الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعر
(2)
الوجه اللفظي والوجه المعنوي
إن حقيقة الشعر لا تتوقف على الوجه اللفظي الذي مراده الوزن، فإن للوجه المعنوي فعلاً كبيراً في ماهية الشعر لا بل هو الروح، وقد قال أرسو وهو أول من كتب في فلسفة الشعر: إن حقيقة الأشياء هي التي تميز القول العشري عن ماهية غيره وتجعل الشاعر شاعراً وليس هيئة الشعر.
وأنت إذا قرأت تليماك أو تصفحت الشهداء يخيل إليك تارة أنك تسرح في رياض زاهية زاهرة، وتمرح في مروج باهية باهرة، وطوراً تنظر قصوراً شاهقة، وتشعر كأنك على ظهر سفن تنساب بك في الدأماء، وأحياناً تحلق فوق ذيل الهواء، وتشاهد السحب الزهراء مبعثرة في بساط الزرقاء، وغير ذلك بحيث تثور في باطنك لواعج الأشجان في مآزق الكروب وأمام أوصاف الحزن. أو تجيش بك
بواعث الإعجاب والاستحسان تجاه مناظر الكون، بيد أنك في كل ذلك تكون منيطاً طرقك بصفحات الكتاب.
وكأني بك تقول وإذا كان ذلك كذلك فما بقي وراء الشعور وماذا يفيد إذن الوجه المعنوي في الشعر؟ قلت إن أرباب هذه الصناعة أجمعوا على أن هذه المحاكاة المخيلة لا تعد شعراً بأي وجه من الوجه وليس في هذا القول اثنان. فللقريض في الأقاويل الشعرية مزية كبرى. فهو أحق بأن تفرغ فيه المعاني الشعرية السامية والعواطف الرقيقة. وإذا تتبعت ذلك استقراء تدركه من تلقاء نفسك، فإنك إذا أطلقت للقلم العنان في مجال وصف، وأرسلت فيه الكلام إرسالاً يأتي عليك وقت تتقد فيه العواطف اتقاداً وتمتلئ النفس حماساً، وتشعر بضيق نطاق العبارة المرسلة فتهجم عفواً على العبارة المتوازنة المسجعة وهي ضرب من الشعر.
ثم أن القريض من شانه أن يحرك أوتار النفس ويبث فيها ثورة وانفعالاً بمعنى أنه يولد فيها العواطف وينمي فيها روح الجمام والنشاط ويرغبها ويطربها ولقد صدق من قال: إن الشعر أشبه بزمام مجمل يمتلك من النفس ويديرها كيفما شاء.
ومما لا ريب فيه أن للقريض نصيباً وافراً في اللذة التي تخالج أفئدتنا والسهولة التي تخدر
أعصابنا عند تلاوة الشعر أو سماعه. فلولاه لتعذر على أي كان أن يأتي على آخر قصيدة مؤلفة من مئة أو من مئتي بيت فأكثر نظراً لذبول زهرة العواطف وإخماد انفعالات النفس الحماسية التي يستحيل أن تظل مضطرمة. كذلك إن المعاني إذا طالت متتابعة لابد
أن تهي وتتخللها ركاكة ولكن القريض يوجد اللذة مستمرة رغماً عن طول القصيدة وما ينتج من الملل والسأم.
غير ذلك فالقريض كسمير للشاعر أو هو كعروس الشعر. يرزقه إلهاماً ويفتح عليه مغلق الكلام ويفجر له عيون المعاني. ولقد يقر بذلك كل من اعتاد ركوب بحر الشعر. وعلى ما يحكى أن المتنبي كان دأبه إذا عمد إلى الصناعة أن يتغنى ويصنع، حتى إذا ما توقف رجع إلى الإنشاد من أول القصيدة إلى حيثما توقف، وبذلك يأتي عليها بكرة. وعلى هذا المذهب حذاق الشعراء لما فيه من قرب المدرك.
هذا هو فعل الوزن في الأقاويل الشعرية.
ثم أن هناك فرقاً آخر يبعد القولين - الشعر والنثر - بعد الخافقين. فإن للشعر خواصاً وأساليب انفرد بها ولا تصلح أن تكون لغيره، وهي كثيرة يضيق نطاق هذا العجالة عن حصرها.
فمن ذلك أن الشاعر كثيراً ما يكتفي بالحذف والزيادة ويشير إلى معانٍ بطريق التلميح والإيجاز.
يذكرني طلوع الشمس صخراً
…
وأذكره لكل غروب شمس
فهاتان الصورتان=طلوع الشمس وغروبها - تؤديان حسناً المعنى الذي أشارت إليه الخنساء. فطلوع الشمس كناية عن جمال أخيها ويحتمل أن الغروب يذكرها انزواءه. وقيل أن المشهد الأول كناية عن الغارة والغروب عن الضيفان.
وهذا وماثله يدخل في صناعة الشعر. ثم أن الشاعر يكثر من تقديم
القيود على المقيدات والصفات على الموصوفات وإعادة الضمير إلى ما يريد تجاهله أو التعريض به. ويسهل على الشاعر أيضاً أن يفصهم عرى الروابط اللغوية والوصل والمتعلقات بقدر ما تسوغ له الجوازات الشعرية وليس في النثر شيء من ذلك فإنه إذا نحي فيه منحى الشعر ساق ذلك إلى الالتباس والاستغراق.
ومعلوم أن المعنى في الشعر أقرب إلى الفهم مما في النثر. خذ مثلاً مرثية المتنبي في أم سيف الدولة واقرأ الصدر من كل بيت فتدرك عفواً المعنى الذي تضمنه العجز.
ناهيك أن الشعر كلف بالتشابيه الرائعة والمجازات البديعة والكنايات المستملحة والمبالغات الظرية، فإذا نما فيها وأنمى أطرب الألباب وبلغ مبلغاً عظيماً من الألذاذ والإعجاب بخلاف النثر فإنه إذا تعددت فيه الصور المخيلة والتشبيهات والمجازات ظهرت به الكلفة واستولى على القارئ سأم أو مجه الذوق كارهاً. ولئلا يقال إننا نرسل الكلام اعتباطاً، دونك قطعة من مقالتي الغربة والغربية للإمام شهاب الدين الخفاجي:
لما هزتني أريحية الشباب، إلى اقتعاد سنام الأرض على غارب الاغتراب، وقد أجدبت الأرض من كل ماجد، يجتني جنى المجد ويجني له ثمار المحامد، وتعطلت من كريم تلتف عليه المحافل، وتسير في ظلال أعلامه الجحافل. . . اقسمت ببيت سالت ببطحائه أعناق المطايا، وثمل ركبانه بكأس السرى في الغدايا والعشايا. آه. .
في ذلك كفاية ليشعر ذو الذوق السليم ببدء سآمة، مع أن لهذا