الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حلب الشهباء
موقعها - قدمها - أصل اسمها
ما نحن من يصف قدرها الخطير ومحلها الأثير أو يطنب في بسيطها المشهور وما تجده النفس فيه من الانبساط والسرور ولا من يتغزل بظلها الضافي ومائها الصافي وسعدها الوافي وانوارها المشرقة وأزهارها المونقة وأشجارها المثمرة المورقة. ولا من يقف على أطلالها فيندب كبار رجالها ويبكي منازلها وديارها وينعي سكانها وعمارها. ولا بالنتيجة من يجدها من (الشام) الواسطة من العقد والقلب من الصدر والإنسان من العين. إلى ما أشبه هذه من ألفاظ مبتذلة وفواصل باردة وقفت عندها البدائه فلاكتها الألسن وتداولتها الأقلام دهراً طويلاً فما زادت هذه المدينة تعريفاً ولا أجدت في حقيقة حالها شيئاً مذكوراً.
وإنما نضرب عن ذلك كله لقلة فائدته إلى أن حلب مدينة عهيدة دالت بها الأحوال والدول بين العزة والذل والقوة والضعف والرفعة والانحطاط شأن سائر بدلا الله العديدة فكان لها في غالب الأحيان من الأسباب والوسائل ما تدرجت معه في مراقي العمران والحضارة وأصابت
من زمن بعيد من الخطورة والأهمية ما جعلها من أمهات البلاد السورية على ما هو مقرر بالإجماع.
وجل ما نذكره في هذه النبذة موقعها وقدمها وشعوبها ومشاهيرها ومرافقها وما يتصل بها من أحوالها مستندين فيها إلى أوثق المصادر وأثبت الآثار فعسى أن تصادف قبولاً عند القراء الكرام.
إن حلب واقعة في جوف بعيد الأكناف والأطراف في جهة سورية الشمالية وتبعد عن البحر المتوسط 70 ميلاً أو 150 كيلومتراً وهي في درجة 25 َ 11 36 ْ من العرض و 9 َ 37 ْ من الطول الشرقي على ما قاله فانديك في مرآته الوضية.
تتوسد جوفها المطمئن إلى رياض وبساتين نضرة وسهول واسعة خصيبة يكتنفها ربى وتلال مجدبة قاحلة كما هو الغالب في جبال سورية ويجري إلى جانبها نهر قويق الذي دعاه كزينوفون (خالسن) ويعزى الآن إلى قويق آغا الذي أصلحه وكان يلقبه أهل الخلاعة (بأبي الحسن).
ولا تبدو حلب للمسافر إلا عن كثب فيراها متراصة مركومة بعضها فوق بعض. وأول ما يشاهده منها قلعتها المشهورة ومناور جوامعها ومآذن مساجدها وقباب كنائسها العظيمة
ومنازلها الكبيرة وبين شبهة أبنيتها وخضرة بساتينها وحمرة رباها مشاهد رائعة ومناظر فاتنة تدهش الأبصار وتأخذ بمجامع القلوب.
وكانت المدينة محاطة بالأسوار فلا يؤذن في البناء خارجاً عنها حتى ضاقت على أهلها في أواخر القرن الثالث عشر فشرعوا يشيدون من
حولها حارات بانقوسا والأكراد والهزازة والجديدة والمشارقة والكلاسة وما أشبه. وفي أواخر العصر الماضي اخذوا يبنون أيضاً أحياء الجميلية والعزيزية والتلل والسليمانية والنيال والحميدية وما يتصل بها حتى كاد البنيان الحديث يعادل القديم.
وأما حاراتها القديمة فحسنة على الجملة وأسواقها مرصوفة وأزقتها ضيقة وبيوتها مبنية من الحجر الأبيض وتشابه دور دمشق وأما أحياؤها الحديثة فبالغة حد الإتقان وأبنيتها متقنة الهندسة وشوارعها مرصوفة الجوانب على طرز المدن المستحدثة وأطول طرقها وأوسعها طريق الخندق الذي مده رئيف باشا من دار الحكومة إلى محلة الجميلية.
وشرب أهلها من آبار نابعة ومن صهاريج تجتمع فيها مياه الأمطار ومن قناتها التي تجري إليها من جيلان على مسافة ثلاث ساعات شمالاً وتتفرع في القني إلى الدور والمساجد والخانات والحمامات والقساطل ويقال إن هيلانة أم قسطنطين الكبير هي التي جرتها إلى الكنيسة العظمى فعرفت بها ولا ريب في أن ماء حلب عذب فرات.
وشتاؤها معتدل تشتد نوافحه في شهري كانون الأول والثاني وتكثر فيهما الأمطار والثلوج وأما صيفها فليست وغرته بمفرطة ولو تصاعد فيها إلى ال 40 درجة من المقياس المئوي وذلك لنشف هوائها وهبوب الريح الغربية عليها في حمارة قيظها فتلطف أوارها وترطب هواءها في معظم ساعات النهار. ولهذا ترى حلب طيبة السكنى معتدلة الجو تصح به الأجسام.
ولكن لابد لأهلها دائماً وللغرباء نادراً من ظهور بثرة أو خراجة تسمى حبة حلب أو حبة السنة لا تبرأ قبل سنة من ظهورها وليس لها علاج خصوصي يعول عليه في معالجتها. وقيل إن سببها من الماء وقيل بل إنه من المناخ أو الهوام لأنها لا تظهر إلا في المحال المكشوفة من البدن كالوجه واليدين والرجلين وهي توجد أيضاً في عين تاب وعلى شطوط الفرات إلى بغداد.
وهي المدينة السورية الوحيدة التي حافظت على مزاياها الشرقية البحتة من حيث البناء والعيش وعادات السكان وجودة الطباع إلى أشباهها مما فقد من غالب البلاد السورية فلا عجب إن راقت هذه المدينة في أعين السياح لأنها تذكرهم في القرن العشرين بمزايا المدن الكبرى التي عمرها العرب.
قال كتبة العرب: إن اسم حلب عربي لاشك فيه وهو لقب لتل القلة. فكان إبراهيم (عم) إذا أشمل من الأرض المقدسة ينتهي إلى هذا التل. . . فكان يأمر الرعاة بحلب ما معهم طرفي النهار. . . يتصدق به على الضعفاء والمساكين فينادي الضعفاء: (إبراهيم حلب إبراهيم حلب) فيبادرون إليه. وغلبت هذه اللفظة لطول الزمان على التل كما غلب غيرها من الأسماء على ما هو مسمى به فصار علماً بالغلبة.
وأول من تنبه لهذا الوهم ياقوت الحموي فقال: وهذا فيه نظر
لأن إبراهيم (عم) وأهل الشام في أيامه لم يكونوا عرباً. إنما العربية في ولد ابنه إسماعيل (عم) وقحطان. . . فإن كان لهذه اللفظة أعني حلب أصل في العبرانية أو السريانية جاز ذلك لأن كثيراً من كلامهم يشبه كلام العرب لا يفارقه إلا بعجمة يسيرة كقولهم: (كهنم في جهنم).
والصواب أنها (حلبون) بتر العرب علامة الأعراب من ىخرها فصارت (حلب) كما فعلوا بإنجيل من أونجيليون وبطريق من بطريقيوس وبطرك من بطريركا أو فطريركيس وما أشبه. قال السيد يوسف داود إنها سريانية معنى (الخصوبة أو الصفوة) وأثبت الأب انستاس الكرملي أنها سامية الأصل بمقتضى الاشتقاق اللغوي ومعناها (المدينة الخصبة الأرض المكتنزة التراب الدسمته العلكته) وصار الأديب يوسف إليان سركيس إلى أن أصل اسمها آرامي ومعناه (اللبن أو البياض) وعندي أنه لا ينجلي أصل اسمها ومعناه إلا بعد الكشف عن كتابات الحيثيين وآثارهم.
وحلب قديمة العهد رقاها مؤرخو العرب إلى زمن ارتحال إبراهيم من أرد وحران إلى أرض كنعان على ما يظهر من الرواية السابق ذكرها وذهب كثير من المؤرخين إلى انها حلبون التي ذكرها حزقيال وكالبون الذي ذكرها استرابون وبتولماي. وقال بعض أهل التحقيق والسياحة بل هذه حلبون إحدى قرى دمشق المشهورة بخمرها وزعم
ابن العربي أن بانيها بتحوس ملك آشور ووهم قوم أن بانيها نمرود أول ملوك بابل وكل هذا يقتضي له
من إعمال النظر وما لا يسعه صدر هذه المقالة.
وما لا شبهة فيه إن حلب كانت مدينة عامرة في المئة الرابعة عشرة قبل الميلاد كما يظهر من كتابة مصرية ترتقي إلى عهد رعمسيس الثاني من الدولة التاسعة عشرة وصف فيها عامل مصري رحلته إلى شمالي سورية وذكر في أثنائها (خلبو) أي حلب مرات. وقد نظر هذه الرحلة شباس العالم معلقاً عليها بعض الشروح.
ولا يمتري أحد الآن فيما يرجحه الأكثرون من أن بناة حلب هم الحثيون الشماليون وقد كانوا شعباً قوياً نشيطاً نزلوا على سورية الشمالية فعمروها وتغلغلوا في أطرافها في هد فتوحات ملوك مصر الفراعنة التي توالت على سورية من القرن السابع عشر إلى الرابع عشر قبل المسيح وما تركه هؤلاء الحثيون من الكتابات والآثار والرسوم في نواحي حلب وحمص وحماه أسطع دليل على ذلك الترجيح.
ولما غشى رعمسيس الثاني سورية بجحافله الجرارة لقتال موتنار ملك الحثيين بسبب نقضه شروط المحالفة التي عقدها مع سلفه ساتي الأول كان ملك خلبو (حلب) إلى جانب موتنار وتحت قيادته ثمانية عشر ألف جندي فجرت واقعة هائلة على أسوار قادس دارت فيها الدوائر على الحثيين فتفرقت صفوفهم طرائق وهرب موتنار وغرق ملك حلب في جملة من غرقوا في نهر العاصي وفي صورة هذه الواقعة المنقوشة على هيكل الأقصر