الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع وفيه قواعد منهجية متنوعة
.
بقي بعض القواعد الدعوية المتفرقة، التي لا تندرج تحت باب مستقل، ومن ذلك:
المطلب الأول: القاعدة الأولى: جواز ترك المستحب لتأليف الناس، ورغبةً في قبولهم الدعوة إلى الله
.
المستحب: هو الذي يؤجر فاعله، ولا يعاقب تاركه (1) .. مهما كان سبب الترك مالم يكن جاحداً مستهزئاً، فإذا رأى الداعية: أن هذا المستحب مكروه عند الناس، لجهلهم بالسنة، ويصدهم عن الدعوة، جاز له ترك هذا المستحب، بل ربما وجب عليه ذلك الترك، لما يتحقق من مصالح عظيمة، كقبول الدعوة، وما يترتب على ذلك من؛ تصحيح عقائدهم، وإصلاح عباداتهم، واستقامة أحوالهم.
وفي هذا من المصالح التي لا تفوت لأنها أكبر بكثير من مصلحة المستحب التي يمكن تفويتها لأجل المصلحة الكبرى.
وهذا الترك؛ ليس من الرياء في شيء، كما يظن بعض الناس، بل هو مقتضى قواعد المصالح والمفاسد، وقد ذُكِرت هذه القواعد من قبل مما يغني عن إعادتها.
(1) المستحب: اسم لما شرع زيادة على الفرض والواجبات، وقيل: المستحب: ما رغَّب فيه الشارع، ولم يوجبه، التعريفات للجرجاني (212)، المحصول في علم أصول الفقه (1/ 128) وقيل: هو ما طلب الشارع فعله، غير لازم، أو هو ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه، أصول الفقه لأبي زهرة (39)، إلا أن يكون جاحداً له فله حكم آخر.
ثم إن تارك المستحب لا يعاقب، فكيف إذا ترك المستحب لوجه الله عز وجل، فلعله مأجور بهذا الفعل وإن تركه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:((من ترك أمراً لله عوضه الله خيراً منه)) (1).
كما يشرع للداعية تأخير الواجب المطلق (2)
لتحصيل ما هو أوجب، أو تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة، وقد فعل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، لمصلحة الدعوة تارة، ولمصلحة المسلمين تارة أخرى، من ذلك مشروعية الجمع بين الصلاتين رفعاً للحرج.
وأما في باب الدعوة فكامتناعه صلى الله عليه وسلم عن قتل عبدالله بن أبي بن سلول، وقد استحق ذلك، وصرح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العلة في ذلك، خشية أن تشوه سمعة المسلمين ((دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)) (3)
وكتأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ثمامة رضي الله عنه قبل أن يسلم، وقد استحق القتل، رجاء دعوته، وتحسين سمعة المسلمين خارج منطقتهم (4).
(1) حديث حسن لغيره، رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 196)، والسلفي في الطيوريات (960)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (10/ 374)، واللفظ لهم، ونحوه عند أحمد (5/ 363).
(2)
الواجب المطلق: هو ما أوجبه الله دون تحديد زمن، أو عدد، والمقصود هنا الواجب الذي لم يحدد زمنه، كفرض الحج، وقد أذن للمرأة تأخير هذا الواجب إلى حين توفر المحرم.
[راجع فتاوى ابن تيمية (19/ 300)، (10 - 53)]
(3)
سبق تخريجه راجع صفحة (37)، وخلاصته: أن عبد الله هذا كان رأساً للمنافقين، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل:{لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .. } الآية في سورة المنافقون: 8، فأنزل الله تلك الآيات في سورة المنافقين لهذه المناسبة.
(4)
وخلاصة قصة ثمامة: ستأتي في مطلب الجدل في السنة ص (407).
فلو أن داعية أتى قوماً من المسلمين، قد تفشى فيهم الشرك، وكثر فيهم الابتداع .. وهو إن أتى ببعض المسنونات في الصلاة أو غيرها، اتهم بتهمة لا يقبل منه - بعدها - قول، ولا ينصت له في نصيحة.
فعليه - والحال هذه - ترك هذه المسنونات، أو تأخير الواجب المطلق، مادام في الأمر سعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب، بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين، أعظم من مصلحة مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت، لما في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه متماً، وقال الخلاف شر)) (1)
(1) مجموع الفتاوى (22/ 407)، وخلاصة قصة ابن مسعود مع عثمان رضي الله عنهما أن عثمان لما حج رأى أنه مقيم في منى، وقد قيل إنه تزوج فيها، فرأى أن يتم الصلاة ولا يقصرها، لأنه صار في حكم المقيم .. فأنكر عليه بعض الصحابة فعله هذا، ومنهم ابن مسعود .. ثم لما قام عثمان يصلي أربعاً قام وراءه ابن مسعود والصحابة جميعاً يصلون أربعاً، فقيل لابن مسعود: كيف أنكرت ثم صليت وراءه أربعاً، فقال رضي الله عنهم جميعاً:((الخلاف شر)) إن في هذا لعبرة لكل داعية.
دُعيتُ إلى مسجد في دولة غربية لإلقاء محاضرة، ففوجئت بوجود نصف المصلين في الخارج ونصفهم يصلي جماعة .. وكان مشهداً منكراً .. فلما سألت عن السبب فقالوا: إن المصلين يجمعون المغرب والعشاء بسبب قصر الليل .. والذين لا يصلون لا يريدون الجمع، وينتظرون حضور المحاضرة، فكان الجواب: يجب عليكم أن تصلوا وراءهم .. بنية النفل حتى لا يتفرق المسلمون، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجلين اللذين جاءا إلى المسجد ولم يصليا مع النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما صليا في رحالهما، أن يصليا مع الجماعة ويحسبونها نافلة. أخرجه أبو داود (575)، الترمذي (219) ففعل الإخوة ذلك، وعادت لجماعة المسجد وحدتهم، وسُرّ الجميع بذلك .. فاللهم زدنا فقهاً وحكمة.