الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأب كابون وتولستوي أو حكيما روسيا
لقد عرف العالم أجمع تولستوي ومبادئه الفلسفية وقد قرأوا مصنفاته الكثيرة حتى طبق صيته الخافقين، فلم يبق محل إلا وانتشر فيه اسم هذا الفيلسوف العظيم ولا مجلة إلا وذكرت اسم هذا الحكيم بالإعجاب والتكريم. ولكن قليلون هم الذين يعرفون فيلسوف روسيا الثاني الكاهن العظيم كابون. ولذا أحببت أن أنقل لقراء العربية على صفحات الزهور ترجمة حياة هذا الكاهن العظيم وشيئاً من مبادئه السامية التي أدهشت العالم بأسره وخصوصاً الروس وقد عاش بينهم وتألم لآلامهم، الأمر الذي جعله مكرماً ومحبوباً من الفلاحين البؤساء الذين كانوا يعاملون معاملة قاسية تقشعر لهولها الأبدان ويندى منها جبين الإنسانية خجلاً، وأنني أنقل هذا عن إحدى المجلات الأميركية بقلم إحدى سيدات روسيا اللائي لهن القدح المعلى في فن الإنشاء واسمها بريبشكوفسكا.
قالت: لقد خفي اسم هذا الكاهن العظيم قائد فلاحي روسيا يوم ثار ثائرهم من جراء الظلم الذي أصابهم من أصحاب الأملاك. وإن ما يعرف من مبادئ هذا الأب الورع المحروم من الكنيسة لتصرفه تصرف مهيج سياسي لهو أقل من القليل. ذلك لانصراف أفكار الجمهور للمظاهر الخارجية والترهات الباطلة. فسداً لهذا النقص وحباً في نشر مبادئه السامية القاضية على الظلم وذويه، أحببت أن أنشر عنه ما يزيد العموم معرفة به:
إن الأب كابون لم يكن ديموقرطياً ولا اشتراكياً فوضوياً ولا حراً متطرفاً بل كان للفلاحين كما كان تولستوي للإشراف. كلاهما تولستوي وكابون مؤمن بالقوة المبدعة، وكلاهما ينظر للعالم نظر الآسف المتحسر ويعد بذل النفس في سبيل فكر سامٍ شريف ومبدأ قويم منتهى ما يتطلبه البقاء الإنساني.
الأب كابون كتولستوي له اعتقاد ثابت في القوة الأدبية المودعة في الإنسان وفي قوة نفسه الخالدة.
الله والإنسان هما في نظر الفلاح الروسي تقريباً على التوازي وهذا هو السبب في عدم وجود شيء يصعب على الروسي العقلي القيام به. وهذا الاعتقاد يشمل عموم العقليين في البلاد الروسية ولكن معظم هذا الاعتقاد أو هذا العلم علم النفس يظهر باجلى وضوح في حياة بطلي روسيا في هذا العصر. وهاتان الطبيعتان تقصد بذلك تولستوي وكابون مع تشابههما تمام التشابه تظهران لتعمل كل واحدة ما يغاير الأخرى في ذات البيئة والظروف
كلتاهما تطلب راحة الشعب ورفاهيته الراضخ. ولكن بينما نرى الفيلسوف تولستوي يحض الناس على نبذ التباغض وأبطال الحروب والرجوع إلى الطبيعة فيحفظ كل حقه لذاته، نرى الأب كابون يحثهم على العمل والدأب، ويدعوهم باسم الله الأزل للحياة والعمل، ويأمرهم بطلب حقوقهم الموهوبة من القوة المبدعة ولو آل ذلك لامتشاق الحسام وخوض غمرات الحرب والصدام. أما النتيجة
التي يرمي إليها هذان الفيلسوفان فواحدة، وما اختلافهما إلا في الطرق المؤدية إلى هذا النتيجة. فواحد يحلق في السماء ويتيه في التصورات الجميلة والأحلام الذهبية. والآخر ينزل إلى الأرض فيضع نفسه بجانب أخوانه التعساء ويبذل النفس والنفيس ليضع حداً لآلاتهم المبرحة ويجبر قلوبهم المنكسرة. وهو لا يصبر على هذا الضيم ولا يتوانى في إنقاذ إخوانه من الحيف المحدق بهم. ذلك لأنه يرى العار كل العار في أن ينظر إخوانه في البشرية يرزحون تحت نير العبودية، فيتألم لآلامهم فقط ولا يرمي إلى انتشالهم من وهدة سقوطهم. لذا أبت نفسه الشريفة إلا أن تستبيح ما حرمته الحكومة فتثير أفكار الفلاحين عليها ليطالبوا بحقوقهم المهضومة وقد كان يصرخ متألماً إلى السلاح! إلى السلاح! ليها الشعب التعس. حتى م ترضخ للذل؟ ألست الشعب صاحب النصرات القديمة والمجد الأثيل؟ فانزع عنك ثوب خمولك فإنه يحول بينك وبين الحقيقة الساطعة. فارتد ثوب الشجاعة لتحفظ مجداً طريفاً وتعيد عزا تالداً أودت به أيدي الوحوش الضارية وحوش الإنسانية.
أما تولستوي فكان ينادي بأعلى صوته: تألموا أيها التعساء فإن العالم مملوءٌ بالمفاسد، وإن ما يدعونه مدنية وارتقاء لهو الانحطاط بعينه فاصبروا يا من مزقت أفكارهم حجب اللانهاية فعرفت أموراً قصرت عن إدراكها أفكار أقرانهم. واحتملوا الآلام، فإنكم بهذا تنالون السعادة وارجعوا إلى أمكم الطبيعة فإنها أكبر مخلص لكم هذا هو وجه الاختلاف بين هذين الحكيمين وهو ينحصر في الطرق كما ذكرت آنفاً ولا يتناول الغاية
إنه ليصعب على البعيدين عن روسيا الذين لا يعرفون من شؤونها غير ما يقرأون في المجلات والجرائد السياسية أن يتصوروا حالة الفلاح الروسي من حيث مذلته وانحطاطه وتألمه وصبره وقوته العظيمة. لذا أحب أن أظهر من أمرهم ما اختفى ومن أفكارهم ومبادئهم ما توصلت إليه.
إن حالة الفلاح الروسي من حيث ذله وتألمه عن علمها القاصي والداني مما تنشره الصحف لذا أصبح الكلام عليها من قبيل تحصيل الحاصل. أما اعتقاده ومبادئه فأراني مضطرة إلى ذكرها لأنها ما تزل مجهولة بسبب الضغط الشديد وتقييد الصحافة. يقول فلاحو روسيا بأن العدل الله يقضي على الكائنات كلها بالسعادة والسرور دون فارق بين غنيّ وفقير، ويبغي للجميع على السواء الوسائل الآيلة لتعزية قلوبهم. وإنه يحظر عليهم عمل الشر وظلم بعضهم البعض، فلا يغتصب أحدهم حق أخيه ولا يؤذيه في عمله بل يكون له عوناً فيدرأ عنه كل شر مفاجئ. وهذا الاعتقاد عام يشمل عموم الفلاحين في بلادنا وهو قديم ولكنه في هذه الأيام تجاوز حيز القول إلى حيز العمل فصاروا يؤيدونه بالفعل. وقد توسعوا به حتى قالوا أن إلهاً صالحاً براً حكيماً خلق الإنسان من العدم وخلق له الأرض ليعيش فيها آمناً. وما وجدت هذه السهول الواسعة والرياض الجميلة والإحراج والأنهار إلا ليتمتع بها كل فرد فيعمل في السهول على قدر طاقته فلا يعارضه في عمله معارض ولا يهضم حقه أحد فلهذا لا يرهبون الشغل، بل يصلون إناء الليل بأطراف النهار كادّين، مبتهجين بمرأى الطبيعة وعندهم رغبة شديدة في معرفة أحوالها وإظهار مكنوناتها.