها بأسعار غالية. أما في بلادنا فلا يستفيد الأهالي شيئاً تقريباً من شجر الصنوبر مع كثرة وجوده.
برشلونة: مدينة جميلة جداً وفيها كثير من البنايات البديعة، وشوارعها في غاية الإتقان والانتظام، ومركزها الطبيعي أشبه شيء بمركز مدينة بيروت، تبتدي بناياتها من المرفأ وتنتهي بعلو متتابع إلى جبل عال يحيط بها عن قرب. وفي أعلى ذلك الجبل أقامت شركة إنكليزية بنايات بغاية الإتقان وفنادق وقهوات وتياترات وكنائس ومحلات ألعاب مختلفة وقد سموا تلك القمة إشارة إلى ذلك الجبل العالي الذي صعد إليه الشيطان وقال للسيد المسيح: انظر إلى هذه الممالك التي تحت سلطتي. . . إلخ حينما أراد استغواءه كما جاء في الإنجيل. وفي الحقيقة إن المنظر من ذلك العلو الشاهق من أبدع ما يمكن أن تتصوره الأفكار ومنه تشاهد شوارع البلدة في غاية التنسيق والإبداع تكتنفها الأشجار
من الجانبين بكمال الترتيب. وطريقة الوصول إلى ذلك الجبل بواسطة سكة حديد فينيكيلير كهربائي جليل الفائدة لأنه يسر بواسطة تكافؤ القوى، فعند صعود القطر يوجد قطر آخر ينزل والواحد متصل بالثاني بواسطة شريط واحد. وحين الوصول إلى منتصف الطريق يفترقان بواسطة شريط خصوصي وهكذا يأخذ كل منهما طريق الآخر، فيصل الصاعد والنازل في آن واحد والمسافة التي يقطعها ذلك الفينيكيلير هي 1180 متراً.
وبرشلونة هذه بلدة تجارية كثيرة المصانع والمعامل وأهلها أكثر شدة وحماسة من أهالي العاصمة. ولذلك ترى عدد الثورويين في برشلونة أكثر بكثير منه في مدريد. ويوجد فيها كما في كل إسبانيا تقريباً عدد كبير من الكنائس الضخمة الكثيرة الإتقان الدالة على ما وصلت إليه عظمة الدين في الأيام السالفة في هذه البلاد. وأهم الكنائس التي شاهدتها هي في برشلونة وساجوسا (سرقسطة) وبرجس ودير الاسكوريال الشهير بضواحي مدريد الذي فيه بانتيون ملوك إسبانيا وعظماء رجالها وسوف يأتي الكلام عن ذلك. وأما عموم هذه الكنائس فهي أشبه بقلاع متينة ومعارض ومتاحف عظيمة لكثرة ما تحويه من التماثيل والصور البديعة وعواميد الذهب الضخمة والآنية الفاخرة والآثار التاريخية الجليلة. وأما الأندلس ففيها من الجوامع والآثار العربية العظيمة ما سوف نأتي على ذكره بعد.
مدريد: عاصمة الإسبان مدينة جميلة أيضاً تمتاز خصوصاً بمعرض
التصوير العظيم الموجود فيها، ويحتوي على أبدع ما خطته ورسمته أيدي البارعين في هذا الفن الجميل. وأكبر البنايات التي شاهدتها بعد قصر جلالة الملك هي البنك الإسباني الملوكي والمتحف ودار الكتب الوطنية. وهما بناية واحدة وقد زرتها وسررت كثيراً بما شاهدته في الكتبخانة الوطنية من الكتب العربية القديمة. وأما مكتبة دير الاسكوريال فهي أهم من مكتبة مدريد وقد عثرت أثناء مطالعتي فيها على الأبيات الآتية التي انقلها لقراء الزهور من باب التفكهة:
أحن إلى عتابك غير أني
…
أجلك عن عتاب في كتاب
ونحن إذا التقينا قبل موتٍ
…
شفيت عليك قلبي بالعتاب
وإن سبقت بنا أيدي المنايا
…
فكم من عاتبٍ تحت التراب
كتبت ولو قدرت هوىً وشوقاً
…
إليك لكنت سطراً في الجواب
غيره:
يا رب إن لم يكن في وصله طمعٌ
…
ولم يكن فرجٌ من طول جفوته
فاشف السقام الذي في طرف مقلته
…
واستر ملاحة خديه بلحيته
غيره:
أغار عليها من أبيها وأمها
…
ومن كل من يرنو إليها ويبصر
ومن حملها المرآة يوماً بكفها
…
إذا نظرت فيها الذي أنا أنظر
غيره:
حملت مقلتاها مقلتي من الكرى
…
فعيني لما ألقاه لم تعرف الغمضا
سهرت وأجفاني صحاح فلم أنم
…
ونامت ولم تسهر وأجفانها مرضى
غيره:
بديعة حسنٍ تخجل البدر بهجةٍ
…
وتسبي قلوب العالمين بلحظها
تصاممت قصداً كي يطول حديثها
…
فيطرب سمعي عند تكرار لفظها
غيره:
وظبية أسى الورى طرفها
…
وحسنها قد حير الناظرين
قد كتب الحسن على خدها
…
إنا فتحنا لك فتحاً مبين
تخاطب الناس على رفعةٍ
…
كأنها موسى على طور سين
يا قلب إن ملت إلى غيرها
…
ما أنت إلا في ضلال مبين
غيره:
ثلاث هن في البطيخ فخرٌ
…
وفي الإنسان منقصة وذله
خشونة جلده والثقل فيه
…
وصفرة لونه من غير عله
وكثير من هذا القبيل مما لا محل لذكره الآن.
وأما القصر الملوكي فهو أكثر جمالاً وعظمةً داخلاً وخارجاً من سراي عابدين بمصر. وقد زرت ذلك القصر الجميل بتصريح خصوصي في صحبة نجل الجنرال ميلانس دلبوش قائد فرقة الخيالة والصديق الحميم لجلالة الملك. وهو قائم على رأس رابية في الحد الغربي من المدينة. وعلى الجانب القبلي توجد الاصطبلات والعربخانات الملوكية، وقد زرتها
أيضاً ودهشت كثيراً لما فيها من العظمة والغنى. فإن في الاصطبل الملكي 154 حصاناً من جياد الخيل بعضها للحفلات الرسمية وبعضها للأيام العادية والبعض الآخر للحاشية الخاصة، وقسمٌ كبير من الخيل مهدى إلى جلالة الملك من الجمهورية الفضية وملك إنكلترا وبعض الأمراء. وأما العربات فهي على جانب كبير من العظمة، أغلبها محلى بالذهب ومكسو بالحرير الغالي والبرونز الثمين، والعربات الليلية مصفحة داخلاً بالحديد
حذراً من طوارئ الفوضويين حتى أن الديناميت لا يكاد يؤثر فيها.
وهناك عربات ملوكية من نحو أربعمئة سنة، وهي كأنها مصنوعة حديثاً لكثرة الاعتناء بها، وأجمل عربة هي عربة مصنوعة كلها من الأبنوس الجميل ومشهورة باسم عربة التي فقدت شعورها حزناً على زوجها ويقال إن حكومة إنجلترا دفعت لحكومة إسبانيا مئة مليون فرنك لتبيعها هذه العربة حرصاً على تاريخها وقدميتها فرفضت. وأما الرياش الجميلة المتنوعة الأشكال والألوان والعدد والأسلحة التابعة للاصطبل فحدث عنها ولا حرج فهي على جانب عظيم من الأهمية.
وفي صدر السلم الأول من الاصطبل يوجد صورة كبيرة تمثل جلالة الملك راكباً على جواده، والقواد والأمراء يحيطون به وجواده مكسو بالشراريب العربية كأنه أمير من أمراء العرب الأقدمين.
وفي آخر المدينة من الجهة القبلية أنشأت الحكومة حديثاً حديقة كبيرة مترامية الأطراف جميلة التنسيق شوارعها أشبه شيء بملتوياتها بشوارع التي حلت محل القصر العالي بمصر الآن وهو ما يسمونه
وهذه الحديقة الغناء كثيرة المرتفعات والمنخفضات تكسوها الخضرة الجميلة وتعلوها الأشجار الباسقة وتتخللها جداول كثيرة من الماء في غاية التنسيق والإبداع.
والمقاعد كثيرة لأنها محل نزهة مشهور يقصدها أغلب العائلات
وخصوصاً الأولاد. وعلى جانبي هذه الحديقة شارعان كبيران تسير فيهما المركبات والسيارات. وفي أغلب المواقف ترى تماثيل لطيفة لبعض مشاهير رجال الإسبان. وفي الآخر تقريباً قامت قبة جميلة الصنع تحيط بها من الجهات الأربع عواميد الرخام العظيمة، وفي أعلاها الكرة الأرضية وفوقها غادة حسناء حاملةً إكليلاً من الغار ولوحةً منقوشة مكتوباً عليها الوطن بأحرف
ذهبية كبيرة.
ويتراءى في هذه الحديقة الغناء وما هي عليه من الكبر مع كثرة منخفضاتها ومرتفعاتها وتكاثف أشجارها وكثرة جداولها واخضرار أرضها أنه في جبال كامبو اللطيفة الشهيرة في فرنسا وهي موطن الشاعر الشهير ادمون روستان. وقد زرته أخيراً في قصره الجميل فقابلني بمزيد الإكرام وأهدى إلي بعض مؤلفاته وكتب عليها تذكاراً جميلاً. وقصر ذلك الشاعر الطائر الصيت قائم على رأس جبل عالٍ تحيط به أشجار كثيفة في حديقة غناء بديعة الإتقان كثيرة الأزهار، وفي وسطها بحيرة كبيرة تحيط بها التماثيل الجميلة، وعلى الجانبين مساكن الطيور المختلفة الأجناس والطاووس بريشه الجميل يسرح بين تلك الأزاهر. ولا بدع إن خطت يد ذلك النابغة أبدع الأشعار وجادت قريحته بأحسن الأفكار لأن الجالس في مكتبة الفاخر يشاهد من جمال المناظر الطبيعية ما يعجز عن وصفه أبلغ الأقلام.
ويظهر أن لمدام روستان فضلاً عظيماً في مساعدة زوجها في مؤلفاته الجميلة ولها أيضاً عدة مؤلفات شخصية تشهد لها بطول الباع وعظم
الاقتدار في النظم والكتابة.
ويوجد تشابه كبير أيضاً بين أخلاق أهالي تلك الجبال المعروفة بجبال الباسك وأخلاق أهالي إسبانيا عموماً. فإن لكلا الشعبين ورعاً شديداً في الدين وشغفاً عظيماً بكل ما فيه إجهاد القوى البدنية وفنون الفروسية. وأعظم ما يشتهيه الرجل والمرأة والفتى والفتاة هو أن لا يفوتهم مشهد من مشاهد مصارعة الثيران التي يحتفل بها في كل مدن إسبانيا تقريباً وجبال الباسك أيضاً مرة أو مرتين في الأسبوع.
ولهذه الحفلات بنايات خاصة من أفخم البنايات الموجودة في هذه البلاد. ففي سان سبستيان مثلاً بناية أنشئت حديثاً لمصارعة الثيران من أبدع البنايات وهي تفوق بكثير كل التياترات ومحلات اللهو الموجودة وتعد بعد الكازينو الكبير وقصر ميرامار الشهير أحسن بناية هناك. وقد حضرت تلك الحفلة مراراً ولا أبالغ إذا قلت أنه في كل مرة لم يكن هناك أقل من عشرة آلاف نفس أو أكثر بالرغم من علو أسعار الدخول التي تتفاوت بين 3 و25 فرنكاً للشخص الواحد ومئتي فرنك اللوجات، ما عدا الجند فإن له محلات مخصوصة بسعر فرنك ونصف فقط.
وقد شاهدت بعيني في حفلة واحدة قتلة ستة من فحول الثيران بعد عراك عظيم ومحاولات مؤثرة مع المصارعين. وقد شقت بطون اثني عشر حصاناً بقرون الثيران، ووقعت أشلاؤها على الأرض وكان الفارس يضرب الثور برمحه ويغرسه في ظهره والدماء تسيل منه بكثرة، والصياح والابتهاج، والتصفيق من الرجال والنساء يتصاعد كل مرة كان الثور يرفع
بقرنه الحصان وفارسه فيقع الحصان صريعاً والفارس منجلاً على الأرض. وكذلك حينما يتمكن أحد المصارعين من أن يغرس في ظهر الثور أو في رأسه حربته فيجندله قتيلاً كان الشعب يحيي ذلك المصارع الشجاع بالتهليل ويرميه بالقبعات والمناديل. وهناك خدمة مخصوصون لإرجاع كل ذلك لأصحابه. وحينما كان الثور يهاجم المصارعين فيهربون ويقفزون من فوق أسوار الخشب كان الشعب يقابلهم بالصفير وأصوات الخزي والعار.
ولقد سبق واعترض كثيرون على هذه الألعاب شفقة على الخيل كي لا يعرضوها للقتل بمثل تلك الطريقة الشنعاء، ولكن يظهر أنه لا بد من هذه التضحية لأن المصارعين لا يقدرون أن يكون نطح بقرنه الحصان مرتين أو ثلاث ورفعه بفارسه عن الأرض، فعند ذلك تخور عزيمته وتضعف قوى رأسه خصوصاً ويسهل على الفارس صرعه من غير خوف تقريباً.
وأما لعبة البلوت باسك التي يعرفها المصريون فهي في إسبانيا وخصوصاً في برشلونة مثل بورصة الإسكندرية وبورصة مصر أيام عزها القديم. فإنهم يعتنون كثيراً بالمراهنات فيها وبطريقة رسمية كأنهم في بورصة تجارية قانونية ورسم الدخول إليها ثلاثة أو أربعة فرنكات.
ومن غريب ما سمعته عن هذه البلاد هو أنه يوجد بعض أديرة للرهبان تتعهد بأن تضع تلميذاً في إحدى المدارس الداخلية أو شيخاً في أحد ملاجئ العجزة مقابل مليون ورقة من ورقات الترامواي المستعملة