الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين هدى وأدما
عود إلى تمدن المرأة العصرية
قرأت أدبية بيروت كلمتي بين هدى وأدما فأغضبتها وهي على ما هي عليه من لين العبارة ونعومة المعنى وقرأت ردها علي فأخذتُه بحلم وسعة صدر على ما فيه من القوارص والمغامز فكان غضبها وحلمي دليلين على نقيضين: ضعف النساء ورصانة الرجال.
قبل الموضوع لي ملاحظة:
أولاً: عتبت الآنسة أدما ورفيقاتها على صاحب الزهور لأنه وسع لمقالي صدر مجلته فهي إذن تريد أن يباح القول ويمنع عن فريق آخر، ويصدر الحكم لصالح الفريق الأول. فالداعي وإن لم يكن من القضاة ولا المحامين يرى أن استئثار خصم بالكلام دون الآخر يجعل البحث والحكم باطلين، وهي حقيقة بديهية ما كانت لتخفي على الآنسة أدما ورفيقاتها لولا ثورة العواطف. ولو أنهن رغبن بحرية الكلام وإباحته للخصوم لأثبتن رحابة صدرهن. أما الآن فقد سجلت السيدة أدما ورفيقاتها المندهشات على أنفسهن واحدة من تلك المميزات التي تؤكد ضعفهن وتكون حجة للرجال عليهن.
ثانياً: جاء في ردها فإذا كانت المرأة الآن كما تزعمون فلأنكم أنتم أردتموها كذلك يا معشر الرجال.
هنا قررت الآنسة الأديبة ضمناً أحقية دعوانا وسلمت أن المرأة هي
فعلاً كما وصفناها وإن حالها تستدعي العلاج العاجل لكنها ترى أن المرأة ما أصبحت هكذا إلا لأننا نحن أردناها هكذا.
معنى هذا: إن النساء ما هن إلا مخلوقات وجدن لإرضاء الرجل لا غير.
أيرضيك هذا الاستنتاج المنطقي يا سيدتي؟
ثالثاً: كتبت أديبة بيروت المتحمسة جداً ثلاث رسائل طالعناها بشغف وأثنينا على همة ونهضة ناسجة بردها إلا أن النقطة الوحيدة في الرسائل الثلاث هي أن في النساء فاضلات وأيدت ذلك بالحجج الدامغة، وأن في الرجال غير فاضلين وأثبتت ذلك بالبراهين الناصعة كل هذا صحيح، وكل هذا مسلم به، ولكن ليس هنا الموضوع.
مثلاً: أب له عشرة أولاد خمسة ذكور وخمس أناث. في الذكور ولدان شقيان وثلاثة
فاضلون. وفي البنات اثنتان فاضلتان وثلاث شقيات. أراد الأب إصلاح ما أعوج في الأناث الثلاث فأجبنهُ: ما لك ولا صلاحنا ألا ترى أن في أولادك الذكور شقيين وأن بيننا نحن فاضلتين، فما دام بين أخوتنا الذكور أشقياء وما زال بين شقيقاتنا فاضلات دعنا في جهلنا.
أجواب البنات الثلاث مقنع سديد أم هو برهان فاسد؟
وجوابك يا سيدتي لا أراه مستنداً على دعائم أوطد. ولما كان في النظريات الصرفة بعض الصعوبة اسمحي لي أو أورد حكايتي مع امرأتي قديماً وحديثاً وهو بحث واقعي لا يحتاج إلى فلسفة وقولي لي إذا لم تكن حكايتي هي حكاية سائر الفتيان والفتيات التي تحدث كل يوم: يا طير
والأمثال تضرب للبيب الأمثل.
لما كنت عازباً وقد مضى على ذلك زمن ليس باليسير كنت أحسبني لا أتزوج أبداً لدواع لا محل لذكرها أهمها اعتقادي بعدم مقدرتي على القيام بكل الواجبات التي تطلبها المرأة إلى أن علقت يوماً بفتاة فتانة.
ترددت على بيت أهلها وبعد المعاشرة عرفوا أميالي ولم يقصدوا منعي عن فتاتهم فأخبروني بأنها كما أحب:
عمرها 18 سنة، تتقن فن الطبخ، وتعرف أن تهيئ ألف شكل وشكل، غير مكترثة بالمودة، ولا تحب النظر إلى الأكبر منها وهي فوق ذلك تحب تدبير بيتها بنفسها ولا تتكل على الخادمات في شيء، فضلاً عن أنها تحب اللغة العربية لغة أهلها وهي تكاد تكون متعصبة لها.
وكان الهوى قد دب في الصدر وقضى على بقية كانت لا تزال تحبب إلي العزوبة فاستسلمنا للأقدار وعقد الزواج.
مضى شهر العسل وابتدأت المعيشة البيتية العادية، فماذا رأيت؟
علمت في أثناء الحديث أن عمرها 24 سنة لا 18 وقالت معتذرة: لا تزعل. فنحن النساء نخصم دائماً 30 بالمئة على الأقل من عمرنا.
فقلت: قيدنا الأولى يا سيدتي وبتنا ننتظر أخواتها.
أتيت يوماً إلى البيت فلم أجد الطعام جاهزاً فسألت عن السبب فقالت مولاتي: الخادمة
متمارضة وأنا لا أعرف من شغل المطبخ شيئاً. ففي بيت أهلي كان لكل عمله: لي الزينة والنزهات، وللطاهي الطبخ،
وللخادمة التنظيف وما أشبه. .
فقلت: قيدنا الثانية يا سيدتي.
لم تمض مدةٌ وجاءتنا سيدة من المثريات كثيراً تلبي من الملابس الثمينة ما يدهش وعليها من الحلي ما يقدر بمئات الجنيهات وربما الألوف. فأخذت سيدتي تسألها عن هذا وذاك وهي معجبة مفتونة وأنا أقول: سؤالها من قبيل حب المعرفة بالشيء ولا الجهل به فقد أكد لي أهلها أنها لا تنظر إلى الأكبر منها. ذهبت الزائرة الكريمة وإذا بسيدتي تقول: ما أجمل حلقها سألت لك عن البائع فهو زيفي تعال ننزل ونشتر مثله. . . فدهشت وقلت: ولكن. .
لا لزوم إلى لكن. . أنا أعلم أن المبلغ ليس متوفراً كله معك الآن فندفع قسماً ونعطي وصلاً بالباقي فندفعه بعد سنة.
أمرك سيدتي. ولكن اسمحي لي أن أقيد الثالثة.
قيد ما تريد بشرط أن نشتري الحلق وانظر كم أنا حريصة: ما طلبت غير الحلق وتجاوزت عن المشبك وعن أسورة الماس وغيرها من الحلي.
أشكر لك تجاوزك وحرصك يا سيدتي: ثم رزقنا طفلاً صغيراً وبعد أن مننتني سيدني ما شاءت بسبب هذا المولود حسبت أنها تغير شيئاً من خصالها فتنبته إلى المنزل وتصبح حريصة حباً بولدها فضلاً عن اعتقادي أنها ستحرص عليه حرصها على عينيها السوداوين وما كان أشد دهشي حين طلبت حالاً مرضعاً. فقلت ولكن المرضع لا تنتبه إلى الولد
فقالت: شيء مضحك. وهل تريد أن أنهك جسمي. لا لا. أحضر المرضع حالاً. أما يكفيك أني أعطيتك ولداً. آه منكم يا رجال.
فقيدنا الرابعة.
جاء دور تسمية المولود. فسألتها عن الاسم الذي تريده قالت ويلهلم فيكون سمي امبراطور ألمانيا.
قلت: يا سيدتي أنا عربي وابن عربي وأحب أن اسمي ابني اسماً عربياً. أيكون اسمي حسون واسم ابني ويلهلم.
فضحكت مولاتي مني ومن اسمي وقالت ومن قال لك أني لم افتكر بتغيير اسمك. يجب أن
تسمي نفسك: إدجار فقلت: سمي ابنك كما تريدين واسمحي لي أن أبقي اسمي كما هو: بعد ها لكيرة جبة حمرا. هذا قليل من كثير مما جرى لنا وعندي زيادة للمستزيد.
فرأيت أن دوام الحال على هذا المنوال من المحال فأخذت اسعى بتحسين الحالة رويداً رويداً متربصاً الفرص السانحة الملائمة إلى أن أصبحت سيدتي اليوم من خيرة العقيلات رأياً وتدبيراً وحرصاً وطبخاً إلى آخر ما يلزم من الأعمال البيتية. .
وقد قرأت عليها ما تقدم وولدنا أمامنا يصغي باندهاش عمره خمس سنين فتبسمت وقالت: حقاً أن المرأة تجهل الحال المحزنة التي تكون فيها حتى تتغير فحينئذٍ ترى الفرق الهائل بين ما هي وبين ما يجب أن تكون فكم أنا مديونة لك يا عزيزي. . .