الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرى بعلبك
معبد للأسرار قام ولكن
…
صنعه كان أعظم الأسرار
خليل مطران
يقول الغد في نفسه: لو علم هذا
الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا
الباني إنه يبني للخراب، وهذا
الوالد إنه يلد للموت لما جمع الجامع
ولا بنى الباني ولا ولد الوالد
المنفلوطي
تحرك القطار صباحاً في محطة بيروت وهو يهدر ويشخر ويزمجر غضباً، وقد فاض بركان غيظه فأخذ يقذف دخاناً قاتماً أثقل الهواء حتى ترامت أطرافه على أطراف الأمواج فأزعجت زرقتها. وما برح صراخه الهائل كأنه زئير ألف أسد معاً يتردد في جوانب الفضاء البعيد، حتى
خيل إلي أن صدى تموجات هذا الزئير المرعب لمن لمس رؤوس أعمدة بعلبك متمتماً: ها أني سبقت زائريك العتيدين لأقول لك أني لو تجاسرت لاحتقرتك أيتها الأعمدة، لكن سخطي عظيم عندي مرآي هؤلاء الناس الذين يستعملونني، أنا آية اختراعات السنين الحاضرة وأنفع آلة تجارية، للوصول إليك، أنت يا رمال الأيام ويتيمة الليالي الغوالي!
بيد أن القطار ما لبث أن أسرع في سيره متلوياً بين الشجيرات الخضراء، وهدأ سخطه تحت قبلات النسيم الآتي من أعالي الجبال، فتدرج صاعداً على أكتاف لبنان، وظل يترك محطة ويمر بأخرى حتى وقف في محطة صوفر، وهي أعلى نقطة فوق وادي حمانا الذي قال فيع لامرتين أنه أجمل أودية العالم القديم، فرأيت التلال فيه تتطوى، كأنها لأقمشة حريرية، لمداعبة أطراف الجبال المجاورة، فتنبسط هذه تحتها سطوح مستديرة الشكل تكسوها أشجار الصنوبر وتتخللها القرى البيضاء المساكن، والقرميد الأحمر يكلل كل بيت من بيوتها كأنه هالة قرمزية. وهناك على الشاطئ ترى آكاماً صغيرة رابضة كأسود تحرس الأمواج، والبحر الفسيح يبسط أمامها رزقه مرتفعاً في أطراف الأفق حيث يمتزج
أثيره بأثير الجو متلاثمين وراء آفاق بيروت القائمة في المياه العثمانية مليكة عليها، كأنها قيثارة الجمال تضرب الأمواج على أوتارها أعاني الأرواح، وأناشيد البحار، وتهاليل العناصر وتعاظيمها.
ثم أخذ القطار في النزول حتى بلغ سهول بعلبك الغائبة حدودها وراء آفاق بعيدة لا يدركها النظر. سهول هي أشبه بوادٍ متسع ينحصر
بين سلسلتي لبنان وأنتي لبنان القائمتين على جانبيها، كأنها أسوار الدهر تحدق بمروج الحياة.
وبعد أن تواصل السير في السهول نحو ثلاث ساعات، تراءى لنا عن بعد، في عصر النهار، شبح (مدينة باعال) محاطاً بنطاق لطيف من الأشجار المغذية والحور الرجراج. وفوق المدينة وجنائنها ترى أعمدة هيكل الشمس ترتفع بقدها الأهيف العظيم. أجل! إن هيكل الشمس هذا الذي كان أعجب عجائب الدنيا ببنائه ولا يزال اليوم أعجبها بأخربته، لا يبقى منه سوى ستة أعمدة قائمة في المروج البعيدة، وكأني بطيفها ينادي المسافر قائلاً: تعال وانظر إلي، يا أيها المار، فهل من حزن أشد من حزني؟
أثر عظيم من عظمة باهرة تظهر حوله اكبر الأشجار أعشاباً، بل شبح الأعصر الغابرة يحاول تخليد ذكر الأصنام المعبودة. . . وثلوج لبنان تطل من أعالي فم الميزاب وظهر القضيب مستفهمة عن سر هدم الهياكل.
منذ ألوف من الأعوام ترسو هذه الثلوج في مكانها. فالشمس تشرق وتغيب، والصيف يأتي والشتاء يذهب، وينقضي الخريف ويحل الربيع وقلعة بعلبك تظل شاخصة في عظمتها المحطمة، وثلوج لبنان الطاهرة تحدق بها وتود أن تفهم أي خطب جرى، لكنها لا تفهم!. . .
* * *
تجسم حزني وجثا على أعتاب القلعة باكياً. ولست أدري أتراه
بكى هناك لوعة على أعجوبة الدهور البالية، أو هو منظر الدرجات التي وضعتها يد الألماني هنالك حديثاً غشى بصره وأسال دموعه.
عند مدخل هذا الهيكل الذي لم يكتشف علماء الآثار له من مثيل، هذا الهيكل الذي ألقت أساساته المخيفة في طبقات الأرض شعوب شرقية تلاشت وتركت لنا في ذكرها شيئاً من
روحها الكبيرة ومطالبها السامية، أتى الأجنبي ووضع درجات أجنبية موصلة إلى معابد آلهة الشرق القديم. عند هذا المشهد شعرت بغصة أضاقت صدري كأن هذه الحجارة بجملتها ثقلت على فؤادي، لأنها دليل تداخل الغربي في قديمنا وجديدنا، وعنوان طمعه في الاستيلاء على بلادنا وجبالها وآثارها. وكان الأولى بالألماني أن يتركنا نبكي بسلام تراب هياكلنا الغالي دون أن تأتي يده الضخمة عاملة في ترميم مداخل المعابد، مدنسة ما قدسته دهور البلايا وعززته بلايا الدهور!
دخلت أمشي الهوينا بين كوم الأبنية وبقايا الخرب وحولي الأعمدة المطروحة على الحضيض، كأنها جبابرة وعمالقة، يلامس بعضها بعضاً، ورؤوس الأسود المهشمة تتعانق عناقاً أبدياً. وآثار شعب سابق تختلط بآثار شعب لاحق. وتراب يتراكم فوق الأفاريز المرضضة والنقوش المحفرة. مشيت في عالم من العجائب الفنية وأنا لا أدري كيف قدر الإنسان على إيجاد هذه الجمالات، وأتعجب كيف سطا الزمان عليها فهدمها وجعلها أشبه شيء بغابة هاجمتها العواصف فكسرت منها الأشجار واقتلعت منها الأصول وغادرتها تاركة بعض أغصانها ملقاة على حضيض الهوان.
أين من هذه العظمة قصور عصرنا! فإنها تخال ألغاباً صبيانية شيدت في أوقات فراغ ولهو، فيها الحصا تقوم مقام الحجارة، والأشبار فيها توازي الأميال.
لقد تألبت أعظم شعوب الأرض على هذا الحصن الحصين مهاجمة جدران مجده. فالعرب والرومان ثم العرب ثانية قد خربوا بعض هياكله الفسيحة، وشيد المسيحيون كنيسة على قوائم معابد الأصنام، ثم أصبحت الكنيسة والمعابد حصناً حتى أتت الزلازل مدهورة جدرانه، محطمة عظمته بعد أن هشمتها وأهانتها في وقوفها وارتفاعها يد الإنسان!
لكن آثار المجد لا تزال كامنة في أخربة بعلبك. والروح العصرية تقف مترددة بين السخرية والاحترام عندما ترى أن هذه الهياكل شيدت من أجل آلهة خيالية تضحكنا الآن أسماؤها. وتهبط على القلب تأثيرها متعددة متضادة من خوف وإعجاب وحزن وشفقة وغضب لكن هذه تتلاشى بكليتها وتقوم مقامها عاطفة واحدة تستغرق سائر العواطف، وتضم في قوتها قوى النفس جمعاء، وهي الشعور بعمق السر العظيم، سر الأكوان غير المتناهي.
وهناك على ارتفاع هيكل الشمس تقف ستة أعمدة حاملة إفريزاً كأنه تاج مكسر، ورؤوسها تنحني على وهدة الذل المطروح في أعماق عزها المفتت، وانحناء هذه الأعمدة هو بكاء وتأبين، بل هو التأبين الوحيد الذي يليق بقلعة بعلبك.
على أن ثلوج لبنان تنظر من أعاليها إلى حزن الجماد الدهري وتود
أن تفهم، لكنها لا تفهم. . .
* * *
ألا كسروا باليأس الأقلام وأزيلوا المداد عن الطروس، والجموا الشفاه المتمتمة، وشدوا وثاق الأيدي المتحركة للدلالة والكتابة!
عند هذا الخراب الهائل والتهدم الموجع تفوح رائحة الأكفان، وتتطاير عطور القبور، ويعبق فضاء المخيلة من غيوم البخور المحرق على هذه التي دكتها الدهور!
كسروا الأقلام ومزوقوا الطروس! إن هذا الموقف لا يجوز فيه التأبين إلا بحزن الجماد ولوعة النفوس.
أتأبين الأرواح لازلت للأفئدة مفطراً، ما دامت عبر الزمان تطرح بالجبابرة على حضيض الهوان! أدموع القلوب لازلت محرقة كشعلات النيران مادامت تبتر سلسلة الحياة، وتعتل حركة القلوب!
أآثار الحياة لازلت غالية كزهور الآمال وسواد العيون، مادامت الآمال تذوي بالمتأمل، ومادام سواد الموت يبيض سواد العيون!.
أأعمدة بعلبك لازلت محطمة، صامتة، محزنة مادامت بقايا المنى راقدة في زوايا المهج، وخيالات الآلام والأوجاع هاجعة في طيات الصدور!
إذا كان الدهر يهزأ بهذه الجدران الدهرية، فماذا أنتم من الدهر منتظرون؟ إذا كانت خيالات أقدام الزمان تمر على هذه القوات المشيدة والعظائم المؤيدة فتسحقها سحق الصخر للتراب فماذا تعني بعد ذاك حركة قصبتكم المضحكة، ونقش أوراقكم البالية؟ أين من الأمكنة موضعها،