الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع ذلك، نرى كثيراً من الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لا يعون مقاصد الأحكام، ولا يراعون غاياتها النبيلة، فينقلب عندهم النصح إلى فضح، والستر إلى تشهير، والمواساة إلى تشفٍ، والمعالجة إلى انتقام.
فالمهم عنده؛ أن يأمر مجرد أمر، وأن ينهى مجرد نهي، دون النظر إلى المقاصد، أو العواقب، أو إلى ما أمره الله به، من أن يكون أمره ونهيه بالرفق والمعروف، كي تتحقق المقاصد المنشودة، والغايات المطلوبة.
إن من أعظم فقه الداعية أن يتفطن لما يكون بعد فعله من أمر أو نهي أو دعوة.
المطلب الرابع: فقه المصالح والمفاسد:
لا ينفك حكم من أحكام الإسلام عن تحقيق المصالح، أو دفع المفاسد، أو تحقيق كليهما معاً، وبخاصة في مقام الدعوة الذي نحن بصدد الحديث عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.
وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية، فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يَدَعُ الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً، ويَدَعُ
الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع
…
" (1)
إن هذا التأصيل والتمثيل من قِبَل هذا الإمام الهُمام .. ، ليكفي لكل ذي بصيرة عن إلقاء محاضرات، أو تسطير مجلدات.
إن غياب هذا الفقه - فقه المصالح والمفاسد- عند بعض الدعاة والناشئة، جعلهم يفعلون أموراً فيجلبون بها مفاسد .. ويُفَوِّتونَ مصالح .. وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
فكم من مصلحة فاتت، او مفسدة أُحدثت باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو باسم الإنكار على أهل البدع.
انظر -يا رعاك الله- إلى الذين كانوا يقتلون السُّيَّاح، وإلى غيرهم ممن يؤذي المسلمين والمسلمات والمعاهدين باسم الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو الجهاد - كما زعموا - انظر كم سببوا من مفاسد، وكم فَوَّتوا من مصالح، وحسبك من مفسدة كبرى، تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، وحسبك من تفويت مصلحة كبرى، وهي تقدم الدعوة إلى الله.
وانظر -يا رعاك الله- إلى حكمة النبي صلى الله عليه وسلم حين امتنع من قتل رأس المنافقين ابن أبي بن سلول، لتحقيق مصلحة سمعة الدعوة، إذ لما طلب عمر منه قتله، قال صلى الله عليه وسلم:((دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)) (2).
(1) مجموع الفتاوى (10/ 512)، (30/ 193).
(2)
رواه البخاري (3518، 4905، 4907)، ومسلم (2584).
وامتنع صلى الله عليه وسلم عن تحقيق مصلحة بناء الكعبة على أسس إبراهيم، خشية وقوع مفسدة الفتنة بين الناس وهي أكبر (1).
إن تحلي الداعية بهذا الفقه العظيم، يجعله يحصّل في دعوته مصالح عظيمة، ويدفع مفاسد كثيرة.
ويندرج تحت فقه هذا الباب: فقه بعض القواعد:
• درء المفاسد أولى من جلب المصالح أو المنافع (2)
• "عند تعارض مصلحتين يعمل بأعلاهما وإن فات أدناهما"(3).
• "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما"(4)، وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بقولهم:"يختار أهون الشرين أو أخف الضررين". (5)
وللعلماء تقسيمات بديعة، وتفصيلات مفيدة في هذا الباب، ليس هاهنا محل ذلك، ولكن نذكر بعضها باختصار:
قال ابن القيم: ((لإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثاني: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
(1) رواه البخاري (126، 1586)، ومسلم (1333).
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 87)، أشباه ابن السبكي (1/ 15)، إيضاح المسالك القاعدة (34)،
والمجلة العدلية في الأحكام الفقهية، التي كانت الدولة العثمانية تصدرها للقضاة، المادة:(30).
(3)
إرشاد الفحول للشوكاني (1/ 371).
(4)
الأشباه والنظائر للسيوطي (ص 87)، والمجلة العدلية المادة:(28).
(5)
المجلة العدلية المادة: (29).