الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع حاجتنا إلى التربية:
ليست التربية فرعاً من فروع الدين، أو مسألة من مسائل الفقه، ولا هي علماً نافلاً .. أو قضية هامشية فحسب.
بل إن التربية ركيزة مهمة في بناء المسلم بعامة والداعية بخاصة.
فما هي هذه التربية وما هي مهمتها
؟
التربية - بتعريف مبسط - هي: تدريب الناشئة في الدين -صَغُرَ في السن أو كبر- على القيام بالأحكام، والتكيُّف مع الواقع بصورة صحيحة، لاتخاذ مواقف سلمية فيما بعد.
ولهذا فالتربية لا تتم بموعظة تُلقى .. أو خطبة جمعة تسمع .. ولا هي تتحقق بكتاب يُؤلف .. أو بحث يُقرأ .. ولا بدرس يُحضر .. أو بمحاضرة تُلقى فحسب .. إن عملية التربية أعمق معنى، وأوسع مدى من هذا كله.
وإنه لمن الخطأ الواضح؛ أن نظن: أن التعلم يغني عن التربية، وأن مجرد حشو أذهان الطلاب من الناشئة بالمعلومات، وتكديس صدورهم بالحفظ، مُغنٍ لنا عن التربية.
إنها جهد متواصل، وتدريب دؤوب، ومتابعة مستمرة للمتربين .. فلا تُحقق إلا بممارسةٍ عمليةٍ، وإشراف مباشرٍ على المتربيين.
ولذلك لم يرسل الله رسُلاً من الملائكة ليس من طباعهم معاشرة الناس، بل أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل بشراً من جنسهم، يعايشون الناس، حتى يتمكنوا من تعليم المدعوين، وتزكية العباد، وممارسة
العملية التربوية بين أظهرهم، قال تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِى إِلَيْهِمْ .. } الآية [الأنبياء: 7]
وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً .. } الآية [الأنعام: 9]
وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ .. } الآية [إبراهيم: 4]
وذلك لأجل الاختلاط بهم، ومتابعة تصرفاتهم، ولتصحيح ما كان منها خطأ، وإقرار ما كان منها صواباً {رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ
…
} الآية [البقرة: 129]
فالتزكية - التي تعني في عُرفنا التربية -: هي تطهير القلوب، وتسديد الأقوال، وإصلاح الأعمال، وتدريب المدعوين على ذلك عملياً.
وكذلك لم يكتف الله تعالى لهداية الناس بإنزال الكتب، إذ كان الله قادرًا على أن يُنّزَل في كل بيت صحفاً تتلى، أو كتاباً بالصوت ينطق .. وأن يريح الأنبياء من العناء، والرسل من الابتلاء، ولكن العملية التربوية إذ ذاك لن تحصل، لأن التربية لا تكون إلا بمرب يَتتبَّع، وبمدرب يُدرب، وبموجه يُصحح، وبأب يَحنُو، وبشيخ يَعطف، ولا تكون إلا في تجارب تُصوَّب أو تُخَطِّأ .. هكذا كانت حياة الأنبياء بين أقوامهم .. وبخاصة رسولنا الكريم محمد عليهم الصلاة والسلام جميعاً، كان يربي أصحابه بكل ما في هذه الكلمة من معنى، حتى أخرج الله على يده صلى الله عليه وسلم جيلاً أصبح قدوة للعباد، ومنارات في البلاد {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
…
} الآية [الفتح: 29]
إن مَثَل بعض الناشئة اليوم، كمثل رجل أراد أن يتعلم السباحة. فطالع لذلك الكتب الكثيرة، وحفظها غيباً، وقتلها فهماً، ووسعها هضماً .. ثم قال في نفسه: إن السباحة أصبحت أمرًا هينًا بعدما قرأتُ عنها ما قرأتُ .. وفهمتُ ما فهمت .. ، حتى إذا ما جاء اليم ألقى نفسه فيه، وهو واثق من نفسه، مستحضر لطريقتها، حافظ لقواعدها .. مستغنٍ عن المدرب، فغاب في جوف الماء ولم يعد.
أو كمن أراد أن يتعلم قيادة مركبة، فقرأ لها وحفظ، وأتقن ذلك نظرياً، حتى إذا ما استلم مقود المركبة معتمداً على نفسه، مستغنياً عن المدرب، معتداً بتحضيره. فما كان منه إلا أن آذى العباد ونفسه وأهله.
وهكذا كان من بعض ناشئة الصحوة في بعض بقاع المسلمين، حَضَروا دروساً .. أو سمعوا أشرطة .. أو قرؤوا كتباً .. ثم قاموا إلى الدعوة .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم إلى الجهاد زعموا .. (1).
ثم .. كان ما كان مما نحن نذكره .. فقل خيراً ولا تسأل عن الخبر.
إن معظم مظاهر سوء تصرف بعض الناشئة، وبخاصة في مقام الدعوة إلى الله، مرجعه إلى فقدان التربية .. فحري بالعلماء، وجدير بالدعاة، أن يعطوا هذا الأمر حقه، كي نقي الناشئة شر الانحراف، والبلاد والعباد شر الفساد.
(1) 1 ليس هذا يعني أن لا جهاد، ولا أن كل من قام به لم يكن محقاً .. بل الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، إنما المقصود من هذا: أن لا جهاد قبل العلم والتربية إلا في حال الدفع، وبالشروط الشرعية المعروفة عند أهل العلم.