الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هيا إلى تلك البقعة السوداء تر جماعة كالأبالسة شكلاً يتآمرون على السرقة والفتك. هناك في تلك البناية الباسقة المتلألئة بالأنوار جماعة من الشبان يتناولون بأقداح بلورية سائلاً يقتل الشعور، ويميت الفضيلة. هذا ربح مال رفيقه حراماً بالميسر، وهذا خسر ما تملكه يده فانتحر. وهناك وراء البحار دخان متصاعد في الفضاء ورعود قاصفة وبروع لامعة وأشلاء متطايرة هناك نار الحرب شبها الطمع فذهبت بالأرواح والأموال ولم تبق ولم تذر. . .
يا أهل سادوم وعامورة! إن السماء أزمعت أن تصب عليكم جام غضبها، فاقلعوا عن هذا الغرور فليس من إبراهيم يشفع بكم إلى الله. أو هل بينكم عشرة أبرار تتذرعون بهم لديه فتنجوا من عذاب اليم؟ أين نجد هؤلاء الصالحين؟ لا أدري، فتش معي أيها القارئ، فقد أعياني البحث والتنقيب، ولم أظفر بضالتي المنشودة.
حمص
بدري فركوح
محاكم الأحداث
يقف الإنسان لدى هذه المصاعب والأسباب مدهوشاً بائساً لا يدري طريقاً للعمل. لكن صاحب الإقدام والسعي لا يخيب له أمل. فيحسم الداء قبل أن يبتلى به ويدفع الأمر قبل وقوعه وذو العدة لا تعييه الحيلة التي يرجو بها المخرج من هذه المصاعب بالوسائط والذرائع التي يتوفق إلى إيجادها.
ولبيان خطورة الأمر وحرج الموقف زر السجون على اختلاف طبقاتها تر ما لم تكن تتصوره من الشرور والآثام. تر الشرط متجسداً بأجساد بشرية تعمل على خراب الإنسانية ودمارها. ت رجالاً ونساء وأولاداً أنمة قتلة أشراراً لا ناموس لهم ولا ضمير يردعهم عن شرورهم ومعاصيهم يصرفون معظم أوقاتهم بالأحاديث القبيحة الفاسدة. تصوراتهم رديئة كأخلاقهم وأعمالهم وكلامهم لا تقدر الأذن على سماعه فماذا يحل بحدث صغير يزج بمكان كهذا؟ أنلومه بعد ذاك ونعاقبه العقاب تلو العقاب لأعمال كنا نحن السبب بغرسها في نفسه. ونقول بعد هذا كله ما غرضنا إلا إصلاحه وإرجاعه إلى سبيل الرشاد. أفهكذا يكون الإصلاح وهل يتم تقويم المعوج بطرق كهذه. إن هي إلا طرق يشتم منها آثار الهمجية والظلم. آثار الأعصر الماضية المظلمة. فقد أصبحنا وعصرنا اليوم يختلف تمام الاختلاف عما سبقه من العصور الخوالي فما بالنا نستعمل ما كانوا يستعملونه في تلك الأيام؟
هل قعد الدهر بالإنسان فتقدم في كل أمر وشان إلا في مسألة القضاء والأحكام إذ ما فتق له عقله استعمال الوسائط والأسباب لتخفيف مصائب الإنسانية الصغيرة المظلومة.
اجل. فقد كان الناس فيما مضى لا يهتمون للجاني وإصلاحه بل كان جل مقصدهم إصلاح ما أضر به وأفسده فيصرفون قواهم وأوقاتهم لإرجاع مسروق واسترداد مسلوب. أما الآن فصرنا ننظر إلى المذنب الجاني نظر الطبيب إلى المريض لنرد إليه ما فقده من الحرية الشخصية لإساءته
استعمالها وقصدنا الوحيد إصلاحه وإرشاده. هذا إذ كان رجلاً مدركاً كبيراً فكيف إذا كان ولداً عاجزاً صغيراً.
ولشرح كيفية معاملة الحدث في محاكم الأحداث قد أخذت دليلنا محكمة واحدة من هذه المحاكم وهي محكمة أنفر من ولاية شيكاغو إحدى الولايات المتحدة الأمريكية وذلك لأنها كانت أول ما نشأ من نوعها في تلك الولايات ولأن كل ما قرأته وحصلت عليه من الكتابات في هذا الموضوع عائد بالفضل إلى مؤسساها الفاضل إذ تكرم علي ببعض نسخ
من مؤلفات له وضعها في هذا الموضوع نفسه.
ومحكمة انفر هذه مشهورة في تلك البلاد لشهرة مؤسسها فإنه كان منذ أول نشأته ميالاً إلى السياسة فصار متشرعاً ثم قاضياً إلى أن أحرز رئاسة محكمة ولاية شيكاغو وذلك سنة 1899 لأنه يمتاز بكفاءته وشدة ميله إلى الاستقلال الفكري والإداري. وأخيراً اهتم بأمر إصلاح شؤون الأحداث ومحاكمتهم إذ انتبه إلى حالتهم الرديئة ومعاملتهم السيئة، وبعد جهاد عنيف تمكن من إنشاء محكمة مختصة بهم للنظر في شؤونهم وأحوالهم فاستقال من منصبه العالي وأخذ على نفسه إدارتا وتنظيمها إلى أن تم له ذلك فنشأ لنجاحها عدد كبير مثلها في أغلب الولايات الأمريكية.
وإليك بيان مجرياتها باختصار:
يحضر المتهم إلى المحكمة فلا يرى هيئة المحكمة على كراسيها وراء المنابر بل عند دخوله يستقبله القاضي بوجه ضحوك ويجلس بجانبه ويأخذ بمحادثته كأنه ولد مثله إلى أن تتمكن بينهما عرى الألفة والمودة. فيثق
الولد به ويعتمده. فيفهمه القاضي أن هذه المحكمة ليست كغيرها من نوعها تهويلاً وتعذيباً فجل مرادها مساعدته لإصلاح نفسه بنفسه، ومتى وثق الولد بالقاضي ائتمنه وأطلعه على كل ما يريد الاطلاع عليه فيشرع بتشجيعه وإنهاض غيرته فيستفز حميته بالكلام المؤثر اللطيف. يلقي عليه النصائح المتعددة ويخبره جلياً بالأضرار الناتجة عن قبح أعماله وسوء تصرفه وكم يعاني غيره من جراء أعمال يحسبها هو طفيفة لا تأثير لها ولا ضرر. فيشرح له واجباته نحو نفسه أولاً ثم واجباته نحو حكومته وبدلته ومحيطه وكيف أنه بسلوكه وتصرفه يقدر هو نفسه أن يؤثر في محيطه فبلدته فحكومته بكونه عضواً حياً عاملاً على نجاحها ورقيها. ثم يريد تدريجاً وجوب إطاعة الأوامر والنظامات ويبين له كيفية التصرف والسلوك الحسن وبالإجمال فإن القاضي بكلامه وأفعاله وأمثاله ينفث فيه روحاً جديدة كانت كامنة فيه فتهيج معها عواطفه فيرى قبح أعماله السابقة وأفعاله الماضية فيندم على ذلك أشد الندم ويشعر من جهة أخرى بواجباته ومسؤوليته ويعلم أن مقابل هذه المسؤولية والواجبات حقوقاً كان قد خسرها بإهماله تلك. فيعد القاضي وعداً صادقاً مخلصاً بتغيير سلوكه ومنهاج حياته. فيطلق القاضي سراحه بعد أن يثق بكلامه تمام الوثوق. فيخرج الولد شاعراً بروح شريفة تجددت فيه ونفس نشيطة
تحثه على إتمام واجبات طالما أهملها سابقاً.
هذا هو سر المحكمة وقوامها الوحيد فإنه لا شيء يؤثر في نفس الولد ككلام اللطف المنبعث من صدر شفوق ونفس حساسة تود خيره
ونجاحه ومتى شعر الولد بذنبه وأقر به هانت طريقة إصلاحه وإرجاعه عن ضلاله.
ولكن كثيرين لا يتمكنون من تغيير سلوكهم لأول مرة وما ذلك إلا لشدة تأثير المحيط عليهم أو لتمكن عاداتهم وأخلاقهم منهم فيصعب نزعها حالاً. فتنقلهم المحكمة إلى محيط يشجعون به على عمل الحسن والمعروف فينسون أعمالهم السابقة ولا يرجعون إليها.
وإن عاد احدهم إلى سابق أعماله يعيد عليه القاضي الكرة فيسمعه النصائح والمواعظ ويورده طريق السير والعمل ثانية فيتغير بمداومة النصح والإرشاد وقد يحدث له ما يميله عنها فلا تؤثر فيه. فترسله إذ ذاك المحكمة إلى إحدى مدارس الحكومة الصناعية التي لها علاقة بها فيدرب هناك على نظامات وتعاليم تؤديه طريق الصواب والصراط المستقيم.
هذا وقد يبقى الواحد مع كل هذه الوسائط ميالاً إلى الشر لا يحيد عنه فيعسر طريق إصلاحه وهذا نادر شاذ ولا يقاس على الشواذ.
توفيق جريديني
قالن ابن المقفع:
ليس من خلة هي للغني مدح إلا هي للفقير عيب: فإن كان شجاعاً، سمي أهوج؛ وإن كان جوّاداً، سمي مفسداً، وإن كان حليماً، سمي ضعيفاً؛ وإن كان وقوراً، سمي بليداً، وإن كان لسناً، سمي مهذاراً؛ وإن كان صموتاً، سمي عيياً.