الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في حدائق العرب
الوفاء
خرج النعمان بن المنذر يتصد على فرسه اليحموم، فأجراه على أثر حمار وحش، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر على رده. وانفرد عن أصحابه وأخذته السماء بالمطر. فطلب ملجأ يتقي به حتى دفع إلى خباء وإذا فيه رجل من طيّ يقال له حنظلة بن أبي عفراء ومعه امرأة له. فقال النعمان هل من مأوى - قال حنظلة: نعم. وخرج إليه وأنزله وهو لا يعرفه. ولم يكن للطائي غير شاة، فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة وما أخلقهُ أن يكون شريفاً خطيراً فماذا نقريه؟ - قالت: عندي شيءٌّ من الدقيق، فاذبح الشاة وأنا أصنع الدقيق خبزاً. فقال الرجل إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها واتخذ من لحمها مضيرة، فأطعمه وسقاه من لبنها، واحتال له بشراب فسقاه. وبات النعمان عنده تلك الليلة. فلما أصبح، لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طي أنا الملك النعمان فاطلب ثوابك - قال أفعل أن شاء الله. ثم لحقته الخيل فمضى نحو الحيرة.
ومكث الطائي بعد ذلك زماناً حتى أصابته نكبة وساءت حاله فقالت له امرأته: لو أتيت الملك لحسن إليه. فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة.
وكان النعمان قد سكر في بعض الأيام وله نديمان يقال لأحدهما خالد بن المضلل وللآخر عمرو بن مسعود بن كلدة فأمر بقتلهما. ولما صحا سأل عنهما فأُخبر بخبرهما فخزن عليهما حزناً عظيماً لأنه كان يحبهما محبة شديدة
وأمر بدفنهما وبنى فوقهما بناءين طويلين يقال لهما الغَريَّان وجعل لنفسه كل سنة يوم بؤس ويوم نعيم يجلس فيهما بين الغرييّن. فكان يكرم من وفد عليه في يوم النعيم ويقتل من وفد عليه في يوم البؤس. ولما وفد عليه حنظلة وافق وفده يوم البؤس. فلما نظر إليه النعمان ساءه وفوده في ذلك اليوم وقال له: يا حنظلة هلا أتيت في غير هذا اليوم؟ - فقال أبيتَ اللعن لم يكن لي علم بما أنت فيه - فقال: لو سنح لي في هذا اليوم قابوس لم أجد بداً من قتله، فأطلب حاجتك من الدنيا وسل ما بدا لك فإنك مقتولٌ لا محالة - وقال: أبيت اللعن وما أصنع بالدنيا بعد نفسي - فقال النعمان: لا سبيل إلى غير ذلك - قال: إن كان لابد منه فأجلّني حتى أعود إلى أهلي فأوصي إليهم وأقضي ما عليّ ثم أنصرف إليك - قال: فأقم لك كفيلاً - قال: فالتفت الطائي إلى شريك
بن عمرو بن قيس الشيباني وكان يكنى أبا الحوفزان وهو صاحب الردافة فقال:
يا شريكاً يا ابن عمرو
…
هل من الموت محاله
يا أخا كل مصابٍ
…
يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فيك ال
…
يوم عن شيخٍ بكفاله
ابن شيبان كريم
…
أنعم الرحمن باله
فأبى شريك أن يكفله. فوثب إليه قراد بن أجدع الكلبي وقال للنعمان: أبيت اللعن عليَّ ضمانه. فرضي النعمان بذلك وأمر للطائي بخمس مائة ناقة. فانصرف الطائي وقد جعل الأجل حولاً كاملاً من ذلك اليوم إلى مثله من القابل. فلما حال الحول وقد بقي من الأجل يوم واحد، قال
النعمان لقراد: ما أراك إلا هالكاً غداً فقال قراد:
فإن يك صدر هذا اليوم ولَّى
…
فإن غداً لناظره قريب
فذهب قوله مثلاً. ولما أصبح النعمان ركب كما كان يفعل حتى أتى الغريين فوقف بينهما وأمر بقتل قراد. فقال له وزراؤه: ليس لن أن تقتله حتى تستوفي يومه. فتركه النعمان وهو يشتهي أن يقتله ليسلم الطائي. فلما كادت الشمس تغيب وقراد قائم مجرد في إزارٍ على النطع والسياق إلى جانبه رفع له شخص من بعيد. وكان النعمان قد أمر بقتل قراد، فقيل له: ليس لك أن تقتله حتى يتبين الشخص. فكفّ عنه حتى دنا وإذا هو الطائي. فلما نظر إليه النعمان، قال: ما الذي جاء بك وقد أفلتَّ من القتل قال: الوفاء - قال: وما دعاك إلى الوفاء! - قال: ديني - قال وما دينك؟ - قال: النصرانية - قال: فاعرضها علي. فعرضها، فتنصر النعمان وأهل الحيرة جميعاً وكان قبل ذلك على دين العرب. وترك تلك السنة من ذلك اليوم وأمر بهدم الغريين وعفا عن قراد والطائي وقال: ما أدري أيكما أكرم وأوفى. أهذا الذي نجا من السيف فعاد إليه أم هذا الذي ضمنه. وأنا لا أكون ألأم الثلاثة.
وقد أخذ المرحوم الشيخ خليل اليازجي هذه الحادثة وبنى عليها رواية تمثيلية شعرية عنوانها المروءة والوفاء.
وألف في هذا الموضوع أيضاً الأديب ميشال أفندي سرسق روايةً تمثيلية فرنسوية العبارة مثلت في باريس وبيروت منذ بضع سنوات وعنوانها '