الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: مخاطبة الناس بما ينفعهم، وبما يقدرون عليه، وبما هو واجب عليهم:
المقصود من هذا المبحث: أن يُخاطب المسلمون بما ينفعهم، وبما يقدرون على فعله، وبما أوجبه الله عليهم.
ولا يخاطبون بما لا ينفعهم في دين أو دنيا، ولا بما يعجزون عن فعله، كأن يفصل لهم في أحكام الإماء، أو يخوض معهم فيما حدث بين الصحابة، ومن بعدهم من خلاف واقتتال، مثيراً بذلك الفتن.
أو يقحمهم في الحكم على الأعيان السابقين أو اللاحقين، كالحكم في خلاف علي مع معاوية رضي الله عنهما، والحكم على الحجاج أو يزيد بن معاوية، وما شابه هذه المسائل.
أو يُفصِّل لهم ما فعله بعض السلاطين وغيرهم من السابقين أو اللاحقين، مما لا يترتب عليه عقيدة ولا علم ولا عمل.
أو يثير فيهم فتناً نائمة، كفتنة خلق القرآن، وحوادث لا أول لها.
أو يطرح عليهم شُبه الفِرَق الضالة، ثم يحاول الرد عليها، وقد اندثرت هي وأصحابها.
المطلب الرابع: التفصيل في معالجة أحوال المسلمين، والإجمال بما يفعله الكافرون
.
من أعظم توفيق الله للداعية؛ أن يتوجه لإصلاح شأن المسلمين، ومعالجة أمراضهم، بوضع دواء لكل داء بالتفصيل.
وإذا ما احتاج الداعية إلى الكلام عن الكافرين وخططهم، وما يكيدون بالمسلمين، فعليه الإيجاز والإجمال.
وهذه هي الوسطية التي عليها منهج القرآن والسنة، فلا تفصيل في شأن الكافرين، ولا تعليق لكل ما يحصل بالمسلمين بأعدائهم، ولا إغفال لكيدهم.
إن إغفال الكلام عما يفعله الكافرون ويخططون له مخالف لمنهج القرآن، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
وقد ذكر لنا الله في كتابه عن كيد الكافرين وأفعالهم، لكن ذلك كان بالإجمال.
قال تعالى: {إِنّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} . [الطارق: 15 - 17]
وقال تعالى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} . [النساء: 27]
وقال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لا يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء: 108]
فهذه النصوص وأمثالها، تحدثت عن الأعداء وعن كيدهم، ولكن دونما تفصيل ولا تخويف، مع التعقيب على ذلك، بالعلاج الرباني، بتقوى الله والصبر ولوازمهما.
خطورة الإسهاب والتفصيل عن العدو:
إن الإسهاب والتفصيل بما يكيده الأعداء، له خطورته على المسلمين، ذلك لأن المسلمين ضعفاءُ في إيمانهم، جاهلون بدينهم، ليس لديهم من الحصانة الإيمانية، والمناعة التوكلية، ما يقيهم شرور عدوهم، وليس لديهم من القوة المادية مايؤهلهم للصمود المعنوي في وجه أعدائهم، مما يزيدهم التفصيل وهناً على وهن.
إذ أنّ لسان حال كثير من المسلمين يقول: أنّى لنا الانتصار على الأعداء، ونحن بهذا الضعف، وهم بهذه القوة الهائلة؟ .
لذلك كان من الواجب على الداعية - لرد كيد الأعداء - أن يبدأ بإصلاح حال المسلمين، وأن يسعى لتأهيل المسلمين معنوياً، بإصلاح أحوالهم، وتقوية إيمانهم، ومعالجة أدوائهم، وتثبيت توكلهم على الله عز وجل، وتوحيد كلمتهم، ورص صفوفهم.
فهذا هو الذي ينفعهم ويثبتهم، ويمكّنهم في أرضهم، وينصرهم على عدوهم، وهذه هي عوامل النصر الحقيقية، ولو كان الأعداء على ما كانوا عليه من القوة.
وقد حذر الله من هذا، وذلك حين انهزم المسلمون في أحد، فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاته على الكافرين ويلعنهم، فأنزل الله تعالى قوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ .. } الآية (1)[آل عمران: 128]
فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القنوت عليهم.
(1) رواه البخاري (4069، 4070، 4559، 7346)
لأن تعليق ما يصيب المسلمين من كوارث بعدوهم فحسب، له خطورته الكبيرة على تفكير المسلمين، فضلاً عن مخالفته لهدي القرآن الكريم في أن ما يصيب المسلمين إنما هو بما كسبت أيديهم، قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال سبحانه:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
الشتم لا يصد عدواً ولا يعالج مسلماً:
وبعض الدعاة يلجأ إلى الشتم واللعن والصراخ، ظناً منه أن هذا يحمل المسلمين على التصدي للعدو، أو يردع العدو، غافلاً عن أن هذا لا ينكأ عدواً، ولا يصلح مسلماً.
والخلاصة: أن هذه قضية منهجية جديرة بالتأمل والتبني من قبل الدعاة، وتتلخص هذه المنهجية بما يلي:
الأولى: الاهتمام بالمسلم قبل لقاء العدو تربية وإعداداً، وبعد لقائه ـ ـ ــ إن انتصر المسلم ــ شكراً لله وعرفاناً، وإن لم ينتصر .. فموعظة واعتباراً ومراجعة للنفس وإصلاحاً.
الثانية: تعليق كل ما يحصل بالمسلم من كوارث كونية، أو هزائم، أو مصائب، بنفسه وذنبه.
الثالثة: عدم تبرئة الكافرين من الخبث والكيد، والكلام عن هذا على سبيل الإجمال.
لأن معالجة أوضاع المسلمين، ورد كيد أعدائهم، لا يكون باللعن والسب، والتهويل وحكاية ماهم عليه، من الكيد والمكر والقوة، وإغفال إصلاح المسلمين ومداواة عللهم .. إن هذا ليس من منهج الدعوة إلى الله في شيء، بل هو يوهن عزائم المسلمين، ويثبط هممهم.
ومنهج الدعوة يهدف إلى بناء الفرد على الإيمان، والتوكل الصادق على الرحمن، بالتزكية والعلم، مع جواز الإشارة إلى أعمال الكافرين، وكيدهم والتحذير من ذلك بالإجمال، على مبدأ هذه القاعدة المذكورة: يفصل في معالجة أحوال المسلمين، ويُجمل في بيان كيد الكافرين.