الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس حاجتنا إلى الورع:
هذا المَعْلم ليس بأقلَّ أهمية من المعالم الأخرى، فهو يصقل النفوس، ويُهذِّب التصرف، ويضبط اللسان، ويجعل المرء روياً متأنياً.
وإن إهمال تربية الناشئة عليه، دفعها إلى سفك الدم الحرام، في الشهر الحرام، في البيت الحرام، وهي تظن أنها تحسن صنعا.
وقد رُؤي بعض من فقد الورع، وقد قاطعوا آباءهم، وآذوا علماءهم، وانتهكوا أعراض إخوانهم، بل قتلوا إخوانهم، وهتكوا حرمة مساجدهم، بدعوى الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو أنهم مبتدعون، أو مخالفون في المنهج .. إلى غير ذلك من الدعاوى التي جرَّت فساداً، وأحدثت فتناً.
لقد انقلبوا بسبب غياب هذا المعلم -الورع- إلى وحوش كاسرة، تنهش الأعراض، وتسلب الأموال، وتسفك الدماء ..
وفي الوقت الذي أمرنا الله بدعوة الناس، ذهب بعض الدعاة إلى محاسبتهم، وإعلان الحكم وتنفيذه عليهم، حتى قام بعضهم مقام الله سبحانه في الحكم، يدخل من يشاء الجنة، ويدخل من يشاء النار.
وإذ أمر الله دعوة الناس بالستر والنصح، إذا بهم يسلكون مسلك الكشف والفضح، ونشر عيوب العباد على رؤوس الأشهاد.
ولقد رؤي من الناشئة وغيرهم، من يتصدى للفتوى في مسائل لو عرضت على الأئمة الكبار بل الصحابة، لترددوا فيها .. وقد أفتوا في
مسائل أحجم عنها الفحول، وحارت فيها العقول، وهي عندهم بديهة .. بل من لم يُفت بها استخفوا به، وبعلمه.
وإن تعجب فاعجب مما فعله الخوارج، إذ تورعوا عن أكل تمرة ساقطة على الأرض، ولم يتورعوا عن قتل عبد الله بن خباب الصحابي المشهور، ولا عن قتل زوجته الحامل، (1) بل تقربوا إلى الله عز وجل بقتل أفضل الخلق في زمانه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال أبو أيوب لخارجي عندما أراد طعنه، أبشر يا عدو الله بالنار فقال الخارجي:"ستعلم أينا أولى بها صليا"(2).
فانظر إلى هذه الجرأة على الصحابة، وقذف الأحكام .. كل ذلك بسبب فقدان الورع.
وما أجمل هذه القاعدة في هذا المقام:
إذا حكمت حوكمت .. وإذا تورعت عوفيت.
أي إذا حكمت على الناس، فستُسأل عن حكمك، وستحاكم بين يدي ربك، وأما إذا تورعت عن الحكم على الناس، والخوض في أعراضهم، عافاك الله من تحمل تبعة حسابهم، والحكم عليهم، وشتان بين من يُحاكم، وبين من يُعافى.
(1) انظر الإصابة، لابن حجر (4/ 64)، ترجمة عبدالله بن خباب بن الأرت.
(2)
تاريخ الطبري (3/ 122)، والبداية والنهاية لابن كثير (7/ 289).