الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بعد أسبوع)
مولاي. . . طلبت إلي جان أن أكمل هذه الرسالة وأبعث بها إليك فقد علمت عنوانك ولاشك أنك تود الوقوف على خبر منها. مسكينة جان! إنها تحبك حتى الموت وتزدري العالم كله من أجلك. مضى عليها يومان وهي في غيبوبة لا تشعر معها بشيء وتراني جالسة إلى سريرها أذرف العبرات ولكنني أتجلد قدامها وأتعلل بالآمال. قلت لها أول البارحة إن الطبيب شديد الأمل بشفائك فابتسمت ابتسامة ازدراء وأدارت رأسها على
وسادتها كأنها تقول: أنا أخبر بنفسي من الطبيب حقاً لو تراها اليوم لأدهشك كم قد غيرها الزمان. ليتك تحضر وتشاهدها فلعل رؤيتك تعيد إليها شيئاً من الحياة. . .
(بقلم سليم عبد الأحد)
مدام ستايل
الحرب اليونانية العثمانية
موقعة دوموكوس
يوم 17 مايو (أيار) سنة 1897
عند الساعة الرابعة من صبيحة هذا النهار نبه البوق الجنود العثمانيين، فهبوا من رقادهم، وعكفوا على الصلاة، فكان لهم لغط في غدر ذلك الوادي
الفسيح. ثم مالوا إلى القهوة فكانوا يشربونها، وهم يسرجون خيولهم ويتحدثون، فتبدل لغطهم حينئذ بضوضاء شديدة كان يخالطها ضجيج الفرح لشعورهم بأنهم كانوا يتأهبون في تلك الساعة للحرب والكفاح. أما أنا فسقت جوادي أريد اللحاق بفرقتي نشأت باشا وخيري باشا، لأني كنت قد عقدت النية على أن لا أصف إلا ما أراه بعيني، ولا أكتب إلا عن يقين.
وكانت إلى جانبنا الأيمن طريق دوموكوس التي كنت مزمعاً أن أسلكها مجتازاً في ختامها تلة غير مرتفعة لا يكترث لها. على أنه كان أمامنا في منحدر ذلك التل ممر وعر، ناشز الصخور،
كثير الثلوم كأن الفتى
…
إذا زل يهوي على مبرد
وكان هذا الممر الضيق ينتهي من الجانب الآخر بفرسالا وهو أقرب الطرق إلى ذلك السهل، ولكنه ليس بالسبيل الوحيد إليه لأن
هنالك طريقاً أخرى كان يمكننا أن نسلكها عن جانبنا الشمالي الأقصى وهي ممتدة من فاليستينون على مقربة من الشاطئ البحري إلى خالميروس من حيث تسهل مهاجمة دوموكوس ولكن من ورائها لا من أمامها مواجهة. وكانت خطة الجيش العثماني أن يسر نشأت باشا والحاج خيري باشا بكتيبتيهما الأولى والثانية في الطريق الأولى الوعرة فيهاجمان دوموكوس من الأمام، وأن يمشي ممدوح باشا وحقي باشا بفرقتيهما الثالثة والرابعة متتبعين الطريق الأخرى فيهاجمانها من الوراء بحيث يطوق العثمانيون دوموكوس ويلتفون حولها. أما أنا فاتبعت الفصيلتين الهاجمتين من الأمام!
وصعدنا إلى التل واجتزناه مسرعين حتى إذا دخلنا في الممر الضيق أبصرنا مسيل ماء ينحدر على الصخور الناتئة إلى وادٍ، بينا هو يتسع أمامنا إذا به يضيق كثيراً من الجنوب وقد اخضر زرعه وارتفعت فيه سنابل الشعير ارتفاعاً كثيراً عن الأرض كانت تظهر لنا في وسطه ومن خلاله قبالة أطرافه العالية، قرى كبيرة تحيط بها تلك السهول الخضراء
فتبين لنا كالجزر في البحر. ومشى جنود خيري ونشأت في وسط تلك الزروع فاستولوا على أقرب القرى بدون أن يتكبدوا خسارة ما. وكان رجال المدفعية يطلقون القنابل من خلال سنابل الشعير العالية فلم نكن نستطيع أن نعلم قوة تأثيرها في العدو إلا ساعة كانت تشب النار في مراميها ويصعد اللهيب إلى العلاء ويبين لنا دخان القرى المحترقة كعمود منتصب في الفضاء. أما اليونانيون فأخذوا يطلقون علينا مدافعهم ولكننا
كنا نرى فرسانهم يحثون خيولهم هاربين مسرعين. ولم يكن يعبأ العثمانيون بنيران العدو بل كانوا يتقدمون إلى الأمام وهم لا يطلقون بنادقهم لأن قنابل مدافعهم كانت تكفل لهم وحدها هزيمة اليونان.
وكان هؤلاء قد تكاثر عددهم وتألبت جموعهم حينئذ، غير أن المدافع العثمانية أمطرتهم ناراً حامية فرأينا إحدى كتائبهم قد نكصت على أعقابها وارتدت إلى الوراء تريد الالتجاء إلى دوموكوس. فكان ذلك بدء انهزامهم لأننا ما لبثنا أن رأينا فرقهم تتشتت عن شمالنا، وتحرق القرى والدساكر في طريقها وهي فارة لا تلوي على شيء. وتصاعد لهيب النار حينئذ إلى عنان الجو، وتلبد الدخان في الفضاء فذعرت الطير في أوكارها، وروعت اللقالق في أعشاشها فكنا نراها هاربة خائفة تمر فوق رؤوسنا مرور السهام أطلقت عن القوس.
وكان العثمانيون يتقدمون بسرعة إلى مواقف العد حتى أصبحنا نرى الجيشين مرأى العين. وحينئذ انصلت الفرقتان العثمانيتان فمشت فرقة نشأت باشا بقدم ثابتة في وسط السهل إلى شبه تلة صخرية عالية، وسارت فرقة الحاج خيري باشا إلى الشمال. وكان اليونانيون قد تحصنوا خلف قمم من التراب أقاموها للاحتماء بها فأخذوا يطلقون نيرانهم من ورائها. ووقعت في تلك الساعة قنبلة على قيد خطوتين منا ولكنها لم تنفجر ولم تزحزح الكولونل بوي دلاتور رئيس البعثة السويسرية الحربية الذي كان واقفاً إلى جانبي فالتفت إلي وتبسم ابتساماً معنوياً، ثم تناول علبة طون من جرابه وأشار إلي فتقدمت منه واقتسمناها
معاً. وهي منة له علي لن أنساها أبد الدهر. ثم صعدنا إلى التلة الصغيرة فأشرفنا منها على العسكريين وقد التقيا وجهاً لوجه. ولم تكن إلا دقائق قليلة حتى شبت بينهما نيران معركة طاحنة. وكنا نسمع في الوقت نفسه دوي البارود، ونرى تفجر القنابل من الجانب الآخر حيث كان قد سار خيري باشا برجاله.
ولما طال أمد المعركة وقد صمت آذاننا، وغشا الدخان عيوننا أبصرنا فريقاً من المشاة العثمانيين هاجماً على قلب العسكر اليوناني وقد أخذ اليونانيون يصوبون رصاصهم عليه وهو سائر غير مكترث. فما هي إلا هنيهة حتى تزحزح اليونان عن مراكزهم وارتدوا إلى الوراء. وكانت طلقات البنادق المتواصلة حينئذ أشبه بقرقعة الآلة الكاتبة تكتب عليها يد خفيفة رشيقة.
وحدقنا بأبصارنا إلى جهة اليونانيين فرأينا إحدى الفرق قد غادرت مركزها في القلب حيث هجم العثمانيون وولت الأدبار منهزمة إلى جهة دوموكوس. ولكن ضابطاً يونانياً خف إليها فردها إلى مواقفها.
أما فرقة الحاج خيري باشا فإننا لم نرها ولم نعرف أخبارها إلا حين صرنا نرى اليونانيين يفرون من قدامها إلى الجانب الأيسر المحاذي للتل الذي كنا واقفين عليه. فتحققنا حينئذ أن النصر تم أو كاد يتم للعثمانيين.
وفي تلك الساعة وصلت إلى ساحة القتال فرقتان لإنجاد العثمانيين أرسلهما أدهم باشا فانضمتا إلى خيري باشا وعززتا موقفه.
وأبصرت أدهم باشا حينئذ راكباً جواداً صغيراً هزيلاً وهو رجل
ذكي الفؤاد رزين بارد الطبع، وقد تقدم منه أحد الضباط طالباً إليه أن يصدر أوامره بالهجوم على الأعداء ولكنه لم يجاوبه بل تبسم ثم التفت إلى ضابطين واقفين حذاءه فأسر إليهما كلمتين فهمنا بعدئذ معناهما إذ أبصرنا فرقتي ممدوح باشا وحقي باشا قد ظهرتا للعيان وأتمتا حركة الالتفاف حول دوموكوس.
وأصبح اليونانيون حينئذ تحت رحمة العثمانيين إذ طوقتهم هؤلاء من الجهات الأربع. فلما تبينا هذه الحقيقة تقدم الملحق العسكري الألماني من أدهم باشا وقال له: إنك تستطيع يا حضرة القائد أن توجد في هذا المكان معركة سيدان أخرى فإن اليونانيين كما ترى قد أخذوا في الشبكة ولن يستطيعوا الانفلات منها فسكت أدهم باشا ولم يكترث لما قيل له. فقلت في نفسي حينئذ أن هذه الحرب إنما تجمع بين السياسة والحرب معاً. فالعثمانيون كما يخيل إلي لا يريدون التمادي في القساوة والضغط على اليونانيين لكيلا يثور عليهم الرأي العام في أوروبا وإلا لكانوا قادرين أن يفعلوا أضعاف أضعاف ما فعلوه.
* * *
ولما أصبح الصباح التالي كان العثمانيون قد بلغوا منتهى آمالهم. وقد أشرفت طلائعهم على لاميا بلاد اليونان الحقيقية، ووطنهم الأصلي القديم. وكان الألبانيون أولئك الشجعان الصناديد لا يزالون يطلقون بنادقهم على العدو الذي كان قد ربط في رؤوس بنادقه المناديل البيضاء كأنما كان يريد أن يقول: رحماكم فإن الصلح قد تم.
هكذا انقضت هذه المعركة، بل هكذا انقضت هذه الحرب التي لم تكن إلا أشبه شيء بمأساة تمثيلية مثلت سهول فرسالا آخر فصولها المحزنة.
بيار ميل
مكاتب جريدة الديبا الحربي
وبعد هذه التفاصيل المنقولة عن شاهد عياني نروي الأبيات الآتية لشوقي بك من قصيدته العصماء التي وصف فيها تلك الحرب أبلغ وصف، قال في الهزيمة:
ونادى منادٍ للهزيمة في الملا
…
وإن منادي الترك يدنو ويقرب
فأعرض عن قواده الجند شارداً
…
وعلمه قواده كيف يهرب
وطار الأهالي نافرين إلى الفلا
…
مئين وآلافاً تهيم وتسرب
نجوا بالنفوس الذاهلات وما نجوا
…
بغير يد صفر وأخرى تقلب
يسير على أشلاء والده الفتى
…
وينسى هناك المرضع الأم والأدب
وتمضي السرايا واطئات بخيلها
…
أرامل تبكي أو ثواكل تندب
فمن راجل تهوي السنون برجله
…
ومن فارس تمشي النساء ويركب
يكادون من ذعر تفر ديارهم
…
وتنجو الرواسي لو حواهن مشعب
يكاد الثرى من تحتهم يلج الثرى
…
ويقضهم بعض الأرض ويقضب
تكاد تمس الأرض مساً نعالهم
…
ولو وجدوا سبلاً إلى الجو نكبوا
هزيمة من لا هازم يستحثه
…
ولا طار يدعو لذاك ويوجب