المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌رواية الشهر الملك المسروق حكى الكاتب قال: جلست إلى السفير بعد طعام العشاء - مجلة «الزهور» المصرية - جـ ٢

[أنطون الجميل]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 12

- ‌السنة الثانية

- ‌إيماءة زائر

- ‌في حدائق العرب

- ‌الأب كابون وتولستوي أو حكيما روسيا

- ‌نحن وهم

- ‌في رياض الشعر

- ‌لاعب القمار ومدمن الخمر

- ‌بين القصور والأكواخ

- ‌تمدن المرأة العصرية

- ‌أحسن مقالة وأحسن قصيدة

- ‌في جنائن الغرب

- ‌جرائدسوريا ولبنان

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌عشرة أعداد الزهور

- ‌أزهار وأشواك

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 13

- ‌كل مياه البحر

- ‌إيماءة زائر

- ‌بين هدى وأدما

- ‌الحيدرية

- ‌الجرائد والمجلات في مصر

- ‌في جنائن الغرب

- ‌الطالب البائس

- ‌رثاء إمام

- ‌أنا قاتل عصفوري

- ‌في رياض الشعر

- ‌جرائد سورية ولبنان

- ‌أزهار وأشواك

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 14

- ‌زهرة الشباب

- ‌إلى السراية الصفراء

- ‌أيها البدر

- ‌في حدائق العرب

- ‌خطاب

- ‌الفتاتان

- ‌حول تمدن المرأة العصرية

- ‌في جنائن الغرب

- ‌في رياض الشعر

- ‌المراسلات السامية

- ‌يا أيها الريح

- ‌عناصر الجنس المصري

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 15

- ‌الزهور في عهدها الجديد

- ‌لو

- ‌عواطف وآمال

- ‌نظرة إشراف عام

- ‌صحافة سورية ولبنان

- ‌في جنائن الغرب

- ‌في رياض الشعر

- ‌رسائل غرام

- ‌رشيد بك نخلة

- ‌انت

- ‌أفكار وآراء

- ‌أحسن مقالة وأحسن قصيدة

- ‌أزهار وأشواك

- ‌تمدن المرأة العصرية

- ‌مولود عجيب

- ‌ثمرات المطابع

- ‌رواية الشهر

- ‌آثار العباسيين في بغداد

- ‌العدد 16

- ‌تتويج ملك الإنكليز

- ‌في جنائن الغرب

- ‌نظرة إشراف عام

- ‌رسائل غرام

- ‌التعليم الإجباري

- ‌في رياض الشعر

- ‌في حدائق العرب

- ‌ألفرد ده موسه

- ‌الغناء العربي

- ‌ثمرات المطابع

- ‌إلى قراء الزهور

- ‌العدد 17

- ‌العودة

- ‌لم أجدها

- ‌حالة العلم في نجد

- ‌في جنائن الغرب

- ‌حديث القلوب

- ‌سياحة في إسبانيا

- ‌أين أريد بيتي

- ‌في رياض الشعر

- ‌مدارس البنات

- ‌أحمد عرابي

- ‌أزهار وأشواك

- ‌ثمرات المطابع

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 18

- ‌الأعلام العربية

- ‌في منازل الأموات

- ‌الشعر

- ‌رسائل غرام

- ‌الحاجة

- ‌حقائق

- ‌في جنائن الغرب

- ‌في حدائق العرب

- ‌الحقائق عندهم

- ‌في رياض الشعر

- ‌الزهور السياسية

- ‌السنوسيون

- ‌الوصايا العشر

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌قوة تركيا وإيطاليا

- ‌اللورد أفبري

- ‌العدد 19

- ‌المطر

- ‌محاكم الأحداث

- ‌رسائل غرام

- ‌الحرب اليونانية العثمانية

- ‌الأستاذ مرغليوث

- ‌في حدائق العرب

- ‌في رياض الشعر

- ‌حلب الشهباء

- ‌المعلوم والمجهول

- ‌أزهار وأشواك

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 20

- ‌حول السنة الجديدة

- ‌البرد والصحة

- ‌وصف غرق

- ‌بينهما

- ‌ذكرى بعلبك

- ‌رسائل غرام

- ‌غرائب امريكا

- ‌في رياض الشعر

- ‌رصاص دم دم

- ‌محاكم الأحداث

- ‌أزهار وأشواك

- ‌من كل حديقة زهرة

- ‌ثمرات المطابع

- ‌رواية الشهر

- ‌العدد 21

- ‌حلم ويقظة

- ‌محادثة شبح

- ‌شيء عن الفن

- ‌في جنائن الغرب

- ‌رسائل غرام

- ‌الشعر

- ‌في رياض الشعر

- ‌سادوم وعامورة

- ‌محاكم الأحداث

- ‌ثمرات المطابع

- ‌أزهار وأشواك

- ‌جرائد جديدة

- ‌ختام السنة الثانية

الفصل: ‌ ‌رواية الشهر الملك المسروق حكى الكاتب قال: جلست إلى السفير بعد طعام العشاء

‌رواية الشهر

الملك المسروق

حكى الكاتب قال:

جلست إلى السفير بعد طعام العشاء وقد ملأ كأسي ثم ملأ كأسه من الكونياك اللذين الذي كان قد اعتاده، واتكأ في مقعده مسنداً رأسه على شماله، ومشعلاً في يمناه سيكاراً طيب النكهة كان يرسل دخانه دفعةً إثر دفعة فتفوح منه رائحة ذكية. وكنت صامتاً أنظر إليه محترماً سكوته فلم أشأ أن أبادئه الحديث حتى رأيته قد مد يده إلى الكأس فتجرعها ثم ملأها والتفت إلي وقال:

- من الأسف أن يظل تاريخ أوروبا السري مكتوماً عن الناس لم يدونه الكتاب ولم ينشروه!

فقلت متعجباً: أو لأوروبا إذن تاريخ سري غير معروف؟

فأمال السفير رأسه إلى الوراء، وامتص مصة طويلة من سيكاره ثم نفخ دخانها وقال:

- أو ترتاب في ذلك؟ إن البرنس بسمارك لم ينشر رسالته البرقية التي هاجت الحرب الفرنساوية الألمانية إلا منذ أيام خلت فهو قد خبأها نحواً من عشرين سنة. فالتاريخ السياسي الحديث مملوء حوادث جهلها إبان حدوثها هذا البارون روتر المسكين فبقيت سرية غامضة. أما الصحف فاكتفت بالقشور دون اللباب!

- ولكننا يا سعادة السفير - وكنا في باريس - يجب أن لا ننسى أن الرسالة البرقية يسهل كتمانها. وأما الحوادث الجلى. . .

- رويدك يا سيدي ولا تتعجل في حكمك! أمل يتصل بك مثلاً نبأ المرض الوهمي الذي أصاب ملك إسبانيا في حداثته؟

- المرض الوهمي؟

ص: 157

- وبعبارةٍ بسيطةٍ تلك الإشاعة القائمة يومئذ أن ألفونس الثالث عشر أصيب بداء معديٍّ خطر، وإنه لزم سريره في غرفته فلم يكن يسمح له بالخروج، ولا يؤذن لأحدٍ بالدخول عليه؟

- بلى أنا أذكر ذلك ولكن. . .

- ولكن الملك الصغير كان سليماً معافى! وأما أخبار الصحف فكانت كاذبةً ولم يكن يقصد منها إلا ذر الرماد في العيون فيعمى الناس عن الحقيقة التي لو عرفت حينئذٍ لأقامت إسبانيا وأقعدتها. إن ألفونس الثالث عشر لم يكن مريضاً في ذلك العهد ولكن مسروقاً!!

وكان السيكار قد احترق إلا بعضه فرمى السفير بعقبه إلى صحيفة فضية وأطفأه فيها ثم تناول آخر فأشعله وعاد إلى حديثه فقال:

- إذا شق عليّ أن أحدثك بخبر هذه الواقعة فلأني لعبت فيها الدور الأهم. فأنا أخاف أن يظن بي حب الإثرة والتباهي وذلك ما أأباه! لا تحن رأسك يا سيد فإني أقول ما أتيقنه!

- عفوك يا سعاد السفير! وكيف كان ذلك؟

- منذ خمس عشرة سنة نشرت الصحف الأوروبية نبأ خلاصته إن داءً عقيماً معدياً أصاب الملك الصغير فلزم غرفته ولازمته الملكة أمه واثنان من الخدمة الأمناء ولكنهما لم يكن يؤذن لهما بمخالطة أحد في القصر. وكان الأب أوليفا مربي الملك، والسنيور جويستالا رئيس الوزارة يومئذٍ الشخصين الوحيدين اللذين كان يباح لهما أن يعودا المريض. أما حكاية هذا المرض فكما سترى:

كانت الحكومة الإسبانية قد عزمت على الاحتفال باستعراض عسكري إكراماً لعيد القديس يعقوب شفيع إسبانيا، وقد أعلنت أن الملك والملكة أمه سيحضران الحفلة. وكان شعب مدريد قد تهافت في ذلك اليوم إلى الساحة الكبرى أمام القصر الملكي حيث وقف الجيش على أتم أهبةٍ وانتظام يرقب طلعة الملك عليه فيحييه ثم يبتدئ الاحتفال.

ص: 158

ففي صبيحة العيد وردت على الملكة رسالة مكتوبة على غلافها لفظة مستعجل ومختومة بطابع البريد من مدينة بامبلون. وإنك لتعلم أن فريقاً من الشعب الإسباني كان قد بنى آماله على موت ألفونس الثاني عشر بدون عقب ذكر ليولي على العرش الدون كارلوس. فلما ولد ألفونس الثالث عشر لم تذهب تلك الآمال لأن الدون كارلوس ما فتئ يطالب بالعرش لأسبابٍ شتى لا أرى فائدةً من ذكرها، ومثلك كاتباً صحافياً لا يجهلها. أما بامبلون هذه - وقد دلتني أمائر وجهك على أن ذكرها أثر فيك تأثيره في الملكة يومئذ - فهي مقر الكارلوسيين ووسط هذه الشيعة السياسية! فلما فضت الملكة تلك الرسالة وجدتها خلواً من التوقيع ولكنها قرأت فيها أن مؤامرة سرية قررت اغتيال الملك الصغير وعينت موعداً

للفتك به في يوم عيد القديس يعقوب، ومكاناً لارتكاب الجناية ساحة الاستعراض العسكري في ذلك العيد. فأطلعت الملكة الأب أوليفا على الرسالة فرأيا معاً إبقاء الملك في القصر وخروج البرنسس دزاستوري شقيقته البكر إلى ساحة الاستعراض بالنيابة عنه. أما ألفونس فاستاء كثيراً فألهاه مربيه بلعبةٍ تمثل فيلقاً من الجند مصطفاً في شبه ساحةٍ للقتال. ثم كان موعد الاحتفال فزايلت الملكة القصر إلى حيث الجيش والشعب ولازم الأب أوليفا تلميذه الصغير في كل صباح. ولكنه ما انقضت ساعة على ذلك حتى دخلت ساحة القصر عربة مقفلة تقل ضابطاً لابساً لباس جنرال إسباني وآخر كان يظهر بصفة أركان حرب. وأعلن الأول نفسه باسم الجنرال اسبينوزا رسول الملكة إلى الملك فأدخله الحجاب تواً إلى حيث ألفونس الصغير ومربيه.

وقطع السفير حديثه هنيهةً فقلت مستفهماً: عفوك يا مولاي وهل كان يوجد جنرال إسباني بهذا الاسم؟ فمد السفير يده إلى شاربيه ففتلهما بين السبابة والباهم وقد صعدهما إلى أعالي وجنتيه ثم قال:

نعم! غير أنه كان يقود في ذلك العهد الفرقة المعسكرة في برشلونة. مهلاً رويداً فإنك ستعلم كل شيء.

ص: 159

فلما مثل الجنرال بين يدي الأب أوليفا والملك الصبي قال لهما إن الجيش تظاهر بالاستياء لغيبة الملك فخشيت الملكة حدوث أمر ذي بال فأنفذته إلى القصر ليستصحب ألفونس الثالث عشر إلى ساحة الاستعراض. وكان الجيش في تلك الأيام الآمر الناهي في إسبانيا فلم يخامر الأب أوليفا ريبٌ في كلام الجنرال فهمّ إلى قبعة الملك فوضعها له على رأسه وأوعز إليه بالذهاب فوراً. وكان ألفونس في السابعة من عمره فقفز درج القصر قفزاً شأن الصغار إذا دعوا إلى ما يحبون، وركب في العربة المقفلة وإلى جانبه الجنرال اسبينوزا وأمامهما الضابط الآخر.

ولما عادت الملكة إلى البلاط على أثر الاستعراض استقدمت ولدها إليها فهب الأب أوليفا مرتبكاً وقص عليها ما كان. ففهمت جلالتها أن ألفونس إنما انتشل انتشالاً من قصره لأن الجيش لم يتظاهر بالاستياء المزعوم فهي لم تستقدمه إلى الحفلة قط. تصور يا سيدي إذن الألم الذي أحست به الملكة كريستيانا سليلة هابسبورج تلك المرأة التي كانت تخبئ تحت

عظمة الملك وأبهة التاج حنان الأم الرؤوف، وشغفت الأرملة ببنيها. إنني تشرفت بمعرفتها وقوبلت مراراً في مخدعها الملكي فما ظننت قط أن تلك الملاحة الخلابة، وذلك الجلال الباهر يلينان للحزن الوالدي حتى حده الأقصى. وكانت جلالتها حينئذ في موقفٍ حرج فاستشارت السنيور جويستالا فأشار بوجوب كتمان الأمر كل الكتمان مخافةً أن يغتنم الكارلوسيون تلك السانحة، أو يستفيد الجمهوريون من تلك الفرصة فتسود الفوضى، وتكون في المملكة من أقصاها إلى أقصاها ثورة لا تحمد عاقبتها. إن مخافة هذه الفوضى خلقت ذلك المرض الوهمي الذي أشرت إليه فزعمت الملكة أن ألفونس أصيب فجأة بداء عقيم، وإنه حجر عليه في غرفته، ورددت الصحف هذه المزاعم فعكف الشعب على الصلاة وبكر إلى الكنائس يتشفع القديس يعقوب!

* * *

وتوقف السفير هنيهةً عن حديثه فتناول كأسه وابتلع ما فيها دفعة واحدة، وأشعل سيكاراً جديداً وأشار إلي بأن أشرب فامتصصت مصةً من كأسي عملاً

ص: 160

بإشارته. ورأيته قد أمرَّ يده على جبينه ففركه قليلاً والتفت إلي فقرأ في عينيّ معنى الاستزادة والرجاء فتمجد في مجلسه وفتل شاربيه ثم تنحنح وعاد إلى حديثه:

أود إليك يا سيدي أن تعذرني عن متابعة حكايتي فقد بلغت فيها الآن حيث بدأ دوري بالعمل وأنا لا أريد أن أتباهى بأعمالي وإنما يكفيك أن تعلم أن الحظ أسعد إسبانيا بوجودي يومئذ في مدريد ولولاي لكان في تلك المملكة ما كانت المملكة في غنىً عنه. فدنوت بكرسي قليلاً من مقعده وتململت كمن ذهب صبره وقلت: كلي إصغاء إليك يا سعادة السفير. غير أن لي سؤالاً أستفيد جوابه. إنك كنت في مدريد في ذلك العهد فكيف كان ذلك فأنا لا أعهد أن سعادتك تقلدت السفارة في تلك العاصمة؟

فقطب سعادته جبينه وأليس وجهه هيئة الرزانة والوقار وقال: لا لم أكن سفيراً هنالك ولم تكن لي مهمة سياسية قط. فلا توقف علي في السؤال لأن من الأمر سراً أود كتمانه وغنما حسبك أن تعرف أنه كان لإحدى الأوانس الفاتنات دخل في وجودي يومئذ في عاصمة الإسبان.

فأحنيت رأسي احتراماً واعتذرت عن هفوتي بما حضرني ثم قلت وأنا أفرك كفاً بكف.

عفوك يا سيدي فقط قطعت عليك حديثك. فتبسم تبسمة من فهم براعة الطلب فارتحت إلى رضاه وسكت فقال:

هذا ما كان من أمر الملك والملكة: وأما أنا فلما أتاني أن ألفونس مريض وقد كنت أحبه ويحبني ويهفو إلي حين يراني أبرقت إلى باريس إلى أميل جيرولت وشركاه أن يرسلوا إلي أثمن وأجمل لعبة في مخزنهم المشهور وقد وصلتني في اليوم الرابع وهي تمثل فارساً مغربياً متقلداً سيفه ومعتقلاً رمحه وممتطياً هجيناً يتحرك بلولب فيمشي متثاقلاً.

وحملت اللعبة إلى القصر فلما قرأت جلالة الملكة كلمة ضروري على بطاقة زيارتي أمرت فوراً بإدخالي إلى الحجرة المحاذية حجرة الملك الصغير. وكانت سلسلة هابسبورج قد أخذ الحزن مأخذه منها، وتولاها اليأس وساورتها الهواجس

ص: 161

والرؤى غير أنها ما برحت حافظةً عزتها وكبرها؟ فلما مدت يدها مسلمةً قالت بالفرنساوية وهي تتكلف الرقة: أي داعٍ أتى بك إلينا يا حضرة البارون؟ فانحنيت ثم أجبت بالإسبانية وأنا أحسن هذه اللغة: نبئت أن جلالة الملك مريض فأتيت أعوده حاملاً إليه هدية تؤنسه في وحشته. وأني لأرجو أن أنال الحظوى في عينه فأسليه في بلواه ولست أخاف العدوى فأحجم عن القيام بالواجب.

وكنت أتكلم محدقاً في عيني جلالتها فلم تفتني معاني الحيرة فيهما فلما سكت قالت: يسوءني يا حضرة البارون أنني لا أتمكن من قبول التماسك فإن جلالته لا يستطيع مقابلة العواد. على أنني أعدك أنني لا أكتمه حديث لطفك ومروءتك متى تم له الشفاء. فقلت وقد بسطت بين يدي جلالتها اللفافة المتضمنة اللعبة: سمعاً وطاعة! لا أخال أني صديقي ألفونس مريض إلى حد أنه لا يستطيع التسلي بمثل هذه اللعبة الجميلة. حنانيك يا مولاتي فلا تمنعي عنه فرحه بي، ولا تمنعي ابتهاجي برؤيته! فحولت الملكة وجهها عني، ولوت رأسها ثم مدت يدها بمنديلها إلى عينيها تنشف لؤلؤتين صافيتين أبرقتا فيهما.

أسليلة هابسبورج تبكي؟ إن الملكة كريستيانا أرملة ألفونس الثاني عشر، وأم ألفونس الثالث عشر ملك إسبانيا نسيت عظمة الملك وفخفخة التاج، وعزة الصولجان، فرأيتها حينئذ أماً لا ملكة وكانت تلك الدموع دموع الأمومة لا دموع الملك!

فتقدمت من جلالتها جازعاً مرتبكاً وأنا أقول: رحماك يا سيدتي! أتراني ارتكبت إثماً بإلحاحي إلى هذا الحد فعفوك إذن عني! فمالت إلي وأمسكت بيدي قائلة بل أتيت كل جميل

وما قلت غير ما أشكرك عليه. إنني اعلم وفاءك فإذا بحت لك بالسر الذي يبكيني فلأني أعتقد بشرف خلقك: إن ألفونس لا يتمكن من قبول هديتك لأنه ليس في حجرته فقد انتشل من هذا القصر منذ أربعة أيام.

فصعقت في مكاني وهالني الأمر جداً ولكنه لم يذهب بثبات عزائمي، وحدة ذهني فلفت إلى جلالتها لفتة السائل المستفيد فأومأت بأن أجلس وجلست على مقربة مني، ثم قصت علي الحكاية كما قصصتها الساعة عليك. وزادت أنها أوعزت إلى

ص: 162

البوليس السري باقتفاء أثر العربة المقفلة التي دخلت القصر في صباح العيد وخرجت منه بالملك الصبي. غير أن البوليس لم يعلم قط أن ذلك الصبي المنتشل كان ألفونس نفسه. وكنت أسمع حديثها بإصغاء وانتباه شديدين فلما جاءت على آخر القصة أبرقت عيناي ولم يفتها بريقهما فنظرت إلي مستغيثة فقلت: علي يا سيدتي بالأمر فأرد إليك الملك المسروق في خلال خمسة أيام. فانتفضت في مقعدها انتفاض قلبها في صدرها وإنما الأم بعض حياة البائس رد إليه. ثم مدت يدها إلى يدي فشدت عليهما وهي تقول: أتعدني وفي وعدك مثل هذا التأكيد فكأن لك إذن نفوذاً عظيماً على الكارلوسيين؟ فقلت رويدك يا سيدتي لا تتهمي الكارلوسيين بمثل هذا الإثم الفظيع. إنني عرفت الدون كارلوس المطالب بعرش إسبانيا وشرفني بأن دعاني إلى مائدته الخاصة وصادقته فسبرت نفسه فأنا أعيذه من التدني إلى هذه السفالة. فبهتت جلالتها لدفاعي عن الدون ومريديه ثم قالت: كيف تفسر إذن الرسالة التي وردت علي من بامبلون قلت حيلة احتالها بعضهم طمساً للحقيقة ودفعاً للشبهات.

فقامت إلى خزانة في الحجرة التي كنا فيها وفتحت درجاً صغيراً وعادت إلي بالرسالة فقرأتها فإذا بها تحتوي طلب مليون بيستاس فديةً للملك وهي خلو من التوقيع غير أن في ختامها هذه الكلمات: بأمر جمعية اليد السوداء فلما تأملتها جيداً أعدتها لجلالتها قائلاً: وإن هذا التوقيع مستعارً أيضاً فاليد السوداء لم تقدم قط على انتشال الملك وإنما انتشله أثمة جناة استعاروا اسم جمعية اليد السوداء تهويلاً وتستراً. ثم اقترحت اقتراحي على جلالتها فرضخت له وأمضت لي كتابةً خلاصتها الإذن لي بعمل كل ما أراه نافعاً. فتسلحت بتوقيعها الملكي وانصرفت.

وكان أول همي أن أجد لنفسي صفة التبس بها عن المظان والشبهات ففكرت كثيراً فقر

رأيي على أن أستعير صفة طبيب إنكليزي فلبست اسم الدكتور هري برون وألحقته على بطاقة الزيارة بهذه الكلمات: من المدرسة الطبية في لندن.

فقلت عفوك يا سعادة السفير فقد كان التعبير الأصح من جامعة العلماء الطبيعيين في لندن فهز سعادته كتفيه غير مكترث لتصحيحي وقال: أنتم الإنكليز

ص: 163

جميعكم سواء في الأنانية. أو ظننت أن كل المدريديين يعلمون أن أطباءكم يميزون معاهدهم في تسميتها مدرسة أو جامعة؟ وتناول سعادته كأسه فتجرعها ثم ملأها وعاد إلي فقال: وقد اختر أن أكون طبيباً إنكليزياً لأن غرابة الأطوار منتشرة بين الإنكليز حتى لقد أصبحت أشبه بداء معدي أصبتم به أنتم سكان تلك الجزر البريطانية. وكان الدور الذي وددت أن ألعبه في القصر الملكي يقتضي شذوذاً في الأخلاق وهذا ما لا يتاح لي إذا لم أكن إنكليزياً. ثم بدأت عملي فاستنطقت الأب أوليفا استنطاقاً دقيقاً وسألته أن يريني آخر رسم للملك المسروق فرأيته يمثله أجمل تمثيل بعينيه الكبيرتين البراقتين وملامحه الدالة على العزة والعنفوان. وعرفت من الأب أيضاً أن تلك الصورة انتشرت انتشاراً عظيماً في المملكة وتداولتها الأيدي في جميع الأنحاء فعلقها التاجر في معرض تجارته، والغني في قاعة منزله والفقير على حائط كوخه. فقلت للأب حينئذ إذا كان ذلك كذلك فغنه يستحيل على سارقي الملك أن يخرجوا به في شوارع العاصمة في رائعة النهار فالشعب يعرفه والبوليس لا يجهله. ثم طلبت منه أن يسمي لي الخدمة الذين رأوا الصبي راكباً فيها فتردد في قبول طلبي زعماً أن جميع من في القصر يعتقدون بأن الملك عاد إلى بلاطه سليماً معافىً. ولم يكن من خلقي امتهان الإكليروس، واحتقار آرائهم وفلسفتهم رغم كوني غير كاثوليكي. إنك تعلم يا سيدي أن لا دين لي سوى حب فرنسا، وأن لا إله أعبده غير الشرف ومع ذلك فإني أحترم الكنيسة وما الإكليروس في نظري إلا كالنساء صنف من الناس أرى من النذالة أن يهانوا ويشتموا. إما انتم البروتستانت فقد برهنتم على ذكائكم بإقصائكم هذه الطغمة عن الشؤون السياسية.

- عفوك يا سعادة السفير. . . بل إقصائها فقط عن كراسي النيابة في مجلس العموم.

- هذا كذاك فالمعنى واحد. قلت إني أنفت من فلسفة الأب أوليفا ولكنني أبيت أن أتدنى إلى إهانته بل أفهمته أنه يجب أن لا تكون له إرادة في جانب نهيي وأمري. ثم مشى أمامي إلى دائرة الخدمة فنظرت في ساعتي وسألته متى خرج الملك فقال في مثل هذه الساعة ولهذا

فإن الذين شهدوا خروجه كانوا قليلي العدد. فقلت

ص: 164

ذلك خير وأبقى. ودعا الأب ثلاثة من الخدم بأسمائهم فهرولوا مسرعين فبادرتهم بالسؤال ولم أدع لهم سبيلاً للاختلاف والتلاعب في الشهادة ففهمت أن الملك كان ملتفاً بغطاء من القطيفة، ومنزوياً في العربة كمن يحس بشدة البرد، ولم أستفد غير ذلك مما يعول عليه. فعدت بالأب إلى حجرته وقد بدأت استخفه وأمله لكثرة ما كان يلقيه علي من الأسئلة الباردة ولما استقر بنا المكان وأخذت أفكر في السبيل المؤدي إلى الحقيقة، إذ فتح علينا الباب فجأة ودخل منه رجل فسلم على الأب أوليفا بخشوع واحترام. فمال الأب إلى أذني وأسر إلي إن الزائر الدكتور هناريز طيب القصر فأبيت أن أتعرف إليه لأنني خشيت أن يطارحني حديث المدرسة الطبية في لندن فينكشف له سري. ورأيت أن أشغل الأب عن زائره فسألته عن طعام الملك فقال إن جلالته يحب الأطعمة التي يقدمها السنيور غوميز رئيس طهاة القصر وقد ساءه في الأيام الأخيرة انحراف ألم بمزاج هذا الطاهي فلم يذق جلالته أقراص الحلوى والكعك وهو ولوع بها ولكنه لا يشتهيها إلا من صنع غوميز نفسه الذي لا يزال مريضاً حتى اليوم. على أننا نرجو أنه متى تم الشفاء لجلالته يكون السنيور غوميز قد تعافى أيضاً كما يرى حضرة الدكتور وفي تلك الآونة وقف الطبيب فودع بالاحترام كما سلم فقلت للأب علي بوكيل القصر الساعة. فلما مثل بين يدي أمرته بأن لا يدخل القصر مخلوق فيه حياة قبل أن يستأذن له منا اللهم عدا الملكة والسنيور جويستالا ثم قلت له: أما خدمة القصر فراقبهم وضيق عليهم فلا يخرج أحدهم على غير علم مني، وأما أنت فقدم لي في كل ساعتين تقريراً مسهباً فيه عن صفة كل طالب أذنت له بالدخول أو لم آذن. فانحنى الوكيل احتراماً ثم قال: وهل تشمل هذه الأوامر دائرة المطبخ حيث يكثر اختلاط الباعة بالطهاة والخدمة؟ فأرسلت إليه نظرتين حادتين وقلت: بل هي تشمل تلك الدائرة في الدرجة الأولى. وحذار الحليب خصوصاً فهو قارورة الميكروبات، ومنشأ الأمراض المعدية. ثم كانت ساعتان فأقبل علي الوكيل حاملاً تقريره الضافي فنظرت فيه ووعيته

ص: 165

تماماً ثم حملته إلى جلالته الملكة. . . ولكني ما لي أراك لا تشرب كأسك أتراك شغلت بحديثي عنه؟؟

فقلت: حديثك يا سيدي السفير أطيب من الكونياك. فتناول كأسه وابتلعه ثم أشعل سيكاراً وامتص منه بضع مصات ملأ دخانها سماء الغرفة وعاد إلي فقال: يذكرني دخان هذا

السيكار بليلة ساهرة مرت بي على شاطئ البوسفور في الأستانة على أثر خلع السلطان عبد العزيز وقد أحرقت في تلك الليلة عدداً ليس بقليل من أمثال هذا السيكار. . . لأن لخلع ذلك السلطان وموته حديثاً سأطرفك به في إحدى ليالينا فقد كنت في ذلك العهد موظفاً في سفارتنا في عاصمة الترك وحضرت بنفسي وقائع تلك الرواية المحزنة فلم يفتني شيء منها!

- عفوك يا سعادة السفير! وحملت التقرير إلى جلالة الملكة ثم كان ماذا؟

- فلما اطلعت جلالتها عليه لم تجد فيه ما يريبها غير أني رجوت منها أن تستعيد ذاكرتها وقائع الأيام الأخيرة في القصر، ومازلت أسمع حديثها حتى ذكرت أنها غضبت مرة من السنيور غوميز رئيس الطهاة وعاقبته. وكان لهذا الرجل ولد صغير سنه كسن الملك ألفونس يحبه الملك ويهفوا إليه، فأنفذه أبوه إلى ألفونس يستعطفه عليه ولكنني أبيت مصرة على عقابه.

وفيما كانت جلالتها تقص علي هذه الأحاديث إذ دخل علينا الوكيل فقال لي: أمرتني يا حضرة الدكتور أن أستميحك لأذن لك داخل إلى القصر وهو ذا الآن ولد صغير واقف بالباب يستأذن بالدخول على أبيه. فقلت: من الولد ومن أبوه؟ قال بدريلو غوميز ابن السنيور غوميز رئيس الطهاة. قلت لا يدخل. بل احرص عليه في حجرتك حتى تصلك أوامري بشأنه! فالتفتت إلي الملكة قائلةً: وما شأن هذا الصغير حتى يمنع من الدخول على أبيه؟ قلت عفوك يا سيدتي إن هذا الولد ليس بدريلو غوميز بل رسول أنفذه سارقو الملك إلى القصر. فامتقع وجه جلالتها، واضطربت اضطراباً فقد جاء فيه أن بدريلو غوميز دخل

ص: 166

القصر إذ أذنت له بالدخول ثم لم يخرج منه فكيف يمكن أن يكون هو هو الداخل الآن؟ ونظرت إلى جلالتها فرأيت في عينها معاني القلق والخوف فرأيت أن لا أكتمها الحقيقة فقلت: وعدتك يا سيدتي بإعادة ابنك إليك وها أنذا أبر بوعدي الآن قبل الميعاد المحدد. إنني ذاهب لآتيك بألفونس الثالث عشر!!

ثم خرجت ووقف على باب الدائرة المخصصة لسكنى السنيور غوميز وعائلته وطرقت الباب، فسمعت صوتاً من الداخل يقول: أو هذا أنت يا بدريلو؟ ثم فتح الباب نصفه فدخلت فإذا أنا برجل كبير الجثة، عرض الصدر، مفتول الساعدين، متين العضلات. فلما بصر بي

نظر إلي نظرتي نمر كاسر وقال: من أنت يا سنيور؟ قلت طبيب أرسلتني إليك جلالة الملكة لأعودك. قال أنا أشكر تعطفات جلالتها ولكنني لست بحاجةٍ إليك فقد زايلني الطبيب الساعة. قلت لا بأس ولكن أمر جلالتها يجب أتنفيذه فدعني أجس نبضك على الأقل ثم تناولت يده بغتة قبل أن يحير جوباً وقلت له إن نبضك سريع يا سيدي وأنا أرى أن حالك تقتضي تبديل الهواء لأن مناخ هذه الدائرة من القصر سام قتال. هلم بنا إلى الخارج. . . فاتقدت عيناه بالشرر وارتمى على مقعد هناك وقال: بلى أن رأيك سديد يا سيدي الدكتور غير أني أشعر بارتخاء في أعصابي فأنا لا أستطيع مزايلة هذا المكان اليوم! فلم أكترث لجوابه ولكنني تقدمت إلى باب مقفل في أقصى الحجرة وهممت بفتحه فإذا بذلك الرجل قد وثب إلي وثبة الذئب الجائع يريد أن يحول بيني وبين الباب فشهرت مسدسي وصوبته إلى صدره قائلاً له: مكانك أو تموت!! فارتد إلى الوراء خائفاً مذعوراً ففتحت الباب ودخلت فرأيت الملك مضطجعاً في كرسي طويل وماسكاً قرصاً من الحلوى يأكله قضمة قضمة.

حينئذ وقف السفير فتجرع كأسه ووضع باهميه في كمي صدريته عند الكتف وقدم رجله اليسرى مسافة نصف خطوة عن اليمنى ونظر إلي بكبرٍ وإعجاب فقلت: ثم كان ماذا؟ فهز كتفيه وقال بصوتٍ أجش: كان ما أنت تعرفه ويعرفه جميع الناس! أنني أعدت ألفونس الثالث عشر إلى سرير الملك الذي يتربع فيه اليوم!!

ص: 167

ثم سكت سعادته فقلت: ولا أبنت لي يا حضرة السفير كيف عرفت أن الملك كان لم يزل محجوزاً عليه في القصر: قال أخالك يا سيدي لم تصغ إلى حديثي كل الإصغاء. أو لم أقل لك إن أولئك الجناة لم يستطيعوا الخروج به من المدينة لأن الشعب يعرفه والبوليس لا يجهله؟ أو لم أقل لك أيضاً أن غوميز مرض قبل حفلة الاستعراض العسكري بنحو ثمانية أيام كان يعوده في خلالها الطبيب هناريز؟ إن غوميز هذا كان رئيس تلك العصابة الشريرة وأما الطبيب فلم يكن إلا أحد أعضائها. فمتى وعيت هذين الأمرين وتفهمت الوقائع جيداً سهل عليك أن تعرف ما عرفته.

- ثم ماذا كان عقاب هؤلاء الأثمة الأشرار.

- عفي عنهم لم يعاقبوا إذ كان من الخرق في الرأي أن يذاع في المملكة سر انتشال الملك على تلك الصورة. أما أنا فقد حمدت الاتفاق الذي أتاح لي الدفاع عن صديقي الدون

كارلوس وقد اعتذرت الملكة مني لإساءتها الظن بهذا الصديق الشريف ثم خصتني جلالتها بنوع من الشكر عن عملي كان لذيذاً وحلواً. إن الملكة كريستيانا امرأة جميلة فتانة! ولما استأذنت جلالتها بالانصراف قال لي: أما خدمتك لإسبانيا فالسنيور جويستالا رئيس الوزراء يشكرك عليها، وأما خدمتك لأم الملك فجزاؤها هذا التذكار مني إليك. ومدت يسراها فأخرجت من إحدى أصابعها خاتماً من ألماس ووضعته بيدها في إصبعي هذه. . . .

وتأملت يد السفير فلم أجد فيها الخاتم فقلت: وددت إليك يا سيدي أن تريني هذا التذكار الجميل. فتنهد ثم قال: فقدته في ساعة لذة ولهو فقد مر إلى يد أجمل من هذه اليد، فلا تسلني كيف وأين فإن الواجب يقضي بكتمان أسرار النساء. وحينئذ مد السفير يده إلى ساعته فوقفت مستأذناً فهز يدي وهو يقول: عدني بأنك لا تفشي حديثنا الليلة فأنتم الصحافيون لا تؤتمنون على سر ولا تقدسون شيئاً. فتبسمت وقلت بل عفوك يا سعادة السفير. . . فلم يدعني أتم حديثي بل قال: فأقسم أمامي إذن بأنك إذا نشرت هذه الحكاية لا تنشر اسمي فأعدك بأن أقص عليك أمثالها من تاريخ أوروبا السري فأقسمت لسعادته وودعته وهو يقول لي: إلى الغد!.

ص: 168