الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صحيفة من النحاس - الفساد - ولما بعدا عن الشيخ ووارتهما أغصان الغاب رجعت إليه فلقيته يئن أنيناً متقطعاً وهو يحتضر وكان احتضاره رهيباً مزعجاً فدنوت منه وسألته وأنت من أنت يا هذا فأجاب والنور يخرج من فيه: أنا الحب العذري - أنا الطهر - أنا العفاف.
قال هذا وتنفس الصعداء وكان بها خروج الروح. وأدرت لحاظي في هيئته فرأيته قد تحول كله إلى شعلة من نور ورأيت زهرة آسٍ كان يتضوع منها عرفٌ قوي الرائحة رغماً عن ذبولها. وساد السكون على تلك الأنحاء عميقاً فرجعت أدراجي نحو منزلي لما رأيت أن الهواء أصبح بارداً وشعرت بوطأة السكون.
بيروت، جميل مدور
نظرة إشراف عام
على ديار نجد
وقعت مقالات مراسلنا البغدادي الفاضل أحسن وقع عند قرائنا لأنه كشف فيها النقاب عن أمور وحقائق من اطلع عليها، وهي تتعلق ببلاد العرب وتاريخ النهضة الأدبية فيها. ونحن نبشر القراء اليوم بأن هذا الكاتب القدير سيدبج للزهور سلسلة مقالات في هذا الموضوع الجليل الذي لم يسبق إليه. وهو يبني كتاباته على أبحاثه الشخصية الواسعة مدعومة بما يستقيه من أوثق المصادر. وها نحن ننشر اليوم مقالته الأولى التي تشرح هيئة تلك البلاد وحالتها الحاضرة وهي مقدمة لأبحاث آتية. وفي هذه المناسبة نكرر له الشكر باسم الزهور وقرائها على ما يتحفنا به من المباحث الشائقة التي تعد خير خدمة للعلم والأدب. وإليك الحلقة الأولى من هذه المقالات:
1 -
توطئة - خذ بيدك أي كتاب أردت، وتصفح أية مجلة شئت، وطالع أية جريدة شاقتك، بشرط أن يكون موضوعها الكلام على نجد، ثم قل في نفسك بعد أن تكون قد فرغت من الوقوف على ما راقك: هل هذا الذي قرأته صحيح يا ترى؟ - أقول: هلم ننظر إذا كانت شروط الصحة متوفرة في هذا السؤال. إن الكاتب الذي حبر تلك الأقوال لا يخرج عن إحدى هاتين الحالتين: إما أن يكون غريباً عن بلاد نجد، وإما أن يكون من أهلها وسكانها. فإن كان دخيلاً في تلك الربوع، فلا غرو إنه لا يستطيع الوقوف على الحقيقة كما لو كان من أبناء تلك الديار نفسها، لأنه قد قيل: وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. وكيف يمكن الأجنبي أن يعرف من الأمور إلا ما يشاهده وهل يشاهد غير ظواهرها؟ بل كيف يسوغ لأبناء الوطن أن يبوحوا بجميع أسرارهم لمن كان غريباً عنهم؟
أما إذا كان من صميم أهلها فهو أيضاً لا يخرج عن إحدى هاتين الحالتين: إما أن يكون أمياً من طبقة الناس السافلة، وإما أن يكون علياً أو عالماً، فلا تكاد تراه ينطق إلا بما له ويسكت إلا عما عليه خوفاً مما يتوهمه فضيحة لأبناء وطنه، أو خشية أن يندد به تنديد خائن لبلاده.
ومن ثم وجب أن يكون الكاتب عن هذه الديار وطنياً صادق الوطنية. أديباً فاضلاً من علية الناس وأشرافهم، عارفاً بما اختفى من تلك
الربوع وما ظهر، بعيد النظر بأحوال أهلها،
كاتباً ضليعاً بل من حملة الأقلام الصادقي اللهجة، جريئاً مقداماً لا يخاف لومة لائم، محباً لترقي وطنه، ناطقاً بما له وعليه ليصح الاعتماد على كلامه في كل ما يقول.
وهذه الشروط كلها قد اجتمعت في سليمان أفندي الدخيل صاحب جريدة الرياض (من صحف بغداد الحرة). فهذا الرجل من صميم بلاد نجد، ومن خيرة سراتها، وقد جاب تلك الأقطار طولاً وعرضاً، وسافر إلى بلاد الهند وإلى غيرها من الديار المتمدنة وقابل بين الأمم الراقية في الحضارة والأمم السائرة إليها سيراً وئيداً أو حثيثاً، وعرف الداء ووصف الدواء، ولهذا طلبت إلى هذا الفاضل الأديب (وهو خال أحد أبناء ابن سعود) أن يتحفني بما يعرف عن نجد معرفة تفيد قراء الزهور وتكون المقالة شاملة لأحوال نجد شمول مشرف عليها من أحد جبالها، ناظراً غليها نظراً عاماً بعيني البصر والبصيرة معاً. فكتب لي مقالة حسنة وضاءة. وقد أدمجت فيها ما وقفت عليه في أثناء مطالعاتي، وما سمعته من بعض الأدباء الفضلاء من أهالي تلك الربوع فحصل من هذا الإدماج شيء يشبه تداخل للحمة والسدى. وقد أحطت بقوسين ما لحضرة الكاتب الصديق من النص الرائق الفائق إقراراً بفضله وبراعة قلمه وسداد آرائه. وأبقيت بدون علامة ما لهذا العاجز الذليل من الكلام النزر القليل.
2 -
موقع نجد وحدودها - ديار نجد واقعة في قلب بلاد العرب وهي سرتها. وحدودها من الشمال النفود الفاصلة بلاد الجوف عن بلاد
نجد. وهي النفود بوجه الإطلاق. ومن الجنوب النفود المسماة بالربع الخالي وهي بلاقع أو مفاوز أو فلوات لا تفرق بشيء عن نفود الشمال. ومن الشرق الإحساء والقطيف ومن الغرب بلاد الحجاز.
3 -
سكان نجد في الزمن الخالي وفي الزمن الحالي - كان أهل نجد في السابق كأغلب سكان بلاد العرب: أخلاطاً من أمم شتى من عرب وفرس وإدميين وعبران وآشوريين وكلدان وبابليين ثم امتزجوا امتزاجاً واحداً مع الزمان حتى أضحوا أمة واحة، ولما جاء الإسلام زادوا وحدة ولما ظهرت الوهابية بانوا كل البينونة عن سائر سكان الجزيرة حتى أضحوا أمة مستقلة بنفسها ولها أوصاف خاصة بها كالشجاعة والبسالة والتدين المفرط الضارب إلى التعصب والإباءة وعدم تحمل الضيم وتوقد الذكاء وحب التجارة الواقفة على أصول الشرع إلى غير هذه المناقب الدالة على أن النجديين من الناس الذين بانوا عن
سائر العرب بالمآثر الجليلة التي لا تشاهد إلا في السلف الخالي.
4 -
أقسام نجد - تقسم نجد إلى ثلاث إمارات ولكل إمارة
حاضرة قائمة بنفسها. الإمارة الأولى قاعدتها (الرياض) وهي حاضرة إمارة الأمير الخطير ابن سعود الذي قام بتجديد مذهب السلف الصالح وهو المذهب الذي يلقب الآن بمذهب الوهابية أو بالوهابية من باب الإطلاق أو من باب الأغلبية. وأهل نجد كلهم يلقبون بالوهابيين نسبة إلى من قام بالدعوة في بداية الأمر وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب. أما موقع الرياض فمعروف أي في جنوبي نجد.
الإمارة الثانية: إمارة الأمير الجليل ابن الرشيد وقاعدتها (حائل) وهي في شمال نجد.
الإمارة الثالثة: القصيم (بالصاد لا بالسين كما يكتبها بعض أهل الجرائد) وهي عبارة عن بلدتين كبيرتني وهما: (عُنيْزَة) وهي عاصمة إمارة (آل سليم). و (بُرَيْدة) وهي عاصمة إمارة (آل مُهنَّأ) وما بين هاتين البلدتين مسافة قدرها ست ساعات للراكب.
وكلتا البلدتين عُنَيْزَ وبُريدة دخلت في قبضة الأمير عبد العزيز بن سعود الموجود الآن.
5 -
العلم بوجه الإجمال في هذه الإمارات الثلاث - استناداً إلى ما تقدم، نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام ونخص كل إمارة بكلام يناسبها مناسبة إجمالية فنقول: كانت ربوع ديار (الرياض) وتلقب حيناً (بالعارض) منبعث أنوار العلم والعرفان في عهد غضارة إمارة آل سعود. لكن أكثر هذا العلم يدور على علم التوحيد والكلام والأصول والتفسير والفقه واللغة وجميع العلوم الدينية وقليل من النحو والصرف وسائر علوم الآلة.
فلما أخذت دولتهم بالزوال تقلصت ظلال العلوم عنهم أيضاً رويداً رويداً وتشتت العلماء على أوجه شتى: فمنهم بالموت وآخرون بالمهاجرة إلى بلاد أخرى يرتزقون فيها لأن عيشتهم في السابق كانت متوقفة على ما يجريه الأمير ابن سعود من الرواتب الدارة الأخلاف الجارية من بين المال وهذا يمتلئ مما كان يجمع على ما جاء به الشرع الشريف من النظام والأصول المثبتة في الإسلام.
أما اليوم فلم يبق من تلك العلوم شيء في الرياض وانتقل أغلبه إلى بلاد (القصيم) و (حائل) السالفتي الذكر. ولا يوجد من يتعاطى العلوم فيها إلا أناس قلال. ووجودهم كعدمهم. وهم الذين خبطوا في الديانة خبط عشواء. وأظهروا التعصب الديني الأعمى وأشاعوا عنه
وعن أصحابه أموراً لا توافق مذهب السلف. وهي وإن كان اغلبها ملفقاً إلا أن لها بعض الحقيقة فجسمها خصومهم وحسادهم على تلك البقاع وعلى عزتهم فيها وانتصارهم على مناوئيهم إلى أن تقلص ضل دولة آل سعود ففرحوا بذلك فرحاً لا يوصف. وما زالت الحالة في تأخر وتقهقر حتى اضطر أكثر أهل تلك البلاد إلى المهاجرة للاسترزاق فظعنوا عنها مكرهين ولكن هجرتهم لم تبعد لأنهم لم يتجاوزوا الإحساء والزبير والبصرة. أما اكثرهم فتراهم في البحرين وعمان وسائر تلك الأصقاع وكلها لا تخرج عن بلاد العرب. والذين هاجروا لم يكتسبوا بهجرتهم علوماً تقدمهم إلا النزر القليل مما يوافق مشربهم وتغربهم أي معرفة أعداء الدول وقواها وبعض ممالكها ومستعمراتها وسياسة بعضها لبلاد نجد. والخلاصة أنهم يتأثرون
كل ما له تعلق ببلادهم.
والبعض منهم (وهم أفراد قليلون) وصلوا إلى الهند كمدينة لكنو وحيدر آباد وأمرتسر وغيرها ودرسوا بعض علوم الدين وشدوا شيئاً من الفلسفة وعلوم العمران والاجتماع. لكن علوم هؤلاء الأفراد لم تؤثر في قومهم التأثير المطلوب لما رجعوا إليهم قافلين بها، ولذا لا تراهم حظيين في عيون وطنييهم.
أما إمارة ابن السعود الآن وحاشيتها. وإن شئت فقل: أما مقدمو إمارة ابن السعود فإنهم على كفاية من العلم اللازم لإدارة شؤونهم حسب سعتها وما تطلبه منهم مكانتهم بل يوجد بينهم أفراد لا يستغنى عنهم لحل الأمور المعضلة أو المشكلة. وأكثرهم ممن تربوا في المدن.
وفي هذا العهد (أي منذ إعلان الدستور العثماني) انتبهوا انتباهاً عظيماً وهم في شوق لاعج إلى الاطلاع على حقائق الأمور والانضمام إلى الحكومة العثمانية. ولكن يا للأسف أن الحكومة لم تشرح صدرهم إلى اليوم فهي لا تراسلهم بل لا تنظرهم. لا بل لما طلب ابن السعود من ناظر الداخلية (طلعت بك) - حسبما بلغني - ليبعث إلى المجلس من قبله مبعوثين رده قائلاً: تفعل ذلك في الانتخاب الجديد.
ولما كانت بيني وبين الأمير ابن السعود قرابة (إذ أني خال أحد أولاده) مثلت بين يديه بعد ما قضيت سنين في الهند وشرحت له أحوال الدستور في الأمم الراقية فانشرح له صدره وأفادني بأنه يكون أول مؤيد له وأعظم مساعد للحكومة العثمانية في ما تريده وألححت عليه بأن
يوفد إلى الحكومة العثمانية مبعوثين من قبله ففعل وطلب ذلك لكنه رد كما تقدم
القول.
هذا وأهل هذه الإمارة يطالعون بلاعج الهوى الجرائد والمجلات وهي تأتيهم من كل حدب وصوب ويطلبون الكتب ولاسيما الحديثة الوضع ليقتنوها ويطالعوها. وهم يقبلون عليها إقبال الجياع على القصاع. غير أن الاضطرابات التي تحدث بين القبائل غالباً لأدنى سبب. وسنة الأعراب منذ القدم سنة الغزو والهجوم لا تدعهم يتفرغون لها كل التفرغ ليستفيدوا الفائدة المطلوبة. ومع هذا فإني أرى أنه لا تمضي سنوات إلا ويصلون إلى درجة حسنة من العلوم والآداب بمنه تعالى وكرمه.
2 -
وأما العلوم والآداب في حائل (ويقال لهذه الإمارة أيضاً الجبل وجبل شمَّر وهو جبل طيء في السابق) فهي على غير ما رأيته في الإمارة الأولى.
ومما يجب أن تعلمه قبل إيغال في البحث أن هذه البلاد قد وصلت إلى درجة تذكر في العلوم منذ سابق العهد. وإمارتها لشمّر منذ أن وجدوا إلى يومنا هذا. وقد استولى عليها آل السعود حين قويت شوكتهم وعظمت صولتهم. وما كادت شمسها تميل إلى الغروب إلا وعادت تلك الديار إلى أهلها الأقدمين. وكان أول أهلها ورؤسائهم: آل علي ثم انتقلت إلى طلال فبندر فمحمد الرشيد.
بغداد
ساتسنا