الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- يا سيدي العزيز اعتدل في إظهار حماستك واعلم أني مبتهج كل الابتهاج باختراعي هذا الطفيف. فليس في زيارتي لك ما يجعلك تفتخر متباهياً لأني صرت أتبرم تبرماً يحبب إلي الموت منذ الحين الذي أصبحت فيه شبحاً وهمياً ولم أعد أبيع قصديراً ولا تبراً ولا عاجاً واضطررت على هذه الأرض التي يطأ فيها المسيو ستانلي عن بعد مواطئ قدمي إلى التحدث من حين إلى آخر مع بعض العلماء أو الفضوليين الذين يهمهم أمري. والآن يخيل إلي أني سامع صياح الديك فأودعك وأنصح لك بأن تسعى لحشد الثروة لأن الخير الوحيد في هذا العالم ملاكه الغنى والقوة.
قال هذا الكلام وتوارى عن نظري وكانت ناري قد خمدت وبدأت أشعر ببرودة الليل وصداع أليم.
إلياس الحويك
شيء عن الفن
لقد عرف الإنسان الفنون قبل أن عرف العلوم، لأن مخيلته اشتغلت قبل تنبه أفكاره. المخيلة ضيف تائه على الأرض وهي أقوى القوى الأدبية حركتها لا تبطل أبداً في الحياة، بل هي كالقلب تشتغل دائماً وعمله مستمر متواصل في النوم وفي اليقظة. فيها تحفظ تذكارات الماضي وآثار ما تنقله إليها الحواس من مناظر وأصوات وأنغام وروائح وتأثيرات، ومن مزيج هذه التذكارات والآثار تتكون أصول الفنون، فيأتي التصور والابتكار عاملاً في توسيعها، وزيادة فروعها وإتقان كمالاتها.
إذا أنت عدت بأفكارك إلى تاريخ الأعصر الغابرة تجد للفن المكان الأول في عظمتها، ولا ترى للعلوم إلا زاوية حقيرة في أسفار المنشئين وتواريخ المفكرين. أما الكليات الغربية التي تأسست في القرن الحادي عشر فلم تكن تشغل الطلاب إلا بالشعر القديم والأحاديث الحربية وتواريخ الآداب المختصة بأشهر شعوب العالم. فقد كان التلاميذ يدرسون اللغات اللاتينية، واليونانية، والعبرانية، وربما العربية والآشورية أيضاً، أو غيرها من لغات الشرق القديم، بدلاً من الطبيعيات والكيمياء والهندسة. ولم يدرسوا من تآليف الأقدمين إلا أشعارهم وتواريخهم وفلسفتهم، ضاربين صفحاً عما كتبه بعضهم في الرياضيات.
على أن العلوم أخذت في الانتشار رويداً رويداً منذ القرن الخامس عشر. فتعددت الاكتشافات، وزادت الأرباح، وتكاثرت المداخيل الآلية فانصرف الفكر البشري إلى العلم التجاري، وأمسى الفن شهيداً تقام له هياكل العبادة في أرواح الأفراد المفكرين من البشر. فالقرن العشرون الذي ندعوه عصر المدنية والنور ليس إلا عصراً ميكانيكياً تجارياً!. . .
قال رسكن الناقد الفني الكبير: كل شعب يرتقي عنده الفن إلى ما يقارب درجة الكمال تسقط مملكته وتتلاشى عظمته.
لست أدري إذا رأيت في حياتك صورة رسكن، أيها القارئ اللبيب. أما أنا فقد رأيتها! وكثيراً ما أنظر إليها فأحاول نتف شعر لحيته عندما أذكر جملته هذه.
إني أجهل أي عاطفة دفعته إلى كتابة هذه الخاطرة القاسية، ولست أدري كيف يفسرها لو كان حياً. ترى كيف يمكننا أن نقدر قدر المصريين لو لم تكن لدينا بقايا هياكلهم وتماثيلهم ونقوشهم، ونبوغ اليونان أن لم يكن بآدابهم وفنونهم، وعظمة الرومان إن لم يكن بفلسفتهم وشعرهم؟؟
وإذا قابلت الشعوب الآتية بين هذه البدائع الفنية القديمة وبين آثار أجيالنا الحاضرة، كبرج إيفل مثلاً. . . ألا تظن أنهم سيحكمون بأننا، نحن أبناء الحاضر، سليلة ابن نوح الملعون من أبيه خلقنا كي نكون عبيد أبناء عمينا المباركين، أبنار القرون المنصرمة؟
يقول بول بورجه أحد أعضاء الأكادميا الفرنساوية اثنان يفهمان الجمال الفني: العالم الراقي والفلاح الساذج. وبين هاتين الطبقتين، طبقة البشر العادية وهي كثيرة العدد، ضيقة الفكر، قاصرة المدارك، باردة الروح. ثم يأتي رسكن ذو اللحية المنتفة قائلاً: إن الفضيلتين اللازمتين لمحب الفن هما الحنان والصدق. وكلاهما محق، بل أن كلام الواحد منهما يفسر فكر الآخر.
يعني رسكن أن كل مصور، أو شاعر، أو موسيقي، أو نقاش يجب أن يكون سريع التأثر، رقيق العواطف، دقيق الملاحظة، صادق القلب أهلاً لأن يكون ترجمان الروح، وناقل بدائع الأحلام من عالم الأوهام إلى عالم الوجود والإفادة. وهو يشترط في الشاعر والمصور الحنان قبل الصدق لأن الحنان عاطفة طبيعية ثمينة، وأما الصدق فهو
عادة جميلة يكتسبها الإنسان بالتربية الحسنة، والدرس، ومعاشرة الصالحين، ومناجاة الطبيعة. فلا تجد هاتين الفضيلتين بقوتهما العظيمة إلا في فؤاد العالم المفكر وفي فؤاد الفلاح الساذج، والاثنان أخوان!
أجل! لقد احتضنت روح الإنسان الفنون الجميلة منذ فجر المدينة، لكن ذاك الارتعاش الطاهر لم يعد مالكاً على قلوبنا. لقد تلاشت أفكار آبائنا العظيمة وتحولت قوتهم في الأبناء إلى اقتدار على اختراع الآلات المتنوعة، والجهازات الغريبة. وفي هذه وفي تلك من الاختلال بقدر ما في أجسام البشر من الاختلاط والتناقض. وأما الغرض من كل هذه الاختراعات المذهلة فهو ينقسم إلى قسمين: الأول خدمة احتياجات الإنسان الجسدية، والثاني، قتله بسرعة وسهولة. . .!
ولكن العلوم الراقية المجردة عن أطماع التجارة والأرباح، كالتي انعكف على إتقانها غليلوس ونيوتن وبسكال فنحن نضعها في صف المعارف الثانوية. . . لأن حب المضاربة والمكسب يصرعنا كما تصرعنا بهرجة الاكتشاف والاختراع.
ألا تظن أن ذلك المفكر العظيم نيوتن الذي استنتج من كيفية سقوط التفاحة قاعدة الناموس
الأبدي الذي يدير حركة العوالم الهائلة - ألا تظنه ناشئاً من نبت أفضل وأجمل من نبت تكوّن فيه فكر مخترعي الأجراس الكهربائية، والعجلات والفونوغرافات؟ ألا تظن أن هذه الاختراعات الدقيقة، الجميلة في ذاتها، تبرهن على دناءة الفكر العصري، وسقوط النفس البشرية من أوج الجمال إلى هوة التجارة، حيث تتطلب