الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا أيها الريح
تمرُّ آناً مترنحاً فرحاً، وآونة متأوهاً نادباً، فنسمعك ولا نشاهدك، ونشعر بك ولا نراك. فكأنك بجرٌ من الحب يغمر أرواحنا ولا يغرقها، ويتلاعب بأفئدتنا وهي ساكنة.
تتصاعد مع الروابي وتنخفض مع الأدوية وتنبسط مع السهول والمروج. ففي تصاعد عزم، وفي انخفاضك رقة، وفي انبساطك رشاقة. فكأنك مليكٌ رؤوفٌ يتساهل مع الضعفاء الساقطين ويترفع مع الأقوياء المتشامخين.
في الخريف تنوح في الأودية فتبكي لنواحك الأشجار، وفي الشتاء تثور بشدة فتثور معك الطبيعة بأسرها، وفي الربيع تعتل وتضعف، ولضعفك تستفيق الحقول، وفي الصيف تتوارى وراء تقلب السكون فنخالك ميتاً قتلته سهام الشمس ثم كفنته بحرارتها.
لكن - أنادباً كنت أيام الخريف أم ضاحكاً من خجل الأشجار بعد أن عرّيتها من ملابسها؟ أغاضباً كنت أيام الشتاء أم راقصاً حول قبور الليالي المكلسة بالثلوج؟ أعليلاً كنت أيام الربيع أم محباً أضناه البعاد فجاء يصعّد بالتنهيد أنفاسه على وجه حبيبته الطبيعة لينبهها من رقادها؟ أميتاً كنت أيام الصيف أم هاجعاً في قلوب الأثمار وبين جفنات الكروم وعلى يبادر القش؟
أنت تحمل من أزقة المدينة أنفاس العلل، ومن الروابي أرواح
الزهور. وهكذا تفعل النفوس الكبيرة التي تحتمل أوجاع الحياة بسكينة، وبسكينة تلتقي بأفراحها.
أنت تهمس في أذن الوردة أسراراً غريبة تفهم مفادها فتضطرب تارةً، وطوراً تبتسم وهكذا تفعل الآلهة بأرواح البشر.
أنت تبطئ هنا وتتسارع هناك وتتراكض هنالك، ولكنك لا تقف قط. وهكذا تفعل فكرة الإنسان التي تحيا بالحركة وتموت بالسبات.
أنت تكتب على وجه البحيرة أشعاراً ثم تمحوها، وهكذا يفعل الشعراء المترددون.
من الجنوب تجيء حاراً كالمحبة، ومن الشمال تأتي بارداً كالموت، ومن المشرق لطيفاً كملامس الأرواح، ومن المغرب تتدفق شديداً كالبغضاء. أمتقلب أنت كالدهر، أم أنت رسول الجهات تبلغ إلينا ما تأتمنك عليه؟
تمر غضوباً في الصحاري فتدوس القوافل بقساوة ثم تلحدها بلحف الرمال. فهل أنت أنت ذلك السيال الخفي المتموج مع أشعة الفجر بين أوراق الغصون، المنسل كالأحلام في
منعطفات الأودية حيث تتمايل الزهور شغفاً بك وتتخاصر الأعشاب سكراً من أنفاسك؟
تثور ظلوماً في البحار فتحرك ساكن أعماقها، حتى إذا أزبدت حنقاً عليك فتحت فاهاً لجةً ولقمتها من السفن والأرواح لقماً مرة. فهل أنت أنت ذلك المحب المتلاعب حنواً بغدائر الأطفال المتراكضين حول المنازل؟
إلى أين تتسارع بأرواحنا وتنهداتنا وأنفاسنا؟ إلى أين تحمل رسوم