الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية: الأمور التي يجب على الداعية أن يراعيها في هذه المناسبات:
الأول: ينبغي للداعية أن يتنبه إلى أن هذه الأوقات والمجالس، ليست مفتوحة له على مصراعيها، سواءً في كمّ الكلام، أو نوعه، أو وقته.
بل يقبل على الناس ساعة إقبالهم، ولا يثقل عليهم ساعة انشغالهم، ولا يدبر عنهم ساعة استعدادهم وإقبالهم.
فأما الإقبال عليهم ساعة استعدادهم وإقبالهم، فإن ذلك يجعلهم ينصتون إنصاتاً جيداً، ويستجيبون استجابة طيبة ..
وأما الإثقال عليهم ساعة انشغالهم؛ فإن ذلك يدفعهم إلى الملل، أو النفور.
وأما الإدبار عنهم ساعة استعدادهم، ففيه تضييع للفرص، وعدم استغلالها استغلالاً حسناً .. مما يفوت مصالح كثيرة، ويضيع الناسُ أوقاتهم بغير ذكر الله .. ولا يدركون حِكَمَ ولا حُكْمَ هذه المناسبات.
الثاني: أن يختار لكل موسم أو مناسبة ما يناسبها، من الموضوع وأسلوب الخطاب، ففي مناسبة الأفراح يذكرهم بنعم الله بعامة، وبنعمة هذه المناسبة بخاصة.
وفي مناسبة الأتراح يذكرهم بقضاء الله وقدره، والإيمان به، والتسليم له، وبالصبر وما لأهله من أجر عظيم، وهكذا في كل مناسبة وموسم بما يناسب المقام.
قال تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَذَكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللهِ .. } الآية [إبراهيم: 5].
وأيام الله: نعم الله، ووقائع الأحداث الماضية المهمة (1).
واستغلال الأحداث هدف من أهداف الداعية.
والمقصود بالأحداث: مايقع على المدعوين وفي كون الله من أحداث مختلفة، وكوارث كونية: كالأمطار، والزلازل، والكسوف، والحرائق، والمجاعات، والظلم، والاحتلال.
فيكون الداعية على أهبة الاستعداد لتقديم المساعدات المادية، والمنشطات المعنوية، حتى يستشعر المدعوون: بأن داعيتهم مهتم بشؤونهم، راع مصالحهم، وأن كلامه -من قبل- لم يكن من لسانه دون قلبه، بل وافق فعله دعوته، وعمله علمه.
ولا يجوز للداعية أن يقف مكتوف الأيدي، مشلول الحركة، يحوقل (2) دون عمل مفيد، أو دعوة نافعة، فَينْفُر الناس عنه بعد ذلك، ولا يقبلون دعوته.
ومن الممتع جداً؛ أن يتأمل الداعية تنجيم القرآن، كيف كان ينزل في كل مناسبة بما يناسبها، ليكون ذلك أدعى إلى الاهتمام، وأوثق في
(1) انظر تفسير القرطبي (9/ 342).
(2)
حوقل: قال: لاحول ولا قوة إلا بالله.
ثبات المعلومة، والتفاعل مع الحدث، وأوقع في النفس، ولمعرفة حكم الحدث والتصرف حياله تصرفاً سليماً.
ففي حادث الإفك على عائشة رضي الله عنها، نزلت أحكام كثيرة - كما في سورة النور - مما كان له أثر نفسي بالغ على المسلمين - وقتئذ - وهم ينتظرون فَرَجَاً لهذه الفتنة الدهماء.
وانظر إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ماذا صنع؟ مستغلاً مناسبة عيد مرّ بقومه .. فلما طلبوا منه الخروج معهم، اعتذر قائلاً:{إِنّى سَقِيمٌ} ثم {فَرَاغَ إِلَىَءَالِهَتِهِمْ .. } الآيات [الصافات: 89 - 91]
وانظر إلى يوسف عليه السلام حين استغل حاجة المسجونين له، ليبلغهم دعوة الله، فقال:{يَصَاحِبىِ السّجْنِءَأَرْبَابٌ مّتّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ} [يوسف: 39].
وانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يعظ المسلمين في كل موسم بما يناسبه، فإذا أقبل رمضان أقبل عليهم، يعظهم فيه، ويبين لهم فضائله، وأحكامه، والأدلة أشهر من أن تُدَوَّن.
وإذا حضر موسم الحج واجتمعت الأمة، وعظهم وبلغهم أحكام الله التي تناسبهم، من بقاء هذا الدين وأمميته، فمما قال في موسم حجة الوداع: (( .. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم. كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث
…
وربا الجاهلية موضوع. وأول رباً أضع رِبَانا رِبَا عمي العباس
…
فاتقوا الله في النساء. فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم
فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهم بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده، إن اعتصمتم به. كتاب الله
…
اللهم اشهد .. اللهم اشهد)) (1) ثلاث مرات.
وإذا دنا عشر ذي الحجة: ذكرهم بما يفعل فيه فقال: ((مامن أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام)) يعني العشر. قال: قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)). (2)
وإذا اقترب يوم عاشوراء: ذكرهم بصيامه، وقال عليه الصلاة والسلام في هذه المناسبة:((هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر)) (3).
ولما حصل كسوف الشمس خطب فيهم، وحثهم على مايفعل فيها فقال:((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله. وإنهما لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتموهما فكبروا. وادعوا الله وصلوا وتصدقوا. يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد! والله! لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً، ولضحكتم قليلاً .. )) الحديث (4).
(1) رواه مسلم (1218).
(2)
رواه البخاري (969)، وأحمد (1/ 244) واللفظ له.
(3)
رواه البخاري (2003)، ومسلم (1125).
(4)
رواه البخاري (1044)، ومسلم (901)، واللفظ له.
وإذا حضرت مناسبة لمسلم أو لمسلمين، تكلم عليه الصلاة والسلام بما يناسبها، وبما ينفعهم فيها.
فعن عائشة رضي الله عنها: زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال:((ياعائشة، ما كان معكم لهو، فإنَّ الأنصار يعجبهم اللهو))، وفي رواية؛ فقال:((فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف، وتغني؟ ))، قلت: تقول ماذا؟ ، قال: تقول:
أتيناكم أتيناكم
…
فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحمر
…
ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء
…
ما سمنت عذاريكم (1)
ولما رأى المرأة التي كانت تبكي على القبر قال: ((اصبري))، ثم قال:((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (2).
وأرسلت إليه إحدى بناته تخبره باحتضار ابنها، فذكرها بما يجب أن يقال:((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب)) (3).
ولو تتبعنا مثل هذا في القرآن والسنة لطال بنا المقال، ووقعنا في مخالفة ما ننصح به - في هذا المقام - من عدم الإطالة، حتى لا يقع ملل أو سآمة.
الأمر الثالث: الذي ينبغي أن يراعيه الداعية في باب استغلال المناسبات: هو تقدير الكلمة كمّاً ووقتاً.
(1) قلت الحديث حسن لغيره، أخرجه الطبراني في الأوسط (3265)، ونحوه عند أحمد (3/ 391).
(2)
سبق تخريجه ص (166).
(3)
رواه البخاري (1284، 5655، 6602، 6655، 7377، 7448)، ومسلم (923). واللفظ له.