الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إيماءة زائر
إلى بعض ما بأورشليم وبيت لحم من الصدقات الجاريان والمآثر الباقيات
إن شوقي إلى أول أرض طلعت عليها شمس الإنجيل حملني هذه السنة على زيادة أورشليم وبيت لحم. فأبحرت من بيروت يوم الجمعة ثالث حزيران ومعي ابن عمي ميخائيل فانتهت بنا الباخرة إلى مدينة يافا عصر السبت ونزلنا عند الآباء الفرنسيسيين الكرام. وبعد ظهر الأحد علونا متن الباخرة البرية نريد بيت المقدس فلم ينقض إلا أربع ساعات حتى نعمت العين برؤية المدينة المقدسة لكن لا بالأعمال الصالحة بل بقتل الأنبياء ورجم المرسلين وصلب المسيح.
ولقد تذكرت والقطار بنهب تحتنا الأرض ما كان القدماء يكابدون من مشاقِ السفر ومكارهه فقلت أين سرعة تلك اليعملات والهملَّعات والعُذافرات من سرعة هذا القطار. وأين العصور الخالية من عصر البخار والكهرباء الذي انبسط فيه سلطان العقل على القوى الطبيعية فسخرها لخدمة الجمعية البشرية حتى هان الصعب ولأن القاسي. ودنا العاصي. فصار يتسنى لنا السفر إلى الأرض المقدسة بل إلى أقصى المعمور براحةٍ وأمان حتى إذا قلنا السفر راحة ونزهة لا نكون قد أخطأنا كما أن
الذين قالوا السفر قطعة من العذاب لم يخطئوا فكل يصف السفر على ما هو في عصره.
هذا ولقد رأيت هنالك من آثار رجال الفضل والخير الحاملين لواء المحبة البشرية ما دعاني إلى أن اكتب هذه الرسالة القصيرة إشادة بذكرهم وإثارةً لما في أفئدة غيرهم من كامن الرحمة وقد استحسنت أن أقدم على ذلك كلاماً في دواعي التعظيم والتكريم لتلك الديار الفلسطينية فأقول
لا بدَّ لتفضيل بقعةٍ على بقعة من داعٍ ذاتي أو داعٍ خارجي. أما الداعي الذاتي فهو جودة التربة وطيب الهواء وعذوبة الماء ولذة الثمار وحسن الموقع والخصب.
وأما الداعي الخارجي فهو ما يأيتها أما من رجل ممتاز بعلمٍ أو باختراع، وأما من حادثة عظيمة تقع فيها كذي قار والجفار وذات الرمرم وهي مواضع جرت فيها وقائع حروب فقالوا: يوم ذي قارٍ ويوم الجفار ويم ذات الرمرم. فكل بقعةٍ توصف بإحدى هاتين الصفتين أو بكلتيهما تحوز الكرامة في عيون الناس. فهل شغف الناس بزيارة الأرض المقدسة إلا لما طبعوا عليه من العناية بحفظ آثار العظماء والفضلاء وكل من عرف بمنقبة أو اشتهر
بحادثة كبيرة أو باختراع نافع فهم يتغالون بأثمانها ويتفاخرون بإحرازها. فيا لحسن بخت من توجد عنده اليوم رسالة بخط ذي القرنين مثلاً أو بخط إسناده أرسطو الفيلسوف فيتزاحم أغنياء الغربيين على اشترائها بأغلى ثمن كما يتزاحمون على شراء جوهرة كبيرة
صافية فهم يتخذون مثل ذلك حلية خزائنهم وآية عظمتهم.
وكما طبعوا على العناية بحفظ آثار العظماء طبعوا أيضاً على الحنين إلى كل بلدٍ نبغ فيه فاضل أو خرج منه عظيم حتى إذا حانت لهم فرصة لزيارته اغتنموها تبريداً لغلة الشوق بلقائه أن حياً وبرؤية بلده أو بيته أو رمسه أن ميتاً فهذا عاهل الألمان قد زار يوم كان في دمشق قبر صلاح الدين الأيوبي ووضع عليه أكليلاً أجلالا لذلك الملك المشهور بالبسالة والحزم ولم يردّه عن تكريم الرمس ما كان بين ضجيعه وبعض ملوك الألمان من الوقائع الحربية.
ولقد جربت ذلك بنفسي فإني لما كنت العام الماضي في طريق حلب لم أكد أحول نظري عن جهة المعرة حتى جاوزت وذلك أن في قلبي حنيناً إلى بلدةٍ تشرفت واشتهرت بأنها مولد أبي العلاء المعري.
فكم من بلد شرف من أجل أنه مولد شهير. وكم من بقعة عظم قدرها وبعد ذكرها لما أنها مدفن عالم نبيل أو فيلسوف عظيم أو فاتح عزيز. فهذه جزيرة القديسة هيلانة قد انتشر ذكرها في كل ناحيةٍ من الأرض لمجرد أنها كانت منفى نادرة الزمان بل يتيمة الأيام نابليون الأول عاهل الإفرنج. وهذه تواريخ المدن والممالك لا يُذكر فيها الأمن تنبه بهم أوطانهم وتعتز بهم بلادهم فيجعلهم المؤرخون قلائد على أعناق تلك الممالك وتيجان مجد على رؤوس تلك الأمم. فإذا كان إلى هذا الحد يبلغ أعظام الناس لأوطان المشاهير ومنازلهم وقبورهم فماذا عسى يكون إعظامهم للأرض التي ولد ونشأ فيها السيد المسيح الذي أبى أن يحفل بالظاهر الحسن والباطن قبيح.
فصب كل وصايا الذين في وصية واحدة وهي المحبة التي جعلها ينبوعاً لكل حسنةٍ وفضيلة وجعل كل ما سواها من التكاليف الدينية وقايةً لها
بل ماذا عسى يكون شرف أرض وطئها مشترع تنقاد إلى أنجيله ممالك ضخمة وأممٌ عظيمة قد صارت بقية أمم الأرض تقفي على آثارها وتنهج منهاجها تعلم أمة تهوى الفلاح
ولا تجري وراءها متبعةً خطاها في العلم والصناعة والزراعة والتجارة. فهذه المملكة اليابانية لم تصعد من هاوية الجهل والخمول إلاّ باقتصاصها آثار الممالك التي انبسط عليها نور الإنجيل
أورشليم - هي مدينة يقصدها الإسرائيلي لأنها كانت قاعدة مملكتهم وفيها كان هيكلهم العظيم ويزورها المسيحي تبركا بما بها من الآثار المسيحية ويردها المسلم ليزور الجامع الأقصى فتلك الآثار الدينية التي تجرّ الناس إليها من قاصي الديار ودانيها قد صارت أشهر من أن تذكر وأعرف من أن توصف. فإن استغنى بلدٌ بذكر اسمه عن التعريف فأورشليم وبيت لحم لا يتقدمهما في ذلك بلد في المعمور. فليس في المشرقين أبعد منهما ذكراً ولا أشرف منهما أثراً فلا أجد حاجة إلى وصف تلك الآثار وإن كان تأثيرها في نفسي كتأثير الماء على الكبد الظمأى إذ لا إخال أحداً يتلو كتب العهدين ويمرّ بأسماء كثير من الأمكنة التي تردّد إليها السيد المسيح ورسلهُ وصنع فيها الآيات كبيت عنيا وقانا الجليل ما لم تلتهب بين جوانحه لواعج الشرق إلى زيارتها.
ولما رأيت القبر المقدس الذي تمسح به المسيحيون والمهد الذي يتبركون بزيارته ثم رأيت ما رأيت من الأديار الكبيرة والمدارس المجانية والمضايف الواسعة النظيفة الحسنة الأثاث التي تكرم مثوى الزوّار وتستحسن وفادتهم فتقدم لهم مثل ما يقدم للغني السخي في بيته. فعندئذ تخيلت تلك الآثار المكرمة قد استحالت ينابيع ذهب يعيش عليها خلقٌ كثير. وتمثلت جبل الجلجلة وبستان الزيتون وادي تبر وقلت في نفسي لو جمع ما أنفق الزوار في طريق الأرض المقدسة من لدن ابتداء النصرانية إلى اليوم لربما وازن ما على جبل الجلجلة من التراب. فأورشليم هي معرض الكرم المسيحي الأوربي فكم للآتين والروم والبروتستانت هنالك من أيادٍ بيض على نصارى تلك المدينة وسائر الأرض المكرمة فثمة من المدارس والمياتم والمضايف ما يقضي بالفضل لأصحابها وينادي بلسان حاله هذه الثمرات الطيبة إنما هي ثمرات الإيمان.
ألا وان الأرض المقدسة كلها ألسنة تنطق بفضل الآباء الفرنسيسيين الذي تقدموا الجميع في هذه المبارّ فالمسيحيون هنالك سابحون في غمر مكارمهم متقلبون على بساط نعمهم فهم الذي يجمعون الحسنات الجمة من مسيحي أوربا وأميركا لينفقوها على المسيحيين من قطان
الأرض المقدسة وزوارها. سعيد // الخوري الشرنوني
ويلي ذلك كلام عن المسجد الأقصى ووصف ابن خلدون له سنذكره في العدد القادم.