الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمرات المطابع
المعلوم والمجهول
أصدر ولي الدين بك يكن الجزء الثاني من كتابه المعلوم والمجهول في نحو 160 صفحة مطبوعة طبعاً جميلاً في مطبعة المعارف المشهورة ومزينة بصور بعض الذين ورد ذكرهم في الكتاب، وبرسوم الأماكن التي عرفها المؤلف إبان وجوده في المنفى. ولو كان ولي الدين يكن من الأدباء الذين لا يكترث لهم، أو لو كان كتابه هذا من الكتب التي تهمل في زاويات المكاتب، لزدنا على ما قلناه الآن كلمة الثناء ثم وقفنا عند هذا الحد. ولكن الزهور لا تنظر إلى ما يهدى إليها من المبوعات نظرة التقريظ المبتذل فقط، ولا تكتفي بذكرها لمجرد الإعلان عنها ولاسيما متى كان الكتاب كتاب المعلوم والمجهول، والكتاب ولي الدين يكن.
طالعنا هذا الكتاب بما يستحقه من الإمعان والتدقيق فرأينا فيه أنموذجاً من السياسة العثمانية تجاه الأفراد العثمانيين في خلال ثلاثة وثلاثين عاماً من سلطنة السلطان عبد الحميد الثاني. بل هو تاريخ في شخص وليا لدين بك يكن لحياة الأحرار الذين اضطهدهم العهد العثماني الماضي. وفي رأينا لو أن كل واحد من أولئك الذين تمكن منهم عبد الحميد وحكومته، قرأ هذا الكتاب، لتوسم أنه يقرأ فيه تاريخ حياته الخاصة فما
يختلف عليه سوى الأسماء والتواريخ. أما الوقائع والظروف فمتشابهة متماثلة، وأما الفظائع والمظالم فهي هي. فإذا كان ولي الدين قد كتب في المعلوم والمجهول تاريخ اضطهاد ونفيه فإنما وصف في شخصه شقاء
إخوانه الذين ابتلوا بمثل بلواه، وقاسوا من الشدائد ما قاساه. ولولا أنه قد رأى هذا الرأي من قبل ما أقدم على كتابة المعلوم والمجهول فإن في أخلاقه من الدعة والتواضع ما يربأ به عن نشر هذا التاريخ لمجرد التباهي اليوم بما لقيه بالأمس، والافتخار بما نزل به من مظالم العهد الحميدي ولعله أشار إلى ذلك حيث قال:
لا أبالي الثناء ولا أبالي الهجاء، وإنما أبالي أن يصدق فيّ أحدهما
الجزء الثاني من المعلوم والمجهول، كالجزء الأول منه وكلاهما كالصحائف السود صورة مجسمة لنفس ولي الدين. إنني لا أعرف كاتباً أو شاعراً عربياً في يومنا الحاضر أقدر من
صاحب المعلوم والمجهول على تصوير العواطف وتمثيل الشعور. اقرأ له أية قصيدة شئت وأي مقال أردت فإنك تحس أن نفسه تسيل مع ألفاظه وقلبه يتمشى بين كلماته وسطوره. هذه الجمل القصيرة المقطعة التي لا تربطها الواوات والفاآت، ولا تتخللها عنجهية بعض الكتاب وتقعره وتصنعه في الإنشاء، وتثاؤبه في كل جملة من جمله حتى ليتثاءب معها القارئ وتجيش لها النفس، هذه الجمل المنتقاة ألفاظها، والسليم تركيبها، تؤثر في النفوس تأثير السلافة في الرؤوس.
ولقد يقول قائل إن ولي الدين في شعره أسمى منه في نثره، فأرده حينئذ إلى المعلوم والمجهول فأريه ذلك الشاعر الرقيق الحساس، ناثراً ملء قلمه الفصاحة والبيان، وملء تعابيره البلاغة والإيجاز السليم، وملء وصفه للأشياء وللحوادث سلامة الذوق، ونزاهة الفن حتى لكأنه يكتب
بريشة رافائيل فيصور العواطف تصويراً، ورسم المعاني رسماُ، وما الكاتب القدير إلا من استرق إليه النفوس، وملك قيادها فتلاعب بها ما شاء وما شاء له التفنن والإبداع، فصير قارئه أسيره وطوع إرادته يضحك لضحكه، ويغضب لغضبه. كذلك رأيت ولي الدين. فهو يرضيك ساعة الرضى ويستبكيك حين يبكي حتى تكاد تلمس دموعه لمس اليد، وتحس بناره تتأجج من خلال ألفاظه وهي تأكلها أكلاً. ولقد وقفت أنظر إليه وأتأمله في وداعه للأستانة يوم اكره على مغادرتها في الليل أسيراً منفياً، تاركاً أهله وولده، غير عالم إلى أين مصيره، وسمعته يتحسر على فروق ويتأوه على البوسفور، فخلت أني أسمع أنينه بأذني، وأرى شقاءه بعيني، وألمس جراحه بيدي. ورأيته وهو يكتب نثراً كأنه ينظم شعراً، بل رأيت في تفجعه الشعر الحقيقي مجرداً عن الوزن، طليقاً من القافية، فقلت في نفسي إنما هذا أرمياء آخر يبكي على أورشليم جديدة.
فإلى الأدباء كتاب المعلوم والمجهول فهو من خير ما تحتويه المكاتب، ومن أنفس ما يخلد فيها من نفائس المطبوعات في هذه الأيام. وجزى الله كاتبه خير الجزاء وعفا عنه.
نعمان خوري قنصل فرنسا
هو اسم رجل عرفه وعرف مآثره الطيبة أبناء الشرق والغرب فقد ولد في بكاسين من أعمال لبنان ودرس اللغات العربية والتركية والفرنسوية والإنكليزية في بيروت فنبغ فيها ولم يلبث أن سافر إلى عاصمة الفرنسيس
حيث ساعد في تحرير مجلة سياسية كان يديرها
السياسي الكبير مسيو ليون غامبتا فتمكن من إظهار صفاته الممتازة فعينه الحكومة الفرنسوية موظفاً في البلاد التونسية فكان ذلك بداية عهده في السلك السياسي. وظل صاعداً في معارج الترقي حتى عين سنة 1894 ترجماناً وقنشلياراً لقنصلية فرنسا في القاهرة ورقي بعد سنتين إلى درجة فيس قنصل وبعد أن عهدت إليه حكومته بمهمة خصوصية في بلاد الحبشة سمي قنصلاً في سيواس فعدن فجدة فحرر (في الحبشة) فالصويرة (مغادور). وفي سنة 1910 رأت الحكومة الفرنسوية أن ترقيه إلى رتبة قنصل من الدرجة الأولى. وكان في جميع هذه الوظائف التي تقلدها موضوع ثقة حكومته وإعجاب رؤسائها. وفي 15 أغسطس سنة 191 عاجلته المنية في ميدان عمله فراح شهيد الواجب. وقد رأى حضرة المسيو جان ريفول أن ينشر مآثار هذا الفقيد الكريم فطبع ترجمة حياته المملوءة بالأعمال المجيدة. وكأنه أبى أن يكيل له المدح جزافاً فشفع هذه الترجمة بخطابات التعيين التي كان يتلقاها الفقيد في وظائفه من أساطين السياسة - كفليكس فور وهانوتو ودلكاسه - وبمكاتيب وتلغرافات التعازي التي وردت بعد وفاته. يلي ذلك تآبين رجال السياسة له وخصوصاً تأبين مسيو بيشون وزير خارجية فرنسا الأسبق، وأقوال