الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليتني عندما أحببت نداء الله
…
أخبرتُ حين جاء النداءُ
كنت أوفى عهداً وأرعى إِخاءً
…
أن مثلي لديه يُرعى الإخاءُ
شغلتني عنك الشؤونُ ببعدٍ
…
علم الله ليسَ فيهِ جفاءُ
تعبٌ كلها الحياةُ لعمري
…
وعناءٌ لا ينتهي وشقاءُ
عشتَ في الدهر تشتكي ألم البؤ
…
س وحظُّ الأديب ذاك البلاءُ
هكذا هكذا الأفاضل تشقى
…
في حياةٍ وتسعد الجهلاءُ
أن حظَّ الأديب أضيقُ حظٍ
…
حُسبَ الفضل قسطه والذكاءُ
فإذا عاش فالهجاء نصيبٌ
…
وإذا مات فالرثاءُ الثناءُ
كل من مات ظامئاً لم يفدهُ
…
أنهُ بعده يفيض الماءُ
أو يجدي المدفونَ عمران قبرٍ
…
فيهِ جسمٌ عليهِ يجري الفناءُ
ليس للمرءِ في الحياة سوى يو
…
م سرورٍ يطيب فيهِ الهناءُ
إنَّ هذي الحياةَ من عاشَ فيها
…
ألفَ عام أو ساعةً فسواءُ
فحياةُ الأديب داءٌ عضال
…
وممات الأديب نعم الدواءُ
العرب
أنا قاتل عصفوري
في فجر يوم من أيام الربيع، بكرت إلى رواق من منزلي في وسط سهل يقبع، يشرف على حديقة غناء، ومروج ملونة بين خضراء وحمراء وصفراء.
جلست إلى تلك المناظر البديعة، الجامعة بين اعتدال الطقس
وسكون الطبيعة، أروح النفس في فضاء أرجائها، واملأ العين من بديع بهائها، ولم تكن الغزالة بعد أرسلت أشعتها أو بأن سماطها، وقد أخذت الطيور تغادر أعشائها وأوكارها، وترسل في الفضاء الهادئ شجي أصواتها، ما بين هديلٍ وسقسقة، وسجعٍ وقطقطة، فكان من مجموع تلك الأصوات الرخيمة العذبة، ذات الألحان الشجية، جوقة موسيقية، ألفتها القدرة الألهية، لعبادته سبحانهُ وتوحيده، ولقنتها الكائنات شكرها له على سوابع نعمه وللاستزادة من رحمته وجوده.
وأنا في ذلك الاستطراد من حالٍ إلى حال، ما بين مشاهدة الطبيعة وركوب الخيال، حط بي الطوف عند كناريين، متماثلين في حسن الحلية وجمال المنظر متحاكيين، يتداعبان فوق غصنٍ وهو يميل تحتهما أو يختلج ويضطرب، كما شاء أو شاء لهما الحب واللعب، ثم يعود فيتثنى أو يستقيم، كأنه راحة بسطتها الطبيعة إليهما للتسليم، أو ذراع تهدهدهما به تهدهد الأم لابنها الفطيم على سماع نوس هبات النسيم.
أقر هذا المشهد ناظري، وبدا لي التأمل فأخذت أتأملهما والسرور آخذ بعطفي، ذلك والعصفوران في مداعبة وطفر، وكر ومفرّ، هذا يجثم، وذاك ينقز أو يدوم، هذا يرفرف حول ذاك أو يزف، وذاك يدف هرباً من هذا أو يسف، ثم يهفان إلى الأرض يمرحان ويتلبدان، ويعودان إلى الغصن يجتمعان.
شاهدت ذلك مبهور النظر طروب السمع، فهبت بي عاطفة الاستئثار والميل إلى الجشع، فمددت لذينيك المتحابين السعيدين شركاً
اصطادهما به، حتى كان صباح الغد وافيت الشرك فرأيت أحدهما فيه.
مضى الربيع وتلاه الصيف وأعقبه الشتاء، والعصفور ملكي أفعل به ما أشاء، وقد حبستهُ في قفصٍ ذي صنع بديع محكم البنيان، وشكل جميل بهي الألوان، وكنت أتعهده بكل صنف تمكنت من جلبه من صنوف مطعم البغثان، ولكن العصفور كان قليل الأكل مقهم الشهوة، نادر الاستحساء نزر النغبة، وكان كلما ازددت به اعتناءً واهتماماً، ازداد مني نفوراً واعتصاماً، أو جئت أستميله تململ وتلوى، وكأنه يشكو جراحاً بالحشى أو أنه كره مقامه
واجتوى.
انقضى فصل الشتاء وأنا أعالج نفرته ووحشته، وأراود سآمته وكأبته، وأخذت لذلك بجميع أسباب رفاهية الطيور وراحتها، واحتلت بصنوف الحيل التي تؤدي إلى استمالتها، فلم يكن ما يستمال به ويرضيه، أو يحفف من زهده في حياته ويسليه على يأسه من تحقيق أمانيه.
جاء الربيع وأخذت الكائنات المرئية تتحلى بحلاها البهية، والطبيعة تعرض مصنوعاتها السنية، قمن زهرٍ تبسم عن ثغره، وشجر جاد بثمره، ونسيم سرى بنسماتِه، وجدول جرى هادئ في منعرجاته، وبرزت الطيور من مكامنها، وعادت تصدح على أفنانها، ولكن طيري لم يشترك مع بني جنسه في أفراحهم ومسراتهم، كأنه لم يكن منهم وهو بعيد عنهم وعن مختلفاتهم، حتى كان صباح يوم وأنا في شغلٍ شاغل، طرق أذني صدح شجيٌ متواشل، فأسرعت مستبشراً فرحاً إلى وجهة مصدره، استعلم عن مرسله وأتحقق صدق خبره، فألفيت كناري
مضطرباً هائجاً في قفصه يروح ويجيء لا يستقر، وقد عاينته في مجيئه ورواحه ملازماً جانباً واحداً من قفصه، وناظراً صوباً واحداً لا يحيد عنه حدقة بصره، فاتجهت وجهته انظر فرأيت على زجاج النافذة المطبق، كنارياً آخر قد انشب مخالبهُ في الأفريز منه وتعلق، وناءى بجؤجؤه فارشاً جناحيه على الزجاج، وقد فتح منقاره يلهث تعباً مع اضطراب في الجسم واختلاج، وهو يحدُج إلي حيناً ويحدق إلى العصغور السجين حيناً، ويتبادل معه صدحات متقاطعة متداركة متواصلة مملوؤة حناناً وحنيناً. كأنها أُحاح مكروب مكدود، أو همهمة مصدور مفؤود، طال عليها العهد، ولم يقو على حبسها عن النفث بها منه جهد، فأرسلها رنيناً ثم أدركها نادماً وأراد إخفاءها أو ملاشاتها بين جوانحه فتراجعت مترددة في فيه مسممةً لها في قفص الضلوع منه هنيناً.
نظرت وسمعت فحرت في أمري، وبقيت لا أعي فعلاً آتيه ولا أدري، وفي هذا الحين وقف العصفور المحبوس بغتة وأرسل صوتاً ليس بالصدح المألوف، ولا بالتغريد المعروف، وإذا هو كرير صدرٍ مثقل بالغموم، وتأوه فؤاد مكلوم، زفر به صاحبه زفيراً، مد به النفس حيناً فكان شجياً مثيراً، ثم رمى به فإذا هو بقية روح كان الأمل قد حبسها عند حد التراقي، ودفع بها اليأس فغادرت صاحبها قتيل الاستبداد والاسترقاق
ملكتُ جسمه وحياته ولم أملك فؤاده وعواطفه وهو الحر الكريم فكنت قاتله
أيها المستبدون اتقوا الله في خلائقه وعباده
فيليب مخلوف