الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كله ما يزال وللأسف بعض العلماء والدعاة في مقام الأحكام .. يُصْدِرُون للناس وعلى الناس الأحكام، وكأنّ الناس على درجة من الإيمان توازي درجة الصحابة، بل وضعوا أنفسهم في مقام قضائي، كأنهم يعيشون في دنيا تختلف عن الدنيا التي يعيش فيها الآخرون.
فَفَرّ الناس منهم وهم لا يشعرون، وهم مازالوا على منابر الأحكام، ومنصات القضاء يصولون ويجولون.
فلعلّ هذا من أسرار جفاء الناس عن الطاعة، واستثقالهم العبادة، وعدم استجابتهم للأحكام.
لذا بات من الضروري جداً؛ أن يعيد هؤلاء الدعاة النظر في هذا المسلك، وأن يعملوا بهذه القاعدة المنهجية ((الإيمان قبل الأعمال والأحكام)) حتى يقوى الإيمان، فيرجع الناس ليسمعوا الأحكام، ويعملوا بها.
المطلب الثامن: سبل زيادة الإيمان:
يُستحسن -قبل مغادرة هذه القاعدة- ذكرُ بعض سُبل زيادة الإيمان التي تُعين العبد على الإقبال على الرحمن، وأداء ما افترضه من الواجبات والأركان. والانتهاءِ عن العصيان، وتُسهِّل على الداعية الدعوة، وقبول المدعوين لها.
ومن المعلوم من نصوص الكتاب والسنة، وما عليه أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص.
قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوَا إِيمَاناً .. } الآية [المدثر: 31].
وقال تعالى: {الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
وكلما ازداد الإيمان، ازداد العبد صلاحاً وإقبالاً على ربه، وكلما نقص وضعُف، اقترب العبد من السوء، وأعرض عن ربه.
من الوسائل التي تزيد الإيمان:
- الأولى: التركيز على بيان صفات الله عز وجل جميعها .. من العلم والسمع والبصر والحكمة و
…
وبيان مقتضى الإيمان بها، وما يثمر من المحبة لله، والخشية منه، والوقوف عند حدوده، ومراقبته.
قال تعالى: {الرّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59]
وقال تعالى: {وَللهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]
ودعاء العبد بأسماء الله -وهو مؤمن بها، مدرك لمعناها- يَهَبُه لذة المناجاة، ويزيده قربة من ربه.
-الوسيلة الثانية: تبيين مصالح الطاعة، ومفاسد المعصية العامة والخاصة، فإن مقتضى حكمة الله أن لكل حكم مصلحةً بالغة في طاعته، ومفسدةً عظيمة في مخالفته، ومن ذلك ما يُدْرك، ومنه ما لا يُدْرك:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
ولا يحل لمخلوق الخروج من شرع الله، سواءً أدرك الحكمة من ذلك أو لم يدرك، وسواءً حصّل مصلحته الظاهرة أو لم يحصّلها.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى:{إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
-الوسيلة الثالثة: الدعوة إلى محبة الله عز وجل، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرغبة في لقاء الله عز وجل، ولقاء رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بذكر نعم الله على الإنسان، وفضل رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدّ حُبّاً للهِ .. } الآية [البقرة: 165]، وقال سبحانه: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ
…
} الآية [المائدة: 54].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .. )) الحديث. (1)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه .. )) الحديث. (2)
- الوسيلة الرابعة: الدعوة إلى تأمل خلق الله بعامة، وخلق الإنسان بخاصة.
قال تعالى: {إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لايَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
…
} [آل عمران: 190، 191]
(1) البخاري (16)، ومسلم (43).
(2)
البخاري (6507)، ومسلم (2683).
وقال تعالى: {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ * وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20، 21]
-وقال صلى الله عليه وسلم: ((تفكروا في آلاء الله -وفي رواية: خلق الله-، ولا تتفكروا في الله)) (1).
- الوسيلة الخامسة: استعمال أسلوب الترغيب والترهيب، وذلك بذكر جزاء المطيعين الصالحين، وجزاء المخالفين المفسدين.
وهذا أسلوب القرآن الكريم في دعوته، وأسلوب الرسل، وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليهم وسلم جميعاً، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث الموازنة بين الترغيب والترهيب من منهجية الدعوة.
- الوسيلة السادسة: الحث على أداء العبادات، فإن العبادات -بعامة، وبعضها بخاصة كقيام الليل- تزيد في الإيمان.
قال تعالى في الحديث القدسي: ((وما تَقرَّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَسَاءَتَه)) (2).
-الوسيلة السابعة: تلاوة القرآن وسماعه والتفكر فيه وفهمه.
(1) رواه الطبراني في الأوسط (6315)، وأبو الشيخ في العظمة (1)، واللالكائي في السنة (927)، والبيهقي في الشعب (120)، وذكره الشيخ الألباني في الصحيحة (1788).
(2)
رواه البخاري (6502).
قال تعالى: {إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ} [الأنفال: 2]
-الوسيلة الثامنة: مصاحبة الأخيار، ومجانبة الأشرار.
ولربما كانت هذه الوسيلة من أهم الوسائل تأثيرا في الإنسان، في زيادة إيمانه أو نقصانه.
وفضلاً عن النصوص من الكتاب والسنة التي تبيَّن هذا، فإن الشاهد الواقعي يؤكد تأثير الصحبة وبخاصة في مقتبل العمر ..
وقد قال تعالى: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنّا كُنّا غَاوِينَ} [الصافات: 32]، وقال:{وَمَآ أَضَلّنَآ إِلاّ الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء: 99].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل)). (1)
- الوسيلة التاسعة: استحضار مصير الإنسان، وعدم الغفلة عنه، والتذكير باليوم الآخر، وما يكون فيه من مواقف ومآل، فهو من أعظم الواعظين، ومن أفضل سبل زيادة الإيمان، والناظر في كتاب الله يجد من هذا اللون الكثير، فكم مرة قرن الله الإيمان باليوم الآخر بنفسه سبحانه؟ {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ .. } [البقرة: 232] وكم مرة ختم الآيات بـ ((وإليّ المصير))، ((وإلى الله المصير))، وهكذا.
(1) رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وقال حسن غريب، وصححه غير واحد من الأئمة، منهم: الحاكم كما في المستدرك (4/ 171)، والألباني في الصحيحة (927).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) (1).
وقال ابن مسعود: ((كفى بالموت واعظاً)) (2).
وللإيمان وسائل كثيرة لزيادته .. وهذه من أهمها. (3)
(1) رواه الترمذي (2307)، والبيهقي في الشعب (10559)، وفي الزهد الكبير (690)، والحاكم (4/ 321)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (9/ 469)، وورد بلفظ هاذم كذلك والأول أصح.
(2)
رواه أحمد في الزهد (176)، ونعيم بن حماد في زوائد زهد ابن المبارك (148)، وابن أبي الدنيا في اليقين (30)
(3)
ولكاتب هذه الحروف رسالة مطولة في سبل زيادة الإيمان يسر الله نشرها.