الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في منازل الأموات
زيارة القبور وإكرام الموتى عادة شائعة عند أهل جميع المذاهب قديماً وحديثاً، ولا يخفى ما فيها من العبرة والذكرى والوفاء. وقد خصص المسيحيون اليوم الثاني من هذا الشهر للقيام بهذا الواجب (2 نوفمبر: تذكار الموتى).
هناك في مثل هذا اليوم بين تلك المنازل المقفرة أقضي ساعة من الزمن في كل عام، وأقوم بواجب تفرضه علي المحبة ويقضي به تذكار المودة. ساعة أقضيها في بكاء ورثاء فتولد راحة في القلب وتسكيناً في الفؤاد، كأن الأحزان تذوب مع الدموع المتساقطة، والأشجان تتطاير وتضمحل مع الزفرات المتصاعدة.
هناك في منازل الأموات بين القبور الساكنة وتحت أشجار السرو الباسقة وقفت وبكيت، واتعظت وتعزّيت. . .
فيا طلاب العواطف الرقيقة ومحبي المواقف الرهيبة، اقصدوا المقابر في مثل هذا اليوم فتشعروا بأرق العواطف وتتمتعوا بأجل المواقف. . . .!
ويا عشاق الفنون الجميلة، أيها الشعراء والمصورون أموا القبور فتلقوا غذاء لقريحتكم، اسقوا أقلامكم بالدموع التي تذرف هناك، فتسيل منها أرق القصائد وترسم أسمى المناظر وأبدع المشاهد.
ويا أيها الأحياء زوروا منازل الأموات فتدركوا ماهية الحياة وجوهر الممات. . .
* * *
وصلت إلى المقبرة فوجدت بابها مفتوحاً والناس يتقاطرون إليها أفواجاً، وهم متشحون بالسواد حاملون الزهر والأكاليل المضفورة، وقد استولى عليهم الانقباض ورفرف على رؤوسهم روح الخشوع. فدخلت مع الداخلين حاسر الرأس كابت الفؤاد. وما وطئت قدمي هذه الأرض المقدسة حتى اعترتني هزة واستولت علي قشعريرة وهتف صارخ في صدري: سلام على أهل القبور الدوارس، سلام على سكان الديار الموحشة والمنازل المقفرة، رحمة وسلام عليكم أيها الراقدون بسلام. . . .!
وقفت منفرداً في إحدى زوايا المقبرة أدير الطرف حولي وأتأمل ما يكتنفني. . . . . هنا أم ثاكلة جاثية على ضريح وحيدها تذرف على بلاطه البارد عبراتها المحرقة وتسكب على الراقد طيه صيب صلاتها الحارة. وهناك يتيم جاث على قبر والدين اختفطهما ملاك الموت
قبل الأوان. وهنا أخ يبكي على رمس أخيه، وهناك حبيب يصلي على جدث حبيبه. وقد امتدت فوق هاتيك القبور أغصان السرو ذات الخضرة القاتمة الدائمة، ناشرة على مراقد الموتى ظلها الرهيب، وحفيف الأوراق فيها أشبه بالندب والعويل.
أخذت أطوف في أنحاء المقبرة، فرأيت قبوراً زينتها الأكاليل ونمت حولها زهور ورياحين زرعتها يد المحبة وسقتها دموع الوفاء فنبتت رمزاً عن الحب ودليلاً على الذكر وحفظ العهد. ورأيت غيرها عارية مهملة وعلى جوانبها قليل من العشب اليابس وليس من يضع عليها زهرة الذكر أو يذرف عليها دمعة الوداد، فقلت: أين الذين أحبوهم؟ تبرأ
منهم القريب، وانصرف عنهم الحبيب. . . . تابعت السير فإذا بأخشاب بالية وعظام نخرة فوقفت عندها بكل خشوع وإخبات، وتساءلت: لمن هي يا ترى؟
لو بعثرت للخلق أطباق الثرى
…
هل يعرف المولى من العبد
فسقياً لك يا موت، أنت تسوي بين الكبير والصغير، فهذه بقايا الرفيع والوضيع، ورفات الغني والفقير، فمن يقدر أن يجد بينها فرقاً.
إلى هنا مصيرك يا ابن آدم مهما علوت وارتفعت. فجهلاً تتباهى وحمقاً تتفاخر وتعتز. إن الراقدين هنا كانوا مثلنا يعبرون نهر هذه الحياة فتردد شواطئ النهر صدى أصواتهم وأغانيهم، وها أن الموت قد أغلق أفواههم وأخمد أنفاسهم. . . تراءت لهم الدنيا بمجدها وزخرفها، ومدت إليهم كأس ملذاتها، فمدوا يدهم لارتشاف هذه الكأس، فانكسرت على أقدامهم. وتجلت لهم الحياة بمظهر الغادة الحسناء فنظروا إليها نظرة العاشق الميتم، فإذا بها قد انقلبت شمطاء شنعاء ثم اضمحلت كالدخان.
وبينما أنا أسير بين القبور أستنطق مرمرها الناصع وأناجي الراقدين تحت حجارتها إذ خيل إلي أن هاتفاً يقول:
كما أنتم كذا كنا
…
كما صرنا تصيرونا
وخلت أن شبحاً قد خرج من كل ضريح وهو يشير إلي بكفنه قائلاً:
قف واعتبر يا من ترى
…
قبري وما بي قد جرى
بالأمس كنت نظيركم
…
واليوم صرت كما ترى
قل: ربنا ألف بنا
…
وارحم عظاماً في الثرى