الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواية الشهر
زعيم اللصوص
1
على مسافة فرسخين من قرية ألبي إحدى قرى كالابريا فوق رابية صغيرة كنت ترى بيتاً قديم البنيان في وسط بقعة خضراء، وهو يشرف من الغرب على القرية المذكورة، ومن الشرق على غابات كثيفة وكان يسكنه قرويان - جاكوبو وامرأته حنة - عُرفا عند العامة بتقواهما وبرّهما. على أنه كان في القرية أناس يزعمون أن في الزوايا خبايا ويؤكدون أنهم كثيراً ما نظروا رجالاً من ذوي الشبهات مدججين بالسلاح يطوفون ليلاً حو هذا البيت المنفرد ويدخلون إليه من باب سري ثم ينسلون منه باكراً ويتوارون في الغابات. ومما كان يؤيد هذه الإشاعات أن جاكوبو كان يرصد بابه عند غروب الشمس فلا يقبل زيارة أحدٍ من أهالي القرية. فكان ذلك مدعاة لزيادة الريب والظنون.
وفي الواقع لو أتيح لهؤلاء دخول هذا المنزل في إحدى ليالي شباط لأصبح ظنهم يقيناً وزعمهم رواية صدق. فإنك كنت ترى في إحدى القاعات بضعة عشر رجلاً شاكي السلاح بأزياء مختلفة جالسين ول طاولة عليها قطيع من اللحم المشوي وبالقرب منهم برميل يستقون منه خمراً فيأكلون ويشربون بشراهة. وكان جالساً على أحد طرفي الطاولة رجل يناهز الثلاثين من عمره تنم ثيابه وهيأته على انه زعيم هذه الجماعة. وكان بالقرب منه فتاة لا تتجاوز العشرين ربيعاً بديعة الجمال، رشيقة القد مدمجة المفاصل، قلما ينظر لها شبيه بين القرويين. وكانت علامات الحزن باديةً على محياها وهي تنظر إلى رفيقها ببعض الحنو. أما الباقون فكانت قد لعبت برؤوسهم حميا الخمرة فأخذوا ينشدون ما طاب لهم ويقهقهون بأعلى أصواتهم حتى اشتد اللغط. وكثرت الضوضاء. فصرخ بهم زعيمهم:
- وحق إبليس إن هذه الجلبة كادت تفضحنا، ألا تصمتون!
وكان للمتكلم على ايظهر عظيم نفوذ في رجاله، إذ سادت السكينة للحال، فتابع كلامه قائلاً:
- لا أعلم ماذا يحملني على التشاؤم هذه الليلة. . . وعلى كل فها أنا أقوم حارساً في الغرفة المطلة على الغابة، وابقوا أنتم هنا، كلوا واشربوا، ولكن اعلموا أني سأغمد خنجري في
صدر من يأتي بضجة.
قال، وأشار إلى الفتاة أن اتبعيني، وأخذ بندقيته وخرج وجلس مع رفيقته قرب نافذة الغرفة الثانية.
2
- لم البكاء يا إميلي. .؟
- آه يا أنجلو! إن منظر هؤلاء الرجال يخيفني
- لا تخافي يا عزيزتي، أنت قلبي، وما عهدي بقلبي يعرف الخوف. هؤلاء الرجال الذين يبارزون الموت لو رأوا رسم شخصه يرتجفون أمامي. وقد مازج خوفهم مني حبهم لي. فهم دون شك يعتبرونك ويجلونك ولا يسعهم إلا الائتمار بأمري.
أما الفتاة فاتكأت إلى ذراعه بحنو واسترسلت في ذرف الدموع، فقال:
- آه يا أميلي، لا شك أن الندم يستولي على قلبك الآن لأنك عرضت نفسك فتبعتني، ألا بربك ارجعي إلى ذويك، فلا أريد أن أنالك قسراً، لا أريد أن أعرضك إلى المخاطر والمهالك إلى المنفى والموت، فاعلمي يا عزيزتي أن كل خطوة من خطواتي تقودني إلى الهاوية، أما أنت فأمامك طريقان: طريق سهلة أمينة وهي الطريق التي تركتها، وطريق صعبة خطرة، في كل خطوة منها إثم وفي كل مرحلة جريمة وفي آخرها المشنقة، فاختاري لنفسك:
- إني اختار الطريق التي تسير فيها أنت.
- اسمعي إذن، لأنه يجب الآن أن تعرفي من أنا وما هي غايتي. . . كان أبي من عائلة شريفة النسب عريقة الحسب وكان من حزب البوربون فسقط
بسقوطهم. وكان شيخ القرية الجديد يخاف صلاح أبي ونفوذه فأصبح له عدواً لدوداً لأن الفضيلة لا تجعل صاحبها بمأمن من العدوان بل كثيراً ما يجعله هدفاً لاضطهاد الأشرار. وكان للشيخ المذكور ولد سكر من نشوة الكبرياء ولعبت في رأسه ثورة الأهواء وكان ينظر غلي بعين الحسد والضغينة لأني كنت أفوقه في الرماية وشدة الساعد. فكان يقابل تحياتي بكلام الهزء والسخرية ويعيرني حزبي كلقب عار وذل. . . آه إن خنجري كان يرقص حينذاك في غمده ونفسي تحدثني بأن أذيق هذا المتعجرف ثمرة عنفوانه، لكن التروي كان يسكن ثائري
خشية ما سيجر ذلك على عائلتي من الولايات. . . كنت عند عودتي من شغلي مساء أرى أهلي في حالة الجزع التام: أمي وأختي تذرفان الدموع، وأبي يتمشى باضطراب ويرمي بنظرات اليأس إلى بندقيته القديمة المعلقة على الحائط. . .
وعند هذه الذكرى انتصب انجلو واقفاً وقدحت عيناه شرراً، فمالت إليه الفتاة قائلة:
- لا تنقطع عن الكلام يا أنجلو فإن عندما تتكلم أشعر بأنك تبث في شيئاً من روحك. . فكبح جماح غضبه المتصاعد وعاد إلى حديثه:
- وكانت والدتي تعرف ما أنا عليه من الحمية فباتت تتوقع من يوم إلى آخر وقوع الصاعقة. . . كانت هي وأختي فيلومين تغزلان وأنا أبيع الغزل في آخر الأسبوع. . . آه ما كان أشد حبي لأختي. . ألا تتذكرينها يا إميلي. . . فإنها من عمرك وجميلة مثلك. . .
قال هذا وسالت من عينيه دمعتان. . . وكان القمر في الخارج قد احتجب وراء غيمة سوداء وتراءت الأشجار كالأشباح. هذا وكان سائر الرفاق لا يزالون في القاعة يأكلون ويشربون. . فاستأنف أنجلو الكلام قائلاً:
- فعادت أختي يوماً إلى البيت وهي تبكي بكاءً مراً وذلك بسبب أرنست اللعين ابن شيخ القرية الذي أسمعها كلمات تمس بشرفها. مرت بضعة أيام وإذا بي ذات صباح أمام ذلك الوغد اللئيم قرب منزلنا وهو يترصد خروج أختي ليكاشفها
بحبه. فوثبت عليه وألقيته على الحضيض وأوسعته ضرباً، وكدت أقضي عليه لو لم يخلصه بعض القرويين. ولما عدت إلى البيت وجدت عائلتي باضطراب عظيم فتقدم إلي أبي بكل وقار وأعطاني البندقية والخنجر وقال: يريدون أن تكون لصاً فاذهب إلى الوعر. . . فودعت أهلي وذهبت. ولما لم يتمكن أعداؤنا من إلقاء القبض علي حولوا كيدهم إلى ذوي. فاتهم أبي بمؤامرة سياسية مع حزب البوربون وهو بريء منها فزج في السجن. وكان أرنست السافل لا يزال يعلل النفس ببلوغ مأربه. ولما لم يكن الوعد ولا الوعيد يثنيان أختي فتحيد عن طريق الشرف عمد هذا الشيطان إلى حيلة جهنمية. وكان يعرف تماماً أن بعد فراري وسجن أبي لم يبق في البيت من يحمي حماه. فأتى مع أحد رفقائه في ذات ليلة ونادى أمي أن لها مكتوباً من وحيدها. وكانت والدتي قلقة البال لانقطاع أخباري عنها منذ أسبوعين، فأسرعت إلى فتح الباب وهي لا تعرف من المنادي. ففاجأها هذا الشرير بضربة كادت تفقدها الحياة ووضع
على فمها الشبام أما أختي فوقعت مشغياً عليها من شدة الرعب. فنقلت إلى فراشها. . . وهكذا دخل العار إلى بيتنا. . . وعند الصباح كانت فيلومين قد فقدت الرشد لأنها لم تتحمل ما أصابها من المنكر. . . .
قال أنجلو هذه الكلمات الأخيرة وقد جحظت عيناه وهو يلهث ويرتجف غيظاً.
- يا لله ما أكبر مصابك يا أنجلو. . .؟
- فبلغ أبي في السجن خبر ابنته، فأبت نفسه الأبية احتمال العار. فمات وهو يلعن السماء والأرض أما أمي فبعد هدر دم ابنها وفضح ابنتها وموت زوجها كافراً قضت نحبها في أتعس حالة. أما أنا. . . أما أنا يا إميلي فلم أعد أفتكر بموت والدي ولا بما أصاب شقيقتي بل صرفت كل أفكاري إلى الأخذ بالثأر حلفت أغلظ الإيمان بان أنتقم من على مصائبنا شر انتقام. ولم تلبث الظروف أن بلغتني مرامي، إذ أعلمني أحد اللصوص - وكنت قد أصبحت منذ يومين زعيم إحدى جماعاتهم - أن شيخ القرية وابنه سيمران عند المساء قرب الغابة عائدين من المدينة. فذهبت ولم استصحب أحداً من رجالي لأذوق وحدي لذة الانتقام. فكمنت هناك ولما مر
الشيخ وجهت إليه رصاصة كانت القاضية عليه، أما أرنست فأصابت رصاصتي الثانية رجله فسقط عن جواده ولم أكن أقصد قتله كأبيه. فقدته إلى مغارة هناك وأوقدت ناراً وأخذت أذيقه من العذابات ألواناً وهو يبكي ويتضرع وأنا اضحك ضحكاً مخيفاً. . . آه أن الليلة التي قضاها معي تساوي تلك الليلة التي قضاها مع شقيقتي المسكينة. خرجت فيلومين من يديه وقد فقدت رشدها وشرفها، وخرج هو من يدي وقد أصبح جثة كالفحم وذهبت روحه الخبيثة إلى الأبالس. . . آه ما أشد ما كان فرحي في تلك الليلة. . . .
قال وضحك ضحكاً أشبه بهرير الكواسر، فارتعدت فرائص إميلي وعادت إلى الوراء. ثم نكس أنجلو راسه وبكى. . . فاقتربت إميلي وأخذت يده وجلست بقربه وبقيا هكذا مدة. . . ولما رفع رأسه قال:
- آه يا إميلي لست قاسياً بهذا المقدار، ولكني. . . فلم يتمم عبارته بل أخذ بندقيته بكل سرعة وحدق بنظره نحو الغابة كأنه يريد خرق الظلام بعينيه. فانتفضت إميلي قائلة: ماذا اعتراك؟ - فأجاب: رجال الدرك. . . ألا تنظرين هذه الخيالات؟. . . ثم أسرع إلى
الغرفة، وصاح بجماعته: خيانة! وقعنا في الشرك! وكأن وقوع الخطر بدد عنهم سكرتهم فابتدروا السلاح واجتمعوا حول عريفهم سائلين: ما العمل؟ فأجاب أكبرهم سناً وكان قد نظر من النافذة إلى الجنود: يحاول رجال الشرطة أن يطوقوا هذا المنزل. فهيا بنا إلى الغابة ومتى راموا الدخول نهجم هجمة واحدة. هذا رأيي. فأجاب الجميع: وهذا رأينا.
فقال انجلوا: وإميلي؟ ماذا نصنع بإميلي.
فقال أحدهم تبقى هنا؟ - فأجاب أنجلو وأنا أيضاً أبقى - ولكنهم يقتلونك - يقتلوني ولكني لا أتخلى عنها - كم أهلكت النساء رجالاً. . .
وكان جاكوبو وامراته صاحبا المنزل أثناء ذلك في بكاء ونحيب، يندبان سوء طالعهما.
فتقدم أكبر اللصوص سناً وقال: لو كان الفداء لما تأخرنا. ولكن
يا زعيمنا إذا بقيت هنا فإنك تجلب الموت عليك وعلى من تريد خلاصها فاسمع لي: نشد وثاق الثلاثة - صاحبي المنزل وإميلي - ويدّعي جاكوبو أنها ابنة أخته أتت تزوره في هذه الأيام وأننا دخلنا هذا المساء إىل منزله عنوة وقيدناهم بعد الوعيد والإهانة. فتنطلي الحيلة على رجال البوليس، أما نحن فإننا نؤمل النجاة بنار بارودنا ومضاء خناجنرنا.
فلم ير أنجلو بداً من لإذعان بعد موافقة الجميع على هذا الراي وقبول إميلي به، لاسيما وقد نادى اللصوص به: عليك يا زعيمنا الاعتماد. . .! فنزل الجميع بعد أن شدو وثاق الثلاثة المذكورين.
فقالت حنة إذ ذاك لزوجها. أجل سندعي أن الفتاة ابنة أختك وهكذا ننجو ولكن الحكيم من قدم الحذر فإذا ألقي القبض على أنجلو ألا تبوح إميلي بكل شيء فإنها تحبه وتجود بكل شيء في سبيله فتكون العاقبة علينا وخيمة. فإذن - وأشارت إشارة معنوية إلى خنجره - تدعي إنهم دخلوا بالرغم عنا وأنهم قتلوا نسيبتنا. . .
سمع أنجلو صوت استغاثة فصاح آه صوت إميلي؟ ما حل بإميلي. . . فأجاب أحد رفقائه: لا شيء. ولا سبيل للإحجام. . . وهجم اللصوص هجمة واحدة، وكان أنجلو بينهم كالأسد الكاسر ينشطهم بالقول والفعل ومسدسه لا يسكت وخنجره لا يغمد إلا فص الصدور. فاجتمع حوله معظم قوات العدو وتمكن رفاقه من النجاة. أما هو فظل يقاتل بكل بسالة ولكن ما تجدي البسالة والعدو يتكاثر حوله ويضيق عليه النطاق حتى قبضوا عليه وشدو وثاقه.
3
هجم الليل، السكوت سائد والظلام باسط سدوله على الطبيعة. في قاعة سفلى رجل جريح ملقى على الحضيض: هو أنجلو وقد ألقي في هذا السجن بعد أن كل بالقيود. عيناه تقدحان شرراً والدم يسيل من جروحه. على الباب خفيران يتحدثان عن الواقعة الأخيرة.
- لله ما أشد ساعد أنجلو وما أشد بأسه. . .