المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: أهم صفات الداعية: - منهج الدعوة في ضوء الواقع المعاصر

[عدنان العرعور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌خطة البحث:

- ‌الباب الأول نظرات في حاجات المسلمين، وواقعهم الدعوي:

- ‌الفصل الأول نظرة في واقع المسلمين واحتياجاتهم:

- ‌المبحث الأول حاجة البشرية إلى الدعوة:

- ‌المبحث الثاني حاجتنا إلى التأصيل قبل التمثيل، والعاطفة والارتجال

- ‌المبحث الثالث حاجتنا إلى الفقه:

- ‌المطلب الثاني: فقه الأولويات:

- ‌المطلب الثالث: فقه المقاصد:

- ‌المطلب الرابع: فقه المصالح والمفاسد:

- ‌المطلب الخامس: فقه الشعب والمقامات:

- ‌المبحث الرابع حاجتنا إلى التربية:

- ‌فما هي هذه التربية وما هي مهمتها

- ‌المبحث الخامس حاجتنا إلى الورع:

- ‌المبحث السادس حاجتنا إلى الواقعية:

- ‌المبحث السابع حاجتنا إلى مخاطبة الناس بما يعقلون، وبما يحتاجون

- ‌المبحث الثامن حاجتنا إلى التواضع:

- ‌الفصل الثاني الدعوة إلى الله تعالى

- ‌المبحث الأول تعريف الدعوة إلى الله:

- ‌المبحث الثاني أهميتها ومقامها في الإسلام:

- ‌المبحث الثالث فضل الدعوة إلى الله تعالى:

- ‌المبحث الرابع حكم الدعوة إلى الله تعالى:

- ‌المبحث الخامس أهداف الدعوة إلى الله تعالى:

- ‌الأول: تعريف العباد بخالقهم، وحقِّه عليهم، وحقِّهم عليه

- ‌الثاني: نشر الخير والصلاح، وقطع دابر الشر والفساد

- ‌الثالث: تعارف الشعوب، وتوحيد الأمم، ونشر السلام بينهم

- ‌المبحث السادس آثار الدعوة إلى الله تعالى:

- ‌الأثر الأول: إحقاق الحق، ودحض الباطل

- ‌الأثر الثاني من آثار الدعوة إلى الله: انتشار العدل، ورفع الظلم

- ‌الأثر الثالث من آثار الدعوة الى الله: نشر الصلاح والوقاية من الفساد، واتقاء النقمات

- ‌الأثر الرابع من آثار الدعوة إلى الله: حلول الخيرات، ونزول البركات (الرحمات):

- ‌الأثر السادس من آثار الدعوة إلى الله: سعادة العباد في الدارين:

- ‌الباب الثاني أركان الدعوة

- ‌الفصل الأول

- ‌المبحث الثاني: أهم صفات الداعية:

- ‌الفصل الثاني المدعوون وأحوالهم

- ‌المبحث الأول أهمية مراعاة المدعوين وأحوالهم:

- ‌المبحث الثاني مراعاة طباع المدعوين الشخصية

- ‌المطلب الثالث: تنوع خطاب الرسول بما يتناسب وطباع المدعوين:

- ‌المبحث الثالث مراعاة أحوال المدعوين العلمية:

- ‌المطلب الثاني: صور من السنة النبوية

- ‌المبحث الرابع مراعاة أحوال المدعوين الإيمانية:

- ‌المطلب الأول: المقصود بأحوالهم الإيمانية:

- ‌المطلب الثاني: تقسيم الناس في الإيمان إلى الأصناف التالية:

- ‌المطلب الثالث: المقصود من هذا التقسيم:

- ‌المطلب الرابع: تنوع خطاب القرآن بما يتناسب وهذه الأصناف:

- ‌المطلب الخامس: مراعاة السُّنة لأحوال الناس الإيمانية:

- ‌المبحث الخامس مراعاة أحوال المدعوين النفسية، وظروفهم الخاصة، وحاجاتهم الملحة

- ‌المبحث السادس مراعاة حاجات المدعوين:

- ‌المبحث السابع مراعاة أحوال الناس العامة، وما اعتادوا عليه:

- ‌المطلب الأول: المقصود بأحوال الناس العامة:

- ‌المطلب الثاني: تقسيم عادات الناس إلى ثلاثة:

- ‌المطلب الثالث: أحكام هذه العادات:

- ‌المطلب الرابع: مراعاة السنة لعادات الناس في التغيير:

- ‌الفصل الثالث منهجية الدعوة

- ‌المبحث الأول الدعوة إلى الإيمان قبل الأعمال والأحكام:

- ‌المطلب الأول: معنى هذه القاعدة:

- ‌المطلب الثاني: الحكمة من هذه القاعدة وثمرتها:

- ‌المطلب الثالث: مثل العبادة عند قوي الإيمان، وعند ضعيفه:

- ‌المطلب الرابع: أدلة ((الإيمان قبل الأعمال والأحكام)) ودعوة الرسل:

- ‌المطلب الخامس: صور من تطبيق هذه القاعدة:

- ‌الصورة الأولى: كون المدعو غير مؤمن

- ‌الصورة الثانية: كون المدعو مسلماً، غير أن فيه جهلاً، وتقصيراً وعصياناً

- ‌المطلب السادس: قاعدة الإيمان قبل الأعمال والأحكام، لا تمنع تبليغ الحلال والحرام:

- ‌المطلب السابع: تطبيق هذه القاعدة على أهل العصر:

- ‌المطلب الثامن: سبل زيادة الإيمان:

- ‌المبحث الثاني التعليم والبلاغ، لا الحكم والحساب:

- ‌المطلب الأول: المقصود من هذه القاعدة المنهجية وأدلتها:

- ‌المطلب الثاني: عمل الأنبياء بهذه القاعدة:

- ‌المطلب الثالث: تطبيق هذه القاعدة على أهل هذا العصر:

- ‌المطلب الرابع: مفاسد الخروج عن هذه القاعدة:

- ‌المطلب الخامس: بيان مهمة الداعية الأساسية

- ‌المطلب السادس: الحكمةُ من هذه القاعدة وخلاصتُها:

- ‌المبحث الثالث الدعوة إلى الأسس والتأصيل، قبل الفروع والتمثيل:

- ‌المطلب الأول: المقصود من هذه القاعدة المنهجية الدعوية:

- ‌المطلب الثاني: أهمية هذه القاعدة وأدلتها

- ‌المطلب الثالث: ثمار التأصيل:

- ‌المطلب الرابع: القاعدة وأهل هذا الزمان:

- ‌المطلب الخامس: الأمور التي يجب أن يراعيها الداعية عند بيان التأصيل، ومفاسد الخروج عنها

- ‌المبحث الرابع الموازنة بين الترهيب والترغيب:

- ‌المطلب الأول: المقصود من هذه القاعدة:

- ‌المطلب الثاني: منهج القرآن الكريم من هذه القاعدة:

- ‌المطلب الثالث: منهج السنة الكريمة من هذه القاعدة:

- ‌المطلب الرابع: الحكمة من الموازنة بين الترغيب والترهيب:

- ‌المبحث الخامس مخاطبة الناس بما هو من شأنهم، وبما يناسبهم وينفعهم، وبما يقدرون عليه:

- ‌المطلب الأول: المقصود من هذه القاعدة:

- ‌المطلب الثاني: مخاطبة الناس بما يناسب مستواهم العقلي والثقافي والعلمي

- ‌المطلب الثالث: مخاطبة الناس بما ينفعهم، وبما يقدرون عليه، وبما هو واجب عليهم:

- ‌المطلب الرابع: التفصيل في معالجة أحوال المسلمين، والإجمال بما يفعله الكافرون

- ‌المبحث السادس جواز المداراة في الدعوة إلى الله، وحرمة المداهنة:

- ‌المطلب الأول: المقصود من المداراة والمداهنة

- ‌والخلاصة من هذه القاعدة:

- ‌المطلب الثاني: موقف الدعاة في هذا الباب والوسطية:

- ‌المطلب الثالث: عواقب غياب هذه القاعدة:

- ‌المبحث السابع في التدرج، وفقه الأولويات:

- ‌المطلب الأول: المقصود بالتدرج وفقه الأولويات:

- ‌المطلب الثاني: التدرج في المأمورات واحدة واحدة وأدلة ذلك:

- ‌المطلب الثالث: التدرج في المأمور نفسه:

- ‌المطلب الرابع: التدرج في النهي عن المحرمات:

- ‌المطلب الخامس: التدرج في نفس المحرم:

- ‌المطلب السادس: التدرج سُنّة لم تُنسخ:

- ‌المطلب السابع: التدرج في حالات خاصة:

- ‌المطلب الثامن: الوضع المكي لم ينسخ:

- ‌المطلب التاسع: حكمة التدرج:

- ‌المطلب العاشر: التدرج لا يبيح حراماً، ولا يسقط واجباً

- ‌المبحث الثامن الدعوة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا إلى الأحزاب ورجالها:

- ‌المطلب الأول: المقصود بهذه القاعدة وأدلتها:

- ‌المطلب الثاني: الأخطاء الدعوية المخالفة لهذه القاعدة:

- ‌الخطأ الأول: الدعوة إلى حزبية معينة .. أو غير معينة

- ‌الخطأ الثاني: الدعوة إلى شيخ أو شيوخ، أو زعيم أو زعماء

- ‌الخطأ الثالث: حصر الدعوة في جزئية من الدين

- ‌المطلب الثالث: خطورة هذه الأخطاء:

- ‌المطلب الرابع: خلاصة هذا المبحث:

- ‌المبحث التاسع وفيه قواعد منهجية متنوعة

- ‌المطلب الأول: القاعدة الأولى: جواز ترك المستحب لتأليف الناس، ورغبةً في قبولهم الدعوة إلى الله

- ‌المطلب الثاني: القاعدة الثانية: عدم إثارة ماضي المدعوين، وعدم تذكيرهم بسوابقهم، وإلقاء اللوم عليهم

- ‌المطلب الثالث: القاعدة الثالثة: عدم الإنكار على من عمل بفتوى عالم

- ‌المطلب الرابع: القاعدة الرابعة: اغتنام المواسم، وتخير الأوقات، واستغلال الأحداث:

- ‌المسألة الأولى: أهمية هذه القاعدة، وأثرها على المدعوين

- ‌المسألة الثانية: الأمور التي يجب على الداعية أن يراعيها في هذه المناسبات:

- ‌المسألة الثالثة: خلاصة هذا المبحث:

- ‌الباب الثالث الأساليب والوسائل الدعوية

- ‌الفصل الأول: الأساليب الدعوية:

- ‌تمهيد في الفرق بين المنهج والأسلوب

- ‌مثال عن المنهج والأسلوب:

- ‌المبحث الأول أهمية الأسلوب وأثره في الدعوة:

- ‌المبحث الثاني قواعد في الأسلوب الدعوي:

- ‌المطلب الثاني: القاعدة الثانية: الرفق واللين والتيسير، لا القساوة والغلظة والتعسير

- ‌المطلب الثالث: القاعدة الثالثة: الشفقة والنصح، لا التوبيخ والفضح

- ‌المطلب الرابع: القاعدة الرابعة: سهولة الأسلوب، وبساطة الطرح، وواقعية التمثيل

- ‌المبحث الثالث لفتات عن الأسلوب في القرآن الكريم:

- ‌المبحث الرابع لفتات عن الأسلوب في السنة النبوية:

- ‌المبحث الخامس أخطاء بعض الدعاة في الأسلوب:

- ‌المبحث السادس في إثارة العاطفة، وتحريك العقل:

- ‌المطلب الأول: أهمية ذلك:

- ‌المطلب الثاني: التوازن بين خطاب القلب والعقل في القرآن الكريم:

- ‌المطلب الثالث: التوازن بين العقل والعاطفة عند الرسل:

- ‌المطلب الرابع: السنة ومخاطبة العقل والقلب:

- ‌المبحث السابع التذكير بأيام الله، وذكر المنافع والمضار في الخطاب الدعوي

- ‌المطلب الثاني: ذكر ذلك في القرآن الكريم:

- ‌المطلب الثالث: سيرة الأنبياء في هذا:

- ‌المبحث الثامن متنوع في صيغ الأسلوب

- ‌المطلب الأول: الخطاب بصيغة الجمع باستعمال (نا) المتكلم، لا بضمائر المخاطبة، كالتاء مع ميم الجمع، أو الكاف

- ‌المطلب الثاني: الخطاب المطلق:

- ‌المطلب الثالث: في استخدام الداعية أسلوب الاستفهام، والترجي:

- ‌المطلب الرابع: القرآن الكريم وأسلوب الاستفهام والترجي:

- ‌المطلب الخامس: السنة وأسلوب الاستفهام والترجي:

- ‌المبحث التاسع قص القصص، وضرب الأمثال:

- ‌المطلب الأول: المقصود والأهمية:

- ‌المطلب الثاني: شروط القصة، وأمثلة من الكتاب والسنة:

- ‌المطلب الثالث: شروط المثال وآدابه، ونماذج من القرآن والسنة:

- ‌نظرة في أمثلة القرآن الكريم:

- ‌نظرة في أمثلة السنة النبوية:

- ‌المطلب الرابع: الخلاصة والتوجيه:

- ‌المبحث العاشر الدعابة تكون في الأسلوب:

- ‌المبحث الحادي عشر من الأسلوب الحسن، استقبال الداعية بوجهه المدعوين، والحركة المعتدلة المعبّرة، وتفاعله مع خطابه

- ‌المبحث الثاني عشر تنوع أسلوب الداعية بين الإلقاء والمحاورة:

- ‌المطلب الأول: أنواع الأساليب الخطابية:

- ‌الأسلوب الأول: الإلقاء

- ‌الأسلوب الثاني: أسلوب السؤال والجواب، ويسمى بـ (الحوار)

- ‌الأسلوب الثالث: أسلوب طرح مشكلة

- ‌المطلب الثاني: أمثلة من تنوع الخطاب في الكتاب والسنة:

- ‌المبحث الثالث عشر من الأسلوب الحسن؛ عدم الإطالة في الخطاب، وعدم التشقيق والتشدق والتفيهق في الكلام، وعدم تعمد السجع

- ‌المطلب الثاني: موقف السنة من هذه الأمور:

- ‌الفصل الثاني: في الوسائل بعامة وبخاصة المعاصرة: أنواعها .. وأحكامها:

- ‌المبحث الأول في الرابط بين الغايات، والطرق، والوسائل

- ‌المطلب الأول: المقصود من ذلك:

- ‌المطلب الثاني: الخلاف بين أهل العلم في حكم الطرق والوسائل:

- ‌المبحث الثاني في الوسائل الدعوية، وتعريفها، وأنواعها:

- ‌المطلب الأول: تعريف الوسيلة، وأنواعها:

- ‌المطلب الثاني: حكم الوسائل وضوابطها:

- ‌المطلب الثالث: الأدلة على أن الأصل في الوسائل الإباحة:

- ‌المطلب الرابع: ضوابط استخدام الوسيلة الشرعية:

- ‌المطلب الخامس: أن حكم الوسائل حكم مقاصدها:

- ‌المبحث الثالث حث الإسلام على استخدام الوسائل:

- ‌المبحث الرابع الاستخدام العملي للوسائل عند الأنبياء:

- ‌المبحث الخامس تتابع المسلمين على استخدام الوسائل:

- ‌المبحث السادس الداعية والوسائل وتطورها، وقواعد استخدامها الفنية:

- ‌المبحث السابع موافقة التربويين منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في استخدام الوسائل:

- ‌الفصل الثالث في ذكر أهم الوسائل الدعوية مفردة، وبخاصة العصرية منها

- ‌المبحث الأول الوسيلة الأولى: الكلمة:

- ‌المبحث الثاني الوسيلة الثانية: القلم والكتابة:

- ‌المبحث الثالث الوسيلة الثالثة: الكتيبات والنشرات (المطويات):

- ‌المطلب الثاني: فوائدها، وسلبياتها:

- ‌المطلب الثالث: شروط الكتيبات والنشرات الناجحة:

- ‌المبحث الرابع الوسيلة الرابعة: الإذاعات:

- ‌المطلب الأول: أهميتها:

- ‌المطلب الثاني: الوضع الواقعي للإذاعات، وحكم المشاركة فيها:

- ‌المطلب الثالث: ميزات الموضوعات الناجحة:

- ‌المبحث الخامس الوسيلة الخامسة: المحطات المرئية: (الرائي - الفضائيات)

- ‌المطلب الثاني: حكم المشاركة فيها:

- ‌المطلب الثالث:‌‌ ايجابياتهاو‌‌سلبياتها:

- ‌ ايجابياتها

- ‌سلبياتها:

- ‌المبحث السادس الوسيلة السادسة: الصحف والمجلات:

- ‌المطلب الأول: أهميتها:

- ‌المطلب الثاني: حكم المشاركة فيها واقتنائها:

- ‌المطلب الثالث: فوائدها وسلبياتها:

- ‌المبحث السابع الوسيلة السابعة: الدروس والمحاضرات والندوات:

- ‌المطلب الأول: الأهمية والتعريف:

- ‌المطلب الثاني: مزايا الدروس وسلبياتها:

- ‌من أهم ميزات الدروس:

- ‌أما السلبيات:

- ‌المطلب الثالث: من ميزات المحاضرة وسلبياتها:

- ‌المبحث الثامن الوسيلة الثامنة: المؤتمرات:

- ‌المطلب الأول: الأهمية والتعريف:

- ‌المطلب الثاني: الإيجابيات:

- ‌المطلب الثالث: السلبيات:

- ‌المبحث التاسع الوسيلة التاسعة: الدورات العلمية:

- ‌المطلب الأول: الأهمية والتعريف:

- ‌المطلب الثاني: ميزاتها:

- ‌المطلب الثالث: سلبياتها:

- ‌المبحث العاشر الوسيلة العاشرة: الأشرطة السمعية والمرئية:

- ‌المطلب الأول: الأهمية:

- ‌المطلب الثاني: الإيجابيات:

- ‌المطلب الثالث: السلبيات:

- ‌المبحث الحادي عشر الوسيلة الحادية عشرة: اللوحات المعلقة:

- ‌المطلب الأول: التعريف والأهمية:

- ‌المطلب الثاني: حكمها:

- ‌الترجيح:

- ‌المطلب الثالث: ميزاتها وسلبياتها:

- ‌أما ميزاتها فتظهر في الأمور التالية:

- ‌سلبياتها:

- ‌المطلب الرابع: توجيهات ونصائح حولها:

- ‌المبحث الثاني عشر الوسيلة الثانية عشرة: وسيلة .. المجادلة والمحاورة والمناظرة:

- ‌المطلب الأول: الأهمية والمقصود:

- ‌المطلب الثاني: المعاني والتعريف

- ‌المطلب الثالث: مشروعية الجدال بعامة، وحرمة المذموم منه:

- ‌المطلب الرابع: الجدال في القرآن الكريم:

- ‌المسألة الأولى: الدعوة إلى الجدال:

- ‌المسألة الثانية: صور من الحوار في القرآن:

- ‌المسألة الثالثة: صور من المناظرة في القرآن الكريم:

- ‌المطلب الخامس: تتابع الرسل على المجادلة:

- ‌المطلب السادس: الترتيب الدعوي لصور الجدال:

- ‌المطلب السابع: صور من الجدال في السنة:

- ‌المطلب الثامن: شروط الجدال المحمود، وضوابطه:

- ‌المطلب التاسع: نصائح للمناظر:

- ‌المطلب العاشر: خلاصة المبحث:

- ‌المبحث الثالث عشر الوسيلة الثالثة عشرة: المباهلة:

- ‌المبحث الرابع عشر الوسيلة الرابعة عشرة: الشبكة العالمية (الشبكة العنكبوتية) (الإنترنت)

- ‌المطلب الأول: ضرورة استغلالها في الدعوة إلى الله:

- ‌المطلب الثاني: إيجابياتها:

- ‌المطلب الثالث: سلبياتها:

- ‌المطلب الرابع: نصائح وتوجيهات:

- ‌المبحث الخامس عشر الوسيلة الخامسة عشرة: التمثيل:

- ‌المطلب الأول: المقصود والحكم:

- ‌المطلب الثاني: خلاصة الحكم (الترجيح):

- ‌المطلب الثالث: صور من التمثيل الهادف المباح:

- ‌المبحث السادس عشر الوسيلة السادسة عشرة: التصوير:

- ‌درجة حرمة التصوير ومتى يباح:

- ‌الخاتمة:‌‌ النتائجوالمقترحات والتوصيات:

- ‌ النتائج

- ‌المقترحات والتوصيات:

- ‌الخاتمة:

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: أهم صفات الداعية:

‌المبحث الثاني: أهم صفات الداعية:

الأولى: الإخلاص والتقوى:

إن دعوة الإسلام ليست كأي دعوة من الدعوات التي يكفي فيها أن يتحدث الإنسان عن دعوته، دون أن يكون مؤمناً بها مخلصاً لها. عاملاً بصدقٍ بمبادئها.

إن دعوة الإسلام تشترط على أصحابها، أن يكونوا أتقياء في أنفسهم، صادقين في دعوتهم، مخلصين في نياتهم، كي يحققوا نجاحهم في دعوتهم، وينالوا أجرهم عند ربهم.

وهذا شرط في كل عمل من أعمال الإسلام، ومن أجلّها الدعوة إلى الله تعالى.

قال تعالى: {أَلا لِلّهِ الدّينُ الْخَالِصُ .. } الآية. [الزمر: 3]

وقال سبحانه: {قل إنى أُمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين .. } الآية. [الزمر: 11]

وكلما كان الإخلاص أصدق، والإيمان أقوى، كان التوفيق أعظم، والأجر أكبر.

والتقوى لازمة للداعية، لزوم الماء للشجر، والروح للجسد، وهي العمل بدين الله ظاهراً وباطناً، وبخاصة فيما يدعو إليه، وإنّ امرءاً لا يعمل بما يدعو إليه، حري أن لا يوفقه الله عز وجل إلى ذلك، ولا يقبل منه عمله.

قال تعالى: {إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللهُ مِنَ الْمُتّقِينَ} . [المائدة: 27]

ص: 97

ولأهمية التقوى: جاء الخطاب بتقوى الله مفرداً بسيد الدعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول سورة الأحزاب {يَا أَيّهَا النّبِىّ اتّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1]

ولا شك أن الأمة كلها مطالبة بهذا، لكن توجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم له مقصود كذلك.

وبالتقوى، يحصل توفيق عظيم، وسداد للأقوال، وإصلاح للأعمال.

قال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70، 71]

وبالتقوى يعين الله الداعية، ويهبه ملكة التفريق بين الحق والباطل .. والخلاص من المواقف المحرجة .. فضلاً عن تكفير سيئاته، ومحو زلاته.

قال تعالى: {يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَا إَن تَتّقُوا اللهَ يَجْعَل لّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]

وفضلاً عن هذا كلِّه؛ فإن لتقوى الداعية أثراً بالغاً في المدعوين، فإن النفوس جُبلت على قَبُول دعوة الصادق، والنفور من دعوة الكاذب، ولا مقياس للصدق والكذب عند معظم المدعوين إلا أفعال الداعية، ومطابقتها لما يدعو إليه.

فإن العمل بما يُدعى إليه، يوحي إلى الناس صحة الدعوة، وصدق الداعي، مما يُورث القَبُول عندهم.

ص: 98

وعدم العمل بالعلم، وما يدعو إليه الداعية، يوحي إلى الناس فساد الدعوة، وكذب الداعي، مما يُورث النفور والاستهجان.

ولهذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، متنبهين أشد التنبه لهذا.

فكان أحدهم -وهو نبي الله شعيب صلى الله عليه وسلم يقول لقومه: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىَ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ .. } [هود: 88]

بل إن الأنبياء والرسل جميعاً، كانوا يتصفون بالصدق قبل بعثتهم، وما صفة الأمين التي وُصِفَ بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته بغائبة يومئذ عن أذهان العرب (1) وكذلك قول قوم صالح لصالح:{يَاصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا .. } الآية. [هود: 62]

فهي شهادة من أعدائه بصدقه، وعلوِّ منزلته فيهم قبل البعثة.

هذا من جهة المدعوين، وأما من حيث ربُّ الدعوةِ والمدعوين وأجره، فإن للداعية العامل بما يدعو إليه أجراً عظيماً عند الله.

وقد سبقت الأدلة على ما للداعية من أجر عظيم على دعوته، وإخلاصه في باب فضل الدعوة، مما لا حاجة لتكرارها.

وكما أمر الله عز وجل بالعمل بما يدعو إليه الداعية، حذر من مغبة عدم العمل بما يدعو إليه.

قال تعالى: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} . [الصف: 2، 3]

(1) أخرجه أحمد (15543) بلفظ: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة- فقالوا: أتاكم الأمين ..

ص: 99

وقال صلى الله عليه وسلم: ((يُجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برَحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه). (1)

فحري بالداعية أن يكون تقياً، كيما يقبل الناس دعوته، ولكي يقبل الله عمله.

وأي ثمرة يجنيها الداعية - إذا لم يكن تقياً - واستجاب له كثير من الناس، ثم جاء يوم القيامة صفر اليدين، قد أبطل الله عمله، لعدم إخلاصه، وقلة تقواه.

وفضلاً عما للتقوى من أثر في التوفيق، وأجر عند الله.

فإن التقوى من أعظم عوامل الثبات على الطريق في وجه الأعاصير، ومن أقوى دروع وقاية الداعية من كيد الأعداء.

قال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً .. } . الآية [آل عمران: 120]

وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ} . [آل عمران: 186]

(1) البخاري (3267، 7098)، ومسلم (2989)، الأقتاب: جمع قِتْب بكسر القاف وسكون التاء، هي الأمعاء، ومعنى تندلق: تخرج بسرعة، [انظرفتح الباري (13/ 52)].

ص: 100

فجعل سبحانه الصبر والتقوى أهم أسلحة الداعية في مواجهة الفتن، والثبات على الحق.

الصفة الثانية: العلم والفقه بما يدعو إليه:

إن من أعظم ضروريات الدعوة إلى الله تعالى أن يكون الداعية عالماً بعامة، مدركاً لما يدعو إليه، فقيهاً فيه بخاصة.

قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَىَ اللهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . [يوسف: 108]

والبصيرة أخص من العلم العام، وفيها معنى زائد عليه، فهي تعني: البينة والإدراك، والوضوح، والفهم، واليقين .. (1)

ومن البصيرة؛ أن يدرك الداعية عوقب الأمور، وأن لا يغفل عن النتائج في أقواله وتصرفاته.

قال ابن تيمية: (فلابد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحباً في هذه الأحوال؛ وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعاً؛ ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به؛ فقيهاً فيما

(1) راجع لسان العرب (4/ 67)، تهذيب اللغة، بصائر ذوي التمييز، مقاييس اللغة، مادة:(بصر).

ص: 101

ينهى عنه؛ رفيقا فيما يأمر به؛ رفيقاً فيما ينهى عنه؛ حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه"). (1)

فالفقه قبل الأمر، ليعرف المعروف وينكر المنكر، وهذا شرط من شروط الدعوة إلى الله، وواجب من واجبات الداعية أن يكون الداعية مدركاً لما يدعو إليه، متحلياً بالفطنة، متسلحاً باليقين، ثابت الخطوة، واضح الرؤية في دعوته، ومدعويه، وفيمن حوله من أصدقاء وأعداء، وما يقع من أحداث .. ، فكل هذه المعاني تتضمنها ((البصيرة)) فهذا الشرط الذي ألزم الله به الدعاة في دعوتهم.

ولهذا؛ فلا يجوز للمسلم أن يدعو إلى الله إلا بعد أن يحمل قدراً من العلم يكفيه في دعوته، وفهماً ووضوحاً ينير له طريقه.

فالعلم يسدد له مسيرته، والفهم يوضح له رؤيته، فمن لم يحمل العلم في دعوته انحرف، ومن لم يكن على بصيرة تعثر.

وفضلاً عن هذا، فإن للداعية بغير بصيرة إثماً عند الله، .. لمخالفة أمر الله، ولأن فاقد البصيرة (العلم والفهم) لا يُضل نفسه فحسب، بل يُضل معها غيرها ممن يدعوهم.

(1) مجموع الفتاوى (28/ 137)، قلت: هذا الحديث لا يصح سنداً بهذا اللفظ، وإن كان صحيح المعنى، وورد بألفاظ مقاربة .. وكلها ضعيفة ذكره بهذا اللفظ ابن تيمية والغزالي في الإحياء (2/ 333)، وقال العراقي لم أجده هكذا، وللبيهقي في الشعب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ((من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف)) المغني (2/ 334)، قلت: وهو في الشعب (7603) وفيه ضعيفان، وضعفه الألباني في الضعيفة (590) وفي الباب عن أنس بلفظ قريب من هذا أخرجه الديلمي في الفردوس (7741) وإسناده ضعيف جداً فيه ثلاثة متروكين.

ص: 102

{وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ} . [الحج: 3]

فلربما جعل الأمر نهياً، والنهي أمراً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة.

ولربما دعا إلى أمر غير مشروع، باسم الدين، كمن يخرج على الحاكم المسلم العاصي، وكمن يعلم الناس الضلال والابتداع باسم الدين، كالخوارج والمعتزلة، وغلاة الصوفية والروافض.

ولذلك حذر الله من أمثال هؤلاء فقال سبحانه:

{وَإِنّ كَثِيراً لّيُضِلّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ .. } الآية [الأنعام: 119]

وقال تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} . الآية [لقمان: 6]

وقد عدّ الله كل قول بغير علم افتراءً، فكيف إذا كان في الدين والدعوة إليه.

قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .. } الآية [الإسراء: 36]

وقال سبحانه بعد أن عدد بعض أقوال الكافرين وأفعالهم الكفرية قال: {قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوَا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَآءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} . [الأنعام: 140]

وقال تعالى: {قُلْ إِنّمَا حَرّمَ رَبّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]

ص: 103

ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع مقالته أن يعيها حين يبلغها، فقال صلى الله عليه وسلم ((نضر الله امرءًا سمع منا شيئا فبلغه كما سمع، فرُبَ مبلغ أوعى من سامع)). (1)

ولأهمية هذا؛ عقد الإمام البخاري باباً في صحيحه ((باب العلم قبل القول والعمل))، فإن العلم يسدد القول، ويصوب العمل.

قال العسقلاني: ((قال ابن المنير: أراد به: أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما)) (2).

قال أبو حيان الأندلسي: ((لأن الدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر، وكيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشر، فإن الجاهل ربما أمر بمنكر، ونهى عن معروف .. وقد يغلظ في مواضيع اللين، وبالعكس)). (3)

ومن الجدير بالعلماء تنبيه الناس في هذا المقام إلى أمرين:

الأول: أن الحفظ غير الفقه، وأن البصيرة درجة زائدة على العلم، فإن كثيرًا من الناس يظنون: أن مجرد الحفظ هو العلم، وهذا هو الذي أوقعهم في التعالم، ودفعهم إلى التقول على الله مالم يقل، وإصدار الأحكام التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهو يظن بحفظه هذا، أنه عالم بل علامة.

(1) أخرجه الترمذي (2657)، وغيره، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

فتح الباري (1/ 160).

(3)

تفسير البحر المحيط (3/ 20).

ص: 104

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فرب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن، ولا يكون له من الفهم .. )) (1).

فليس كل حامل علم يحمل فقهاً، وبصيرة، فحمل العلم شيء، والفقه فيه، والبصيرة بإعماله شيء آخر.

الثاني: التنبيه إلى الفرق بين العلم وبين التعالم، أو بين العالم والمتعالم، والتأكيد على ذلك في الدروس والخطب واللقاءات (2)

فإن كثيراً ممن يَدْعون ويَضلون ويُضلون يظنون أنهم علماء، وهم متعالمون، وذلك لعدم تفريقهم بين العلم والتعالم، كالخوارج، والمعتزلة، والجهمية، وإخوانهم من كل فرقة، ولذلك يجب التركيز في دروس العلماء على بيان الفروق بين العلم والتعالم، وبين العالم والمتعالم، فإن كثيراً منهم أصحاب نيات حسنة، فلعلهم يرجعون.

ومن الجدير ذكره - قبل نهاية هذا الباب -: أن شرط العلم، ليس على إطلاقه؛ بأن يكون كل داعية عالماً بجميع العلوم.

كلا، بل الشرط أن يكون الداعية عالماً فيما يدعو إليه.

وكلما كان الداعية أعلم، كان أفضل، ورُبَّ داعية عنده بصيرة وعلم فيما يدعو إليه، خير من عالم نحرير فاقد للبصيرة.

والمقصود بالعلم العام -الذي أُلمح إليه في أول هذا الباب -أن يكون لدى الداعية علماً عاماً بالتوحيد، وأنواعه، وأركان الإيمان،

(1) الفتاوى (11/ 397).

(2)

إن الإنسان ليعجب أشد العجب من خلو بعض المحاضرات، والخطب، والدروس من مثل هذا التأصيل والنصح، الأمر الذي جعل فراغاً كبيراً في فهم المنهج، وقضاياه.

ص: 105

والإسلام، وأسس الدين وأصوله العامة، كالاتباع والابتداع، ومعنى العبادة وأنواعها، وأحكامها وجوباً ونفلاً .. ومعرفة الأحكام الخمسة وتعريفها .. : الواجب، والمندوب، والحرام، والمكروه، والمباح، وما شابه ذلك.

وإذا تعين على المسلم بيانُ أمر، أو النصحُ به، أو الأمر به، أو النهيُ عنه، وكان يعلمه علماً صحيحاً، وجب عليه أداء الأمانة على قدر ما علم، ولا يشترط في الداعية أن يكون عالماً مطلقا، ولاأن يعلم تفصيل ما سبق.

الصفة الثالثة للداعية: الصبر والحلم:

إذا كان العلم شرط الداعية إلى الله، وسبباً في سداده، فإن الصبر عتاده وسلاحهُ، ولا قتالَ بلا سلاح، ولا مواجهة بلا عتاد.

وإذا كانت البصيرة واجبة على الداعية، وهي نوره في دعوته، فإن الحلم وقوده وزاده .. ولا سير بلا وقود، ولا حركة بلا زاد.

ومن قاتل بغير سلاح فشل .. ومن سار بغير وقود انقطع ..

لأجل هذا كان من أوائل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمر بالصبر مقروناً بالدعوة إلى الله {يَأَيّهَا الْمُدّثّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ* وَرَبّكَ فَكَبّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ* وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ* وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ* وَلِرَبّكَ فَاصْبِرْ}. [المدثر: 1 - 7]

وقال صلى الله عليه وسلم: ((وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)) (1).

(1) البخاري (1469، 6470)، ومسلم (1053).

ص: 106

والصبر في باب الدعوة إلى الله يعني: ضبط النفس على الاستمرار في طريق الدعوة مهما لاقت، وحبسها عن الإساءة للمدعوين قولاً وفعلاً، والصبر يعني: عدم الانتقام حين الأذى، وعدم الانقطاع عن الدعوة حين الملل، وعدم اليأس حين الفشل.

وبعبارة أخرى: عدم الاستجابة لردود فعل النفس، والتسرع في التصرف حيال المواقف.

لذا كان القرآن والسنة حافلين بالاهتمام بالصبر، لما له من أثر كبير في استمرار الداعية، وعدم نفور المدعوين .. وقبول الدعوة إلى الله تعالى.

ولذلك عدَّ الله سبحانه الصبر مع التقوى من عزائم الأمور، قال تعالى:{وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ} [آل عمران: 186]

بل جعل الله الصبر على الأذى من منهج الأنبياء، فقال سبحانه عن الأنبياء:{وَلَنَصْبِرَنّ عَلَىَ مَآ آذَيْتُمُونَا .. } الآية [إبراهيم: 12]

ومن المعلوم أن نقيض الصبر؛ التضجر والانقطاع .. ومن تضجر نفر الناس منه، ثم انقطع عن دعوته، فخسر نفسه والمدعوين معه.

ويا ليت الأمر يقف عند هذا الحد، ولم يتسرع في تصرف بسبب فقدانه الصبر، ربما انعكس على الدعوة بالسوء، والتراجع.

ومن لم يصبر ويحلم عمن آذاه انتقم لنفسه، ومن انتقم لنفسه، خسر نفسه ودعوته، وأجره عند ربه.

ولذلك قرن الله بين الصبر والحلم والعفو، وعد ذلك من عزم الأمور، فقال سبحانه:

ص: 107

{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ} [الشورى: 43].

وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للهِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لأوّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]

والحلمُ شعبةٌ أساسٌ من شعب الصبر.

قال أهل اللغة: الحلم: الأناة والعقل، وحَلُم: تأنّى وسكن عند غضب، أو مكروه، مع قدرة، وقوة.

والحليم: الذي لا تستخفه الأفعال المؤذية، ولا يستفزه الإغضاب (1).

وقد أفاد العلماء: أن العلم والفقه، يكونان قبل الدعوة، ليكون الداعية ذا بصيرة قبل أن يخطو في دعوته، حتى لا يزل. (2)

ويكون الصبر، أثناء الدعوة، لكي يتحمل ردود فعل المدعوين، من أذى واتهام، ولكي يستمر في دعوتهم، ولا يتضجر منهم، ولا ينقطع عنهم ..

ويكون الحلم بعد الدعوة، كي لا يحقد على من سخر منه، أو استخف به، ولا ينتقم ممن آذاه.

بل على الداعية أن يتوقع الأذى، وأن يعد له عدته من الصبر والحلم، فهذه هي عزائم الأمور، لا غير ذلك من التضجر والحقد، ومد اليد والانتقام التي هي سبب الخور، والفشل.

لأجل هذا أمر الله الدعاة بالصبر على ما يلقونه من أذى.

(1) راجع لسان العرب (12/ 149)، وتهذيب اللغة، والمعجم الوسيط مادة:(حلم).

(2)

راجع كلام ابن تيمية ص (101) من هذا البحث.

ص: 108

قال تعالى حاكياً قول لقمان لابنه: { .. وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ} . [لقمان: 17]

ولما أمر الله تعالى نبيه بالدعوة إليه، أرشده إلى وجوب الصبر فيها، فقال سبحانه:

{وَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10]

ونبه الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم والدعاة من بعده، بما كان من أمر نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام إذ لم يصبر في دعوته فكان من أمره ما كان.

فقال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ .. } الآية [القلم: 48] إذ خرج من سعة الدعوة والأنوار، إلى ضيق بطن الحوت والظلمات.

وهكذا شأن كل من لا يصبر على الدعوة إلى الله، ويستبدل سلاح العنف والتطرف والمواجهة، بسلاح (1) الصبر والحلم.

وهؤلاء الذين يتعجلون في المواجهة، إنما تعجلوا فيها، لأنهم فشلوا في مجال الدعوة، ولم يصبروا عليها، فتحولوا إلى المواجهة، فكان الفشل أبشع، والنتائج أشنع.

ولم يكتف الله عز وجل بالأمر بالصبر في الدعوة والحلم فيها، بل أمر بمقتضاهما من عدم الرد على أذى المدعوين، وعدم الالتفات إليهم،

(1) هكذا، وهو الصّواب في دخول حرف (الباء) على الأمر المتروك، وهو هنا الصبر والحلم، كقوله تعالى:{أَتَستَبدِلُونَ الّذِى هُوَ أَدنَى بِالّذِى هُوَ خَير} [البقرة: 61]

ص: 109

قال تعالى: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَىَ بِاللهِ وَكِيلاً} . [الأحزاب: 48]

أي: امض في دعوتك، وثابر في تبليغك، متوكلاً على خالقك، غير ملتفت إلى عناد المعاندين من الكافرين، وخداع المخادعين من المنافقين، ولا تكترث بأذاهم، ولا تنشغل عن دعوتك بكيدهم.

وهكذا كانت سيرة الأنبياء من قبل، لا يعرفون في سبيل الدعوة إلى الله عنفاً، ولا انتقاماً .. إلا صبراً وغفراناً، ولذا لم نجد نبياً من الأنبياء، واجه - من يدعوهم - بالقوة المادية في مقام الدعوة على الإطلاق، قال تعالى منبهاً نبيه الكريم ومن تبعه إلى ذلك:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ} [الأحقاف: 35]

فهذا نوح عليه الصلاة والسلام، مكث في قومه تلك المدة الطويلة، ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يضرب أحداً، ولم ينتقم من أحد، على كثرة ما أوذي، وعلى شدة ما سُخر منه.

وكذلك الأنبياء؛ إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم الصلاة والسلام جميعاً، لم يُعرف عنهم إلا الحلم على الناس، والصبر على أذاهم.

وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام فقد ضربوا المثل العظيم، والقدوة المثلى في الصبر، والحلم على الذين آذوهم في الدعوة إلى الله تعالى، مع القدرة على أخذ الحق.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه

ص: 110

شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل) (1).

ومن ذلك ما جرى يوم فتح مكة وغيرها من المواقف النبيلة، والأخلاق الرفيعة، من العفو والصفح بل والإكرام، بعد ما فعل أهل مكة بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ما فعلوا.

ولما كان الاستعجال ناقضاً من نواقض الصبر، فقد حذر الله منه أشد التحذير بكافة أصنافه.

قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لّهُمْ .. } . الآية [الأحقاف: 35]

أي: ليكن الرسل الأولون قدوتك في الصبر على الدعوة إلى الله، وعدم الاستعجال لهم، قال القرطبي:((ولا تستعجل لهم، قال مقاتل: بالدعاء عليهم، وقيل: في إحلال العذاب بهم)) (2) وكذا قال ابن كثير. (3)

وقال البقاعي في نظم الدرر: ((ولما أمره بالصبر الذي من أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل، ليصلح التحلي بفضيلة الصبر الضامنة للفوز والنصر: فقال: {ولا تستعجل لهم}، أي: تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئا مما يسوءهم في غير حينه الأليق به)). (4)

(1) رواه مسلم (2328)، وبعضه في البخاري عنها (6126).

(2)

الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (16/ 221 - 222).

(3)

انظر تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/ 185).

(4)

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للإمام برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي (7/ 146)

ص: 111

قال سيد قطب عند تفسير هذه الآية: ((ألا إنه لطريق شاق .. طريق هذه الدعوة، وطريق مرير، حتى لتحتاج نفس كنفس محمد صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها للدعوة، وفي ثباتها وصلابتها، وفي صفائها وشفافيتها، تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر، وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين، نعم، وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة، وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر، وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة، من رحيق العطف الإلهي المختوم)). (1)

بل ذهب الإسلام إلى أبعد من هذا .. ذهب إلى منع الدعاء عليهم حال الدعوة وعدَّ ذلك صورة من صور الاستعجال، فقد أخرج البخاري عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ قال:((كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلاّ الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)). (2)

ففي هذا الحديث العظيم؛ منع استعجال الدعاء - مجرد الدعاء على كفار قريش - وطلب النصر من الله عليهم ((ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا)).

(1) في ظلال القرآن، لسيد قطب (6/ 3276).

(2)

رواه البخاري (3612، 6943).

ص: 112

لأنه يدل على تضجر المسلمين، وعدم تحملهم تكاليف الدعوة .. لذلك لم يستجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبهم وحكم عليهم -لما طلبوا الدعاء-أنهم مستعجلون:((ولكنكم تستعجلون)).

ومن أجمل ما يخط هنا -بعد أن خُط في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم العطرة- أن رهطاً من (دوس) قد أسلموا، فدعوا قومهم (دوساً) فأبوا الإسلام، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن دوساً عصت وأبت، فادع على دوس، فقيل: هلكت دوس.

قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم اهد دوساً وائت بهم)). (1) فجاؤوا يستبقون إلى الإسلام)). (2)

فانظر كيف جاؤوه يطلبون الدعاء على قومهم .. فدعا لهم. فهداهم الله، فما أحوجنا -معشر الدعاة- إلى هذا الخلق.

كما حذر الله الدعاة من ردود الفعل، وسلوك مسلك الرعونة، والخفة في الاستجابة لاستفزازات المدعوين، الأمر الذي يتنافى والصبر.

فقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللهِ حَقّ وَلا يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: 60]

واستفتاح الله عز وجل الآية بالصبر، فيه إشارة إلى اتخاذ الوقاية من الاستخفاف به.

(1) البخاري (2937)، ومسلم (2524).

(2)

أخرجه الدارقطني في جزء أبي طاهر (96).

ص: 113

قال البقاعي في تفسيره: ((ولا يستخفنك))، أي: يحملنك على الخفة، ويطلب أن تخف باستعجال النصر، خوفاً من عواقب تأخيره، أو بتفتيرك عن التبليغ)) (1)، وقريباً من هذا قال معظم المفسرين.

وقال سيد في الظلال عقب الآية {ولا يستخفنك .. } : ((إنه الصبر، وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك، الذي قد يبدو أحياناً بلا نهاية، والثقة بوعد الله الحق، والثبات بلا قلق، ولا زعزعة، ولا حيرة، ولا شكوك، .. الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين، ومن تكذيبهم للحق، وشكهم في وعد الله. ذلك أنهم محجوبون عن العلم، محرومون من أسباب اليقين، فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله، فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين: مهما يطل هذا الطريق، ومهما تحتجب نهايته، وراء الضباب والغيوم! )). (2)

ومن مفسدات الصبر التي يجب على الداعية أن يحذر منها؛ الغضب، لذا يجب على الداعية أن يحذر منه أشد الحذر، لأنه يفقد الإنسان سيطرته على أفكاره، وألفاظه، وتصرفاته، فيدفعه إلى أفعال تفسد عليه دعوته، وتُنفِّر منه مدعويه.

لذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم القاضي أن يقضي وهو غضبان.

قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يقضي حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان)). (3)

(1) نظم الدرر (5/ 647).

(2)

في ظلال القرآن (5/ 2778)

(3)

البخاري (7158)، ومسلم (1717).

ص: 114

ولما طلب أحد الصحابة وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوصني، قال:((لا تغضب))، فردد مراراً ((لا تغضب)). (1)

فهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم الغضب لكل مسلم .. فكيف بالداعية .. فأولى بذلك ثم أولى.

وقبل مغادرة هذا الباب ينبغي التنبيه إلى أمرين.

الأول: التفريق بين مقام الدعوة الذي وسيلته الصبر على الأذى، والحلم بالمدعوين، وبين مقام القضاء والسلطان الذي من حقه الحكم والعقاب.

فهذان بابان مختلفان، يخلط بينهما كثير من الناس، فلا يفرقون بين وجوب الصبر في الدعوة إلى الله، والحلم على المدعوين، وبين مقام القاضي والسلطان في حال الاعتداء.

وعدم التفريق بينهما أوقع كثيراً من الدعاة في وضع الأمور في غير محلها، وفي اضطراب في التصرف، وانحراف في المنهج.

الأمر الثاني: أن الصبر والحلم لا يتأتيان بقراءة الكتب، وحضور الدروس، والاستماع إلى المحاضرات، وإنما يحتاجان إلى تدرب عليهما، ولا يتم ذلك إلا بالتربية، وما يقع من كثير من الناس من عدم الصبر والتضجر والانتقام، والتصرفات المنحرفة إلا لفقدان التربية على ذلك .. وربما فقد ذلك كثير من الشيوخ أنفسهم، وفاقد الشيء لا يعطيه، لذا وجب الاهتمام البالغ بالتربية في منهجنا العملي الدعوي.

(1) البخاري (6116).

ص: 115

آثار الصبر والحلم:

مما لا يخفى أن للصبر ثماراً عظيمة، وآثارًا حميدة في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا؛ فهي التوفيق في تبليغ الدعوة، والنصر على خصومها.

قال تعالى: {إِنّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} . [الأنفال: 46]

والمراد بالمعية هاهنا المعية الخاصة وهي النصر.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((وأن النصر مع الصبر)) (1).

وما صبر قوم إلا أفلحوا .. وما تضجر قوم وغضبوا إلا ندموا.

ولولا فضل الله على الأنبياء بعامة، وعلى نبينا بخاصة بالصبر، لما قامت دعوة، ولما بلغنا دين.

الثمرة الثانية: محبة الله للصابرين، ومن أحبهم الله أيدهم في الدنيا، ورفع منزلتهم في الآخرة.

قال تعالى: {وَاللهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ} . [آل عمران: 146]

وأما أجر الصبر في الآخرة، فهو أعظم وأطيب.

قال تعالى: {إِنّمَا يُوَفّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]

وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا .. } [القصص: 54]

الثالثة: ينير الطريق، ويثبت الداعية.

(1) رواه أحمد في مسنده (1/ 307)، والطبراني في الكبير (11/ 123) وفي الدعاء (41)، وعبد بن حميد في مسنده (636)، والبيهقي في شعب الإيمان (1074، 10001)، وابن أبي عاصم في السنة (316).

ص: 116

قال تعالى عن المؤمنين: {قَالُوا رَبّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [البقرة: 250]

وقال صلى الله عليه وسلم: ((والصبر ضياء)). (1)

ولا يَقِلُّ الحلم ثمرةً في الدنيا والآخرة عن الصبر، ولولا خشية الإطالة لسردنا ثمراته، وأدلة ذلك.

ومن أجمل ثمار الحلم؛ محبة المدعوين له، وعدم وجود ردود فعل من الحليم تعرقل دعوته.

وشتان بين داعية صابر حليم، محبوب بين الناس، مقبول الدعوة، وداعية متضجر، لئيم الطبع، ينتقم من الناس، ويكْفَهرُّ في وجوههم.

الصفة الرابعة للداعية: العفو والصفح:

لاشك أن من لوازم الصبر العفو، ومن مقتضيات الحلم التسامح، لكن إفراد هاتين الصفتين بالذكر، كان لما لهما من أهمية بالغة في قبول دعوة الداعية أو ردها.

فقد مضت سنة الدعوة إلى الله؛ في حصول الأذى بالمدعو، ونزول الضراء به، وقد طبعت النفوس على الإعراض عن المؤذي، أو الانتقام منه، وجبلت نفوس المدعوين على رد دعوة المنتقم، والنفور منه، فيخسر حينئذ الداعية، ويفر المدعوون، وتتوقف الدعوة، ولا تتم هداية المخلوقين.

لذلك أمر الله الداعية بالعفو والتسامح مع المدعوين، حتى تكون القلوب صافية، والنفوس كريمة، فيقبل المدعوون على الدعوة،

(1) رواه أحمد (5/ 342، 343)، ومسلم (223).

ص: 117

ويقبلونها، ولا ينفرون منها، أو يواجهونها؛ فقال تعالى:{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُورِ} [الشورى: 43]

وقال تعالى مخاطباً المسلمين عامة، والدعاة خاصة:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّىَ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} . [البقرة: 109]

لذلك كان لزاماً على الداعية إلى الله أن يتحلى بالعفو، وأن يتصف بالتسامح.

وسرُّ ذلك: أن بعض المدعوين يكونون جهلاء، وأصحاب أهواء، ويرون أن دعوتهم هو تدخل في شؤونهم الخاصة، وحجز لحريتهم المطلقة.

فيقومون بردود فعل قولية، وأحيانا عملية .. تجاه الداعية من شتم، أو ضرب، أو سخرية، أوحقد.

والعفو والتسامح في مقام الدعوة يعني: مسح ما يعلق بالقلب من أثر الأذية، وغسل ما في النفس من حب الانتقام، والإقبال على المدعوين بوجه طلق، ونفس رضية، كأن شيئاً لم يكن منهم، فلا يكون في نفس المدعو حقد على من آذاه، ولا رغبة بالانتقام ممن أضر به، بل كلما أوذي عفا، وكلما تضرر سامح.

قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ} . [آل عمران: 134]

وقال صلى الله عليه وسلم: (( .. وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزاً)) الحديث (1).

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان، قال:((الصبر والسماحة)) (2).

(1) رواه مسلم (2588).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 167)، وفي الإيمان (43)، وقال الألباني: حديث صحيح رجاله ثقات لولا عنعنة الحسن وهو البصري لكن له شاهداً من حديث عمرو بن عبسة في (المسند 4/ 385)، وآخر من حديث عبادة بن الصامت (5/ 318).

ص: 118

وهذان خلقان من أعظم أخلاق المسلم، فمن باب أولى أن يتحلى بهما الداعية.

ولا أدل على ذلك؛ مما كان بين الأنبياء جميعاً وأقوامهم، وما بين رسول الله محمد صلى الله عليهم وسلم وقومه بخاصة .. فمع الأذى الكبير الذي أصابه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من كفار قريش، كان شعارهم: العفو، وكانت سجيتهم التسامح.

وقصة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل الطائف الذين ردوه، وآذوه حتى أدموه، وسخروا منه مشهورة معلومة (1).

فما زاده ذلك في دعوته إلا ثباتاً، وما زاده فيهم إلا عفواً وإحساناً، وكان يردد في مثل هذه المواقف قولته المشهورة:((اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)) (2).

وموقفه صلى الله عليه وسلم من أهل مكة يوم فتحها في العفو عن أهلها الذين آذوه وصحبه أشد الإيذاء، أشهر من أن تسجل في مثل هذا البحث، وقد سجلت في سجل التاريخ الإسلامي الخالد. (3)

(1) انظر السيرة النبوية، لابن هشام. [2/ 67 وما بعدها]

(2)

رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/ 115، 130)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (62/ 247)، والضياء في الأحاديث المختارة (10/ 14).

(3)

السنن الكبرى للبيهقي (9/ 118)

ص: 119

وقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعرابي الذي شد ثوبه حتى أثرت حاشيته في عنقه صلى الله عليه وسلم (1).

وقصة الذي أراد أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة معلومة، إذ جاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فأخذ سيف رسول الله وقال من يمنعني منك؟ قال:((الله))، فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((من يمنعك مني؟ ))، قال: كن كخير آخذ، قال:((أتشهد أن لا إله إلا الله؟ ))، قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك

فخلى سبيله، قال: فذهب إلى أصحابه، قال: قد جئتكم من عند خير الناس

)) الحديث (2)

فانظر كيف عفا عنه، بعدما كاد أن يقتله، وأصر على كفره .. فاللهم هب لنا فقها وعفواً.

وعفا .. وعفا

عليه صلوات ربي وسلامه إلى يوم يبعثون.

والتحلي بالعفو والتسامح له ثمار عظيمة، منها:

-طيب نفس الداعية، وانشراح صدره، فإن العفو والتسامح يجعل النفس طيبة، مما يدفعها إلى مزيد من العطاء، ومزيد من الإقبال على الناس، ولو كانوا من المؤذين، وعدم التسامح يبعث الكمد في النفس بالحقد، ويغري القلب بحب الانتقام، الأمر الذي يدفع النفس إلى التراجع، ثم الانزواء عن الناس، وعن الدعوة، وفي ذلك من الخسارة ماهو معلوم لكل عاقل.

(1) البخاري (3149)، ومسلم (1057).

(2)

أحمد (3/ 365) وأصل القصة في الصحيحين البخاري (2910)، ومسلم (843).

ص: 120

-محبة الناس للداعية، والإقبالُ عليه، بل والدفاعُ عنه.

-الأجر العظيم عند الله تعالى.

الصفة الخامسة: التواضع والمخالطة:

كلما كان الداعية محبوباً لدى المدعوين، كانت استجابتهم لدعوته أكبر، واجتماعهم حوله أكثر.

ولا شيء يحبب الداعية إلى المدعوين كالتواضع، لذا أمر الله به .. وحرم ضده وهو التكبر، ولا يظهر التواضع إلا بالاختلاط بالناس .. لذلك أمر الله بهما.

قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ

} الآية. [الكهف: 28]

وقال تعالى: {وَلا تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً .. } الآية [لقمان: 18].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر .. )) (1) الحديث.

وقال صلى الله عليه وسلم: ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه)) (2) الحديث.

وكان ابن عمر يدخل السوق لا يبيع ولا يشتري، لكن ليسلم على الناس، فكانوا إذا رأوه استبشروا، وانكبوا عليه، يستفتونه فيفتيهم ويحل قضاياهم (3).

(1) رواه أحمد (1/ 412، 451)، ومسلم (91).

(2)

رواه مسلم (2588).

(3)

رواه مالك في (الموطأ 2/ 962)، ومن طريقه البخاري في (الأدب المفرد 1006)، وصححه الألباني.

ص: 121

ولا شيء يساعد في نشر الدعوة، وتوسيع رقعتها، كالاختلاط بالناس، ومعرفة أحوالهم، والوقوف مع متطلباتهم، ومدارسة مشكلاتهم.

لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)). (1)

وقد مضت سنة الأنبياء في تواضعهم، ومخالطتهم في معايشهم، وفتح أبوابهم، وتوسعة صدورهم.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فكان صلى الله عليه وسلم يخالط أصحابه فيزوج عزبهم، ويعود مريضهم، ويتفقد أحوالهم، ويشيّع ميتهم، ويعين فقيرهم، بل كان يعود المريض من أعدائه فقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابناً ليهودي .. ، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له:((أسلم))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:((الحمد لله الذي أنقذه من النار)). (2)

وكانت الأَمَة تأخذ بيده بالمدينة فيطاوعها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:((إن كانت الأَمَة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به في حاجتها)). (3)

(1) رواه أحمد (2/ 43)(رقم 5022)، والترمذي (2507)، وابن ماجه (4032) وقال الحافظ في الفتح (10/ 512): أخرجه ابن ماجه بسند حسن.

(2)

رواه البخاري (1356، 5657).

(3)

رواه أحمد (3/ 98)، وابن ماجه (4177)، وعلقه البخاري (6072) وانظر صحيح ابن ماجه (3367).

ص: 122

فإن شئت أن يكون طبيباً رأيته طبيباً، وإن شئت أن تراه مصلحاً بين الناس كان مصلحاً، وإن شئت أن تجده بائعاً وشارياً كان كذلك.

وحسبك أن امرأة شكت إليه قلة جماع زوجها (1).

وزار صاحباً له وكان في البيت غلام، قد حبس طيراً له في قفص فمات، فحزن عليه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم مداعباً ومواسياً:((يا أبا عُمير .. ما فعل النُغَيْر؟ ! ؟ )). (2)

فانظر - أيها الداعية وفقك الله - إلى هذا الصنيع ما ألطفه، وإلى هذا التصرف ما أبدعه .. سيدُ الخلق .. وسيدُ الرسل .. وسلطانُ الدولة يداعب صبياً .. ويواسي ولداً .. في ماذا؟ ! .. في عصفور فقده .. فما أحرى العلماء والدعاة إلى مثل هذا الخلق.

وجاءه - مرة - رجل ليشكو له انطلاق بطن أخيه، فأمره أن يسقيه عسلاً

، فعن أبي سعيد أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخي يشتكي بطنه، فقال:((اسقه عسلا)) ثم أتى الثانية، فقال:((اسقه عسلا))، ثم أتى الثالثة فقال:((اسقه عسلا))، ثم أتاه فقال: قد فعلت؟ فقال: ((صدق الله، وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا)) فسقاه فبرأ. (3)

فانظر إلى هذا التواضع الجم، والمخالطة النافعة. أُيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، ورئيس الدولة- عن مرض يستحي المرء من إخبار الناس

(1) أخرجه البخاري (5825)، ومسلم (1433).

(2)

رواه البخاري (6129، 6203)، ومسلم (2150)، والنغير: طير صغير [فتح الباري: 10/ 583].

(3)

البخاري (5684، 5716)، ومسلم (2217)، انطلاق البطن: مرض يقال له في عصرنا: الإسهال.

ص: 123

به .. أيداعب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولداً، ويزور خادماً، ويمشي مع جارية في حاجتها، وهو الرسول العظيم، والقائد الكبير، والسلطان المهيب.

ذلكم هو التأديب الذي أدبه الله عز وجل، ووعظه به قائلاً:

{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88].

وحذره من مغبة الكبر، والجفاء مع المدعوين، فقال له:{وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ .. } الآية. [الأنعام: 52]

ولما اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة عبد الله بن أم مكتوم الأعمى رضي الله عنه فعبس في وجهه، جاءه التأديب الرباني {عَبَسَ وَتَوَلّىَ* أَن جَآءَهُ الأعْمَىَ

}. (1)[عبس: 1، 2]

فهل عاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك - الأعمى، وهل وجد عليه .. أو اتخذ منه موقفاً .. إلا موقف الإكرام والمحبة ..

وانظر -يا رعاك الله- إلى هذا التواضع، والمخالطة، وماكان لهما من أثر عظيم في نفوس أصحابه، صدقاً، وتربية، وعملاً، جعلتهم خير أمة أخرجت للناس.

(1) عاب بعض الدعاة على من يقرأ هذه السورة، لأن فيها عتاباً للرسول صلى الله عليه وسلم مدعياً أن هذا العتاب من الله له، ولا ينبغي أن يكون منا له صلى الله عليه وسلم .. ولا شك أن قائل هذا غلبت عاطفته على علمه، وكان منه حكماً بغير دليل .. كيف وقد سطرها الله في كتابه إلى يوم يبعثون، كيف وقد قال تعالى: ((واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك

)) وسورة: ((عبس)) مما أوحي إلى رسولنا .. لقد غفل هذا المسكين عن أن في هذا العتاب درساً تربوياً عظيماً .. وأننا معشر أهل السنة والجماعة كلما قرأنا هذه السورة ازددنا حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وازددنا إجلالاً له .. وإذا كان هذا الداعية - الذي عاب على من قرأ هذه السورة - يجد في نفسه على الرسول صلى الله عليه وسلم أو يرى في قراءتها منقصة للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا شأنه .. هداه الله إلى معرفة الدليل .. وعدم القول على الله بغير علم.

ص: 124

وليس ببعيد أن يعزى أسباب تلك الفجوة بين الناس بعامة والشباب بخاصة من جهة، وبين العلماء والدعاة من جهة أخرى، إلى انعزال بعض الدعاة والعلماء، وإغلاق أبوابهم، وعدم مخالطتهم الناس، وتأففهم من الجلوس مع عوام الناس وفقرائهم، وحدثاء الأسنان، الأمر الذي أحدث فجوة، تغلغل من خلالها الأفكار الفاسدة، والمناهج المنحرفة (1).

بينما لو كان العالم الرباني مخالطاً للمدعوين، متابعاً للمتربين، لأدرك الأخطار أول وهلة، ولعالج الانحراف حين حدوثه، كالطبيب المتابع لمرضاه، وأما إذا أعرض الداعية أو المربي، وانعزل عن المدعوين، تفشى الداء، وصعب بعد ذلك العلاج، كالطبيب المهمل لمرضاه.

الصفة السادسة: حسن الخلق، وطيب العشرة

أهمية حسن الخلق بعامة، وفي مجال الدعوة بخاصة:

لا توجد صفة شخصية للإنسان أفضل من حسن الخلق، ولا صفة تحبب الناس به أعظم من طيب العشرة.

فقد طبع الناس على حب حسن الخلق، ولو كان من كافر، وعلى كراهية سوء الخلق، وعلى النفور من صاحبه، كائناً من كان.

قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ .. } الآية [آل عمران: 159]

(1) من الملاحظ أن الأحياء الفقيرة قلما تجد فيها عالماً فقيها .. أو داعية قديراً .. فما سر ذلك؟ ! ؟ ذلك لأن كثيراً منهم آثروا الحياة الرغيدة في الأحياء المتمدنة. على العيشة المتواضعة في الأحياء الفقيرة، ومخالطة الفقراء والصعاليك ودعوتهم.

ص: 125

ولا يجد الإنسان مدخلاً لقلوب الناس، كما يجده في حسن الخلق، ولا سبيلاً للاجتماع بهم والتآلف معهم، مثل طيب العشرة.

إن حسن الخلق تاج الإنسان، وجماله المعنوي.

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رُدِّيت بُرداً

إن الجمال معادن

ومناقبٌ أورثن حمداً

وقال آخر:

البس جديدك إني لابس خُلُقي

ولا جديد لمن لا يلبس الخُلُقا

فإذا تحلى به الداعية، أضفى شعوراً من الارتياح في نفوس المدعوين، وقبولاً كبيراً لدعوة صاحبه (1).

وكم قُبلت عند الناس دعوةٌ باطلة .. لتلبيس صاحبها بنعومة ألفاظه، ولطف معشره، وكم ردت دعوة صحيحة لجفاف صاحبها، أو لسوء خلقه!

وفوق ما لحسن خلق الداعية من أثر في قبول الدعوة، فإن لحسن الخلق أثراً بالغاً في بناء المجتمعات، وصفاء قلوب أهلها، وهذه من مهمة الدعاة إلى الله، والدعاة هم البناة الحقيقيون للمجتمعات.

والمجتمعات لا تبنى بعقيدة مجردة عن الخُلُق، ويخطئ من يظن ذلك، فلا بد أن يواكب العقيدة خلق يربط الناس، ويشد ما بينهم.

وإذا كانت العقيدة لَبنات المجتمع، فإن الخُلُق ملاطها.

(1) وحتى يتضح الأمر؛ ليتصور المرء جارين له .. أحدهما كتابي ذو خلق حسن ومعشر طيب، لا يعرف مع جاره إلا الإحسان .. والجار الثاني مسلم، ذو خلق سيء ومعاملة قبيحة، لا يعرف مع جاره إلا الأذية .. فأيهما يكون المرء له أميل .. وعشرته تكون أفضل؟ ! !

ص: 126

وبعبارة أخرى: إن التوحيد، والتقوى، والعبادة، والدعوة المجردة عن الخلق، لا تؤلف جماعة، ولا تقيم مجتمعاً سعيداً، وإذا كان الناس سينفضون عن رسول الله لو كان فظاً غليظاً -وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك- فمن باب أولى أن ينفضوا عمن هو دونه.

ولهذا جاءت النصوص محذرة المسلمين بعامة، والدعاة بخاصة من مغبة سوء الخلق، لما يجر من فساد على الدعوة بخاصة، والمجتمع بعامة.

قال تعالى محذراً الدعاة، وفي مقدمتهم سيدهم عليه الصلاة والسلام من عاقبة سوء الأخلاق:{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فإذا كان هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد الموحدين، وسيد المتقين، وسيد العابدين .. فكيف بغيره.؟ ! ؟

إن الغفلة عن أهمية حسن الخُلُق في مقام الدعوة، دفع كثيراً من الناس إلى النفور من أصحابها، والصد عن الهداية، فهل نحن معتبرون؟ !

ولا غرو -بعد هذا البيان- أن كان لُبُ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، إتمام مكارم الأخلاق.

قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) (1)، وفي رواية (مكارم الأخلاق).

معنى حسن الخلق، وطيب العشرة:

(1) حديث صحيح لغيره، رواه أحمد (2/ 381)، وصححه الحاكم (2/ 613) ووافقه الذهبي وغيرهما.

ص: 127

إن حسن الخلق وطيب المعشر، لا يظهر في خطبة جمعة، أو إلقاء محاضرة، أو تأليف كتاب. إنما هو ممارسة عملية، وخلق فعلي، يظهر في تصرفات الفرد ومواقفه.

فهو سماحة في المعاملة، وعفو عن الإساءة، وبشاشة في الوجه، وطيب في الكلام، ورقة في العبارات، ورحمة بالضعفاء، وإجلال للوجهاء، واحترام للعلماء.

وهو كذلك، كف الأذى، وبذل الندى، ولين الجانب، وحسن الظن، والتماسُ العذر، وتتبعُ الحسنات، وتواضع مع الإخوان، وتغاضٍ عن السيئات، وترفعٌ عن الانتقام. ولو وضعت صفات المسلم والداعية كلها في باب حسن الخلق، لما أُبعدتِ النُجعة، ولا أخطأ الباحث.

نصوص وصور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق:

ونظراً لما للخُلُق الحسن من أثر بالغ في حياة الناس، ومجتمعاتهم بعامة، وفي دعوة الداعية بخاصة. جاءت النصوص متواترةً بالحث على كل شعبة من شعب الخُلق الحسن والتحذير من ضدها.

وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه من المواقف الصادقة، والحكايات المؤثرة، ما يترجم معنى حسن الخلق عمليًا، بما يثلج الصدور، ويجعلها أسوة لكل الدعاة إلى يوم القيامة.

ولما كان المقام لا يسمح بالسرد والإطالة، فللذكر يُكتفى ببعضها للإشارة.

قال تعالى: {وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ} . [القلم: 4]

ص: 128

وللآية تفسيران جميلان: الأول: أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم تتصف بالخلق العظيم.

والثاني: أن ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم من شريعة ومنهج، ومعاملات ومسلك، هو خلق عظيم.

قال ابن عباس: {وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ} إنك على دين عظيم وهو الإسلام، وكذلك قال مجاهد وأبو مالك والسدي والربيع، وكذا قال الضحاك وابن زيد. (1)

وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . [الأعراف: 199]

وقال سبحانه: {الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ} . [آل عمران: 134]

وعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً)) (2).

وسُئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ((كان خلقه القرآن)). (3)

قال العلماء معنى هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتأسى بالقرآن، فما من خُلق أُمر به في القرآن إلا فعله، وما من خلق نُهي عنه إلا انتهى عنه. (4)

(1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (4/ 429).

(2)

رواه البخاري (6203)، ومسلم (659، 2150).

(3)

رواه أحمد (6/ 163)، وصححه الحاكم (2/ 499)، ووافقه الذهبي.

(4)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 429).

ص: 129

طائفة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق:

يجدر بنا قبل مغادرة هذا المبحث، أن نختمه بخاتمة مسك، بطائفة عطرة من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين أهمية حسن الخلق.

-فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حَسَنٍ، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)) (1).

-وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال:((تقوى الله وحُسْنُ الخُلُقِ))، وسئل عن أكثر ما يُدخِلُ الناس النار فقال:((الفَمُ والفَرْجُ)) (2).

-وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أَحْسَنُهُم خُلُقاً)) (3).

- وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقُهُ)) (4).

(1) حديث صحيح أخرجه الترمذي رقم (2002)، وقال حسن صحيح.

(2)

حديث صحيح أخرجه الترمذي (2004) وغيره، وقال صحيح غريب.

(3)

حيث صحيح أخرجه الترمذي (1162) وغيره وقال حسن صحيح.

(4)

حديث صحيح أخرجه أبو داود (4800)، وغيره وصححه النووي والألباني وغيرهما.

ص: 130

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحُسْنِ خُلُقِهِ درجة الصائم القائم)) (1).

الصفة السابعة: حسن التصرف، وحكمة الجواب، والإعراض عن الجاهلين:

من البدهي أن يتعرض الداعية لمواقف صعبة، ولإحراجات كثيرة، فالناس تتنوع مشاربهم، وتختلف مقاصدهم، وتتفاوت أساليبهم .. فمنهم من يطلب الحق ويتجاوز في الأسلوب .. ومنهم من لا يحسن السؤال والخطاب .. ومنهم من يتعنت .. ومنهم من يترصد الألفاظ .. ويُحَمِّلُها مالا تحتمل.

ومنهم من يتعمد الإحراج، ويُبيِّتُ السوء .. لتشويه سمعة الداعي، وقذفه بالتهم، لإرباك دعوته، وإشغاله عنها، حسداً وبغياً.

وقد كان ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون في كل عهد، ومع كل داعية.

أمثلة مما حدث مع رسول الله من هذه المواقف:

حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ابن عمته الزبير ورجل، فكان الحُكْمُ لصالح الزبير .. فقال الرجل: أن كان ابن عمتك. (2) أي: أحكمت له، لأنه ابن عمتك .. نعوذ بالله من سوء الظن، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن شدد في الحكم، وأعرض عن التهمة.

(1) حديث صحيح أخرجه أبو داود (4798).

(2)

رواه البخاري (2359، 2360، 2708)، ومسلم (2357).

ص: 131

ولما وزّع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، قال له رجل يقال له: ذو الخويصرة: يا رسول الله اعدل - وفي رواية اتق الله -.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلك. ومن يعدل إن لم أعدل)) (1). ثم حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه ومن أصحابه ولم ينتقم منه، نعوذ بالله من النفاق.

وشد أعرابي جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشيتها في عنقه، طالباً وفاء دينه، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء)). (2) نسأل الله حسن المعاملة.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه التصرفات الخلقية العظيمة يعطي دروساً تربوية في الأخلاق لأصحابه.

لذلك يجب على الداعية أن يكون متنبهاً إلى هذا الأمر، منضبطاً في ألفاظه، متوازناً في تصرفاته، وأن يكون حذراً، من أن يتصرف تصرفاً يعيق دعوته، أو يتلفظ بألفاظ يستغلها المترصدون، ليجعلوا منها حديث المجالس، ووسيلة للتنفير من الداعية، وهم عن سبيل الله يصدون، وهم يشعرون أو لا يشعرون .. ولا شك أن هذا يؤثر على شخصية الداعية

(1) رواه البخاري (3344، 4351، 6163، 6933، 7432)، ومسلم (1064). والظاهر أن معظم هؤلاء الذين أساؤوا الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين كما قال بعض العلماء (انظر الصارم المسلول لأبن تيمية (2/ 425))

(2)

رواه البخاري (5809)، ومسلم (1057).

وهكذا يجب أن يكون الداعية حسن الجواب، حكيم التصرف، فلا يُجِبْ عن سؤال لا مصلحة في الإجابة عليه، ولا يُستدرج لموقف لا ينبغي أن يقِفَه، ولاينزلق في أسئلة الفتن، بل إن رأى مصلحة في الإجابة أجاب، وإلا صرف السائل بحكمة، وأشغله بما ينفعه عما لا ينفعه.

ص: 132

وعطائه، ويعرقل مسيرة دعوته، فخطأ الداعية مضاعف، وتصرفاته مشاعة، وكلماته مذاعة.

قواعد في حسن الإجابة ومعالجة هذا الأمر:

الأولى: التريث في الإجابة، والتأني في التصرف، وعدم الاستجابة لردود الفعل.

الثانية: ضبط النفس حين الغضب، وكبح جماح الانتقام للنفس.

ويعين على ذلك:

استشعار خطورة توقف الدعوة، لأجل هذا التصرف .. وتقديم حظ الدعوة على حظوظ النفس، واحتساب الأجر عند الله عز وجل.

الثالثة: تقدير المصالح والمفاسد، وذلك بالتفكر في مقصود السائل، والتبصر في الإجابة، والفهم العميق لمدلولها، والنظر في التصرف، وما ينتج عنه من عواقب.

الرابعة: جواز الأخذ بالمداراة والتورية حين الحاجة الملحة.

والمداراة طريقة مشروعة، لرفع الحرج، ودفع المفاسد، وهي: السكوت عن قول الحق سكوتاً مؤقتاً لأجل التغيير، لا لأجل المداهنة.

أو هي التلطف بالمخطئ دون مواجهة، وعدم مصارحته بحقيقة فعله، طلباً لمصلحة شرعية، أو دفعاً لمفسدة أكبر، أو انتظار فرصة إصلاح أفضل. (1)

(1) راجع باب المداراة والمداهنة في فصل المنهج من هذا البحث.

ص: 133

والسكوت عن قول الحق لا يعني: جواز قول الباطل، أو المداهنة فيه.

والقاعدة في ذلك: إذا كنت لا تستطيع قول الحق فلا تقل الباطل.

والتورية شعبة من شعب المداراة.

وهي: أن يقال كلام حق يقصد به شيء، ويفهم منه شيء آخر، ولا يتعارض ظاهر الكلام مع مقصوده. (1) ويُشترط أن لا يُفهم من التورية باطلٌ، وإنما كلام يقال، لا يجلب مفسدة، بل يدفع مضرة.

الخامسة: الإجابة بصورة مجملة أو مشروطة، كمن يسأل: إذا أمرنا السلطان بأمر هل نطيعه؟ فيقول: إن أمرك السلطان بشرع وعدل فأطع، وإن أمرك بمعصية وظلم فلا تطع.

السادسة: الإعراض والسكوت قال تعالى: وإذا خاطبكم وقال صلى الله عليه وسلم ((رحم الله إمرأً قال خيراً أو سكت))

أمثلة من أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم الحكيمة، وتصرفاته الحسنة.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً عظيمة، في حسن التصرف، وحكمة الجواب، فكل أجوبته حكيمة، وكل تصرفاته عظيمة، فمن ذلك:

أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ((متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددتَ لها؟ "، قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت")) (2).

(1) انظر مختار الصحاح (1/ 178)، والتعريفات للجرجاني ص 71.

(2)

البخاري (3688، 6167، 6171، 7153)، ومسلم (2639).

ص: 134

فانظر إلى هذا الجواب الحكيم، وكيف صرف رسول الله السائل عما لا ينفعه إلى ما ينفعه .. دون أن يشعر السائل.

فلو قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أعلم متى يوم القيامة، فلربما وقع في نفس الأعرابي ما وقع، ولربما قال ما قال .. لقرب عهده بالجاهلية، أو لجهله.

فكان من الحكمة صرف الأعرابي عن سؤاله الذي لا ينفعه جوابه، إلى جواب ينفعه في دينه وآخرته، وينفع الأمة من بعده، فقال له عليه الصلاة والسلام:((وما أعددتَ لها؟ ؟ )).

فانصرف الأعرابي عن سؤاله .. وانشغل بما ينفعه عما لا ينفعه. فصلى الله وسلم عليه ما أحسنه من معلم! !

ولما بال الأعرابي في المسجد، وهمّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به، ومنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، قال له صلى الله عليه وسلم:((لقد تحجرتَ واسعاً)) (1) بدل أن يقول له: ((لقد قلت باطلاً)). فما أعظمه صلى الله عليه وسلم من مربٍّ! ؟

ولما طالبه أحدهم بقضاء الدين فأغلظ، فَهَمَّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((دعوه فإن لصاحب الحقِّ مقالاً)) ثم قال: ((أعطوه سِنّاً مثل سِنِّه، قالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سِنِّه، فقال: أعطوه .. فإن من خيركم أحسنكم قضاء)). (2)

(1) رواه أحمد (2/ 239)، وأبو داود (380)، والترمذي (147)، ((والحديث عند البخاري (6010) دون قصة البول)). ومعنى تحجرت واسعا: أي ضيقت رحمة الله الواسعة.

(2)

رواه البخاري (2306)، ومسلم (1601).

ص: 135

ففي قوله صلى الله عليه وسلم ((دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً)) تهدئة لنفسية المطالب الثائرة، إذ أحس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِرُّ له بحقه

ولما سمع بقضائه جملاً أفضل من جمله، انطفأت ثورته تماما وهدأ، ف صلى الله عليه وسلم ما أطيبه عِشْرَة.

ولو أردنا أن نتتبع تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأجوبته، لطال بنا المقام عن المقصود.

ومن أجمل ما يُروى في حُسْن الجواب عن بعض الحكماء: أن خليفة رأى في المنام: أن أسنانه وأضراسَه كلَّها سقطت، فسأل مُعبِّراً، فقال له: يا أمير المؤمنين: كل أهلك وأقربائك يموتون قبلك. فحزن الخليفة حزناً شديداً .. فسأل مُعبِّراً آخر: فقال المعبِّر: يا أمير المؤمنين هون عليك

إن تأويل الرؤيا: ((أنك أطول أهلك عمراً))، فسُر الخليفة، وفرج عنه.

والمتأمل للجوابَيْن: يجدهما بمعنى واحد، غير أن الأول: لم يكن حكيماً في جوابه، مع صوابه .. والثاني: كان حكيماً في جوابه، وانظر - يا رعاك الله- الأثر.

وبهذا يتبين: أن المقصودَ من هذا الباب: حكمةُ الجواب، والتلطفُ بالخطاب، وليس المقصودُ أن يقول الباطل، ويُداهن فيه، ولكن يمكن للداعية أن يتحلى بشيء من الحكمة والرَوِيَّة، والتفكير بعواقب الأمور، ليقول الحق، بقالب مقبول، وعبارة مسموعة، وعلى الله قصد السبيل.

ص: 136