الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألفرد ده موسه
أذكريني كلما الفجر بدا
…
فاتحاً للشمس قصر الذهب
وأذكريني كلما الليل مضى
…
راكضاً بين جنود الشهب
وإذا ما صدرك ارتج على
…
نغم اللذات وقت الطرب
أو دعاك الظل يا مي إلى
…
لذة الأحلام عند المغرب
فاسمعي من داخل الغاب صدى
…
صارخ فيه يناديك أذكري
أذكريني إن غدا صرف القدر
…
فاصلاً ما بيننا للأبد
يوم لا تبقي الليالي والعبر
…
من رجاء لفؤادي الكمد
وأذكري حباً به قلبي انفطر
…
ووداعاً ذاب منه كبدي
وإذا الحب على القلب انتصر
…
غلب البعد وطول الأمد
وأنا ما عشت يكفيني خبر
…
منك والقلب يناديك أذكري
أذكريني عندما ألقى المنونا
…
ويضم الترب ذا القلب الكسير
عندما تفتح للفجر الجفونا
…
زهرة القفر على قبري الحير
لن تري من بعدها ذاك الحزينا
…
إنما نحوك روحي ستطير
وبها أبقى على العهد أمينا
…
جاعلاً حبك لي خير سمير
واسمعي من جانب القبر أنينا
…
هاتفاً في ظلمة الليل أذكري
هذه أبيات عربها عن الإفرنسية حضرة الدكتور نقولا أفندي فياض، ولا شك في أن هذه القصيدة عصرية الفكر واللهجة لأنها نظمت سنة 1842 وقد وضع لها ألحاناً تناسب معانيها الشجية بعض الموسيقيين
وأجمل هذه الألحان وأحبها إلى عشاق البيانو والكمنجة - لأنها أكثر وقعاً في النفس - نعمة ابتكرها الموسيقي الإرنسي جورج روبيس.
وناظم هذه الأبيات بالفرنسوية هو الذي يسميه الفرنساويون شاعر الشبيبة. هو ذاك الذي لا ينساه أبداً من قراه مرة، بل كلما قلب صفحات بعض الكتب الغزلية تعود إليه تلك المعاني البديعة، والتعبيرات المحزنة التي تصدع القلوب، فيكاد يرى ما بين يديه من القصائد، إذا ما قابل بين هذه وتلك، سبك أسجاع فارغة، وتلاحم اصطلاحات لغوية وكتابية ثقيلة، وثرثرة جالبة الصداع لفقدانها معاني العواطف، وعجزها عن إظهار آثار الآلام الروحانية.
يلقب القارئ صفحات الكتاب فتحول بين نظره والمجلد صورة الشاعر الفتى: رقة في الجسم ورقة في الشعور، خيالات أحلام متتابعة تجول في مياه العينين الصافيتين، علامات الذكاء الوقاد مرسومة على الجبهة الجميلة تحت طيات الطرة الذهبية، وعلى الشفة تحوم شبه ابتسامة، مزيج هيام ومرارة. . .
هو فتى العذابات والدموع الذي عندما تذكره يتبادر إلى ذهنك اسما بايرن الإنجليزي وادجر ألن بور الأمريكي. لأن في كتابات هؤلاء الثلاثة شيئاً من المشابهة والمقارنة، وكثير من شعب تخيلاتهم تتلامس في سماء الغزل، كما أنك تجد في حياة كل منهم ظروفاً ومميزات تجعله أشبه بالآخر برغم سكناهم بدلاً تختلف باللغة والتقاليد.
قيثارة ساحرة أوتارها العواطف، وأغنيتها النوح، وقرار هذا النوح
قروح القلب، شاعر الشبيبة في كل آن ومكان ألفرد ده موسه من لا يعرفه ولو بالاسم على الأقل؟
ولد ألفرد ده موسه في باريس سنة 1810 وتلقن دروسه في مدرسة هنري الرابع حيث امتاز على سائر أترابه بحدة ذكائه وقوة شاعريته. وبعد خروجه من المدرسة اخذ يدرس الشريعة ثم الطب. لكن مشاكلات المهنة الأولى والمنافرات التي لابد منها فيها، وشناعة التشريح وكراهته في المهنة الثانية أحدثت نفوراً في روحه الشديدة التأثر فعدل عنهما، وصار يمضي أكثر أوقاته في جنائن باريس وضواحيها حيث يختلي بذاته ويطلق العنان لتأملاته ويهيم ساعات طويلة في عالم الخيالات والأحلام.
وكان إذ ذاك فريق من الأدباء والشعراء الإفرنسيين قد ألفوا جمعية دعوها سناكل الغرض منها العمل على ترقية الشعر وتسهيل بعض الصعوبات التي تقيد فكر الناظم وتحدد حرية قلمه. وكان شاعر فرنسا الكبير فكتور هوغو رئيس تلك الجمعية. فدخلها موسه ولاقى فيها ما تتوق إليه نفسه من التحكك بمثل هذه النفوس السامية، والعقول الراقية، والقلوب الرقيقة. لاقى شعراء مثله، وذكاء مثل ذكائه. ومحاورات أدبية فنية مفيدة، وأصدقاء يفهمون طبيعته وأخلاقه ويقدرونها حق قدرها، بالنسبة لاشتباك مجانسات تخيلاتهم ومطالبهم. ولا شيء في الدنيا يشبه الروح الذكية أكثر من روح أخرى ذكية، والعكس بالعكس.
دخل موسه في جمعية كان هو أصغر أعضائها سناً، إذ لم يكن له من العمر سوى ثماني
عشرة سنة، فسعد حيناً. وكان الجميع يدعونه تحبباً
بنيامين أو الفتى الهائل ' فكتب قصائده الأولى متقلداً فيها تارة الشاعر الفرنسي اندره شنيه، وطوراً فكتور هوغو ذاته، وعرب في الوقت نفسه عن الإنجليزية كتاب تومس دوكنسي المعنون اعترافات أفيوني -
ولما لم يكن والد الفتى الشاعر راضياً عن حياة ولده على هذه الكيفية التي لا فائدة منها - على زعمه -، أراد أن يضعه في وظيفة تضمن له سعادة مستقبله المادية، لكن ألفرد لم يرد تضحية حريته العزيزة، وإضعاف ذكائه الفريد، واستعداداته الأدبية في مثل هذه الأشغال الاعتيادية. فأبرز إلى عالم القراءة مجموعة أشعاره الأولى، وكان عمره نحو عشرين عاماً. فكان لظهور هذا الكتاب دوي عظيم بين ذوي الأقلام، وانتقدته الجرائد، وذمه الناقدون وسخط على مؤلفه أعضاء الجمعية لأنهم رأوا أن بنيامينهم شط عن الخطة المحدودة، غير مبالٍ بقوانين النظم عندهم، وهم لم يكونوا نفوا تماماً قواعد الشعر المدعو بالكلاسيك وكانت منظومات ده موسه تضرب كلها على نغمة جديدة لم يسبقها تمهيد في تاريخ الآداب الفرنساوية. وقد اتبع هذه الخطة شعراء فرنسا مدة حتى أتى ادمون روستان فكان آخر هذه الفئة، وزارع بذور الشعر الحالي الذي ينعتونه بالمائل إلى الزوال وذلك لأن شعراء العصر يتصرفون بالأفكار والتخيلات والأوزان والأسجاع بحرية لم يسمع بمثلها من ذي قبل. وترى كثيرين يتعجبون كيف ضمت الأكاديميا الفرنسوية إلى أعضائها
منذ شهرين تقريباً أحد هؤلاء الشعراء، وهو هنري ده رنييه.
لم يبال ده موسه بالنقد والناقدين بل اكتفى برضى السيدات عن أشعاره، وإعجاب الشبيبة الفرنساوية بمنظوماته. فانفصل عن أعضاء جمعيته انفصالاً تاماً، ولم تضم سنة حتى نشر قصيدة أخرى اتبعها بمنظومات متعددة، لم يفهم قيمتها أبناء تلك الأيام إلا القليلون منهم. ولما كان في الثالثة والعشرين من عمره اجتمع بالكاتبة الشهيرة جورج ساند، وكانت هذه تكبره بخمس سنوات تقريباً، وقد مثلت هذه المراة النابغة دوراً مهماً مؤلماً في حياة الفرد ده موسه، وكان تأثير ذكرها في كتاباته عظيماً جداً حتى أنك تكاد لا تقرأ شيئاً مما كتبه بعد التقائه بها، إلا وترى فيه رمزاً يدل عليها. تحكك ذكاؤه بذكائها، وناهضت قواه الأدبية قواها، فأحدث هذا التحكك وهذه المناهضة، بين هذين النابغتين، شعلة محرقة، كما يحدث
في تلامس الأسلاك الكهربائية. وكادت هذه الشعلة تذهب بحياة الشاعر فأدرك الخطر وابتعد عنها ابتعاداً كلياً (1835) لكن ذكرها تبعه كيفما توجه. فنظم كتابه إلى لامارتين ولياليه وهو يعينها دائماً، وهذه القصائد تعد من أبجع وأرق ما كتب بالفرنساوية في هذا الباب.
وكانت أيام ألفرد ده موسه الأخيرة معذبة تعسة، حتى سئم الحياة وأضحى ينتظر الموت بفروغ صبر، وتراكمت الأمراض على جسمه فأعيته وسحقت، او وزادت في سحق فؤاده. وظل على هذه الحال حتى وفاه القدر في سنة 1859، فتوفي على أثر مرض في القلب، ولا عجب أن يموت
شاعر القلوب من علة من قلبه. وآخر كلمات لفظها تدل على كثرة أحزانه وكرهه الحياة إذ قال: سأنام عن قريب والحمد لله!.
وكانت الكاديميا الفرنساوية انتخبته عضواً في سنة 1842 كما انه ظل سنين طويلة أمين خزانة الكتب في نظارة المعارف، ولا يخفى ما في هذين المنصبين من الشرف الذي يتمناه كثيرون لأنفسهم، لكن ألفرد ده موسه لم تكن تغره الظواهر الفارغة.
وقد كتب ما عدا منظوماته البديعة - وكان معاصرون يتهمونه بنقلها من منظومات لورد بايرن الشاعر الإنكليزي - مجلدات نثرية متعددة، وروايات تشخيصية أجاد فيها. فادعوا أيضاً أنها مسروقة من كتابات أدجر ألن بو والشاعر والكاتب الأمريكي. وهذا شأن الحساد دائماً، فهم يتهمون الممتاز عنهم بما يتصورونه ضده.
لا، ألفرد ده موسه لم ينقل عن احد، وأعظم فضيلة فيه كانت فضيلة الإخلاص. لكن حياة كل من هؤلاء الثلاثة كانت تعسة جداً، كأنه سبحانه وتعالى يبخل بالماديات على الذين أغناهم بالأدبيات، فإن معظم الرجال الكبار كانت حياتهم مفعمة بالأوجاع المتنوعة، مما لا تذوقه الأرواح الاعتيادية، والعقول الساذجة، ولا عجب في ذلك.
هذه نظرة عامة في حياة ناظم أذكريني فأفتكر به أيها القارئ ولو برهة، وارث لحاله، وقل معي: سلام عليك أيها الراقد تحت الصفصافة! سلام ورحمة!.
(مصر) مي
الزهور: سنقول كلمة عن الأديبة التي أتحفتنا بهذه المقالة في باب ثمرات