الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني مراعاة طباع المدعوين الشخصية
.
وفيه ثلاثة مطالب:
الأول الأهمية والمقصود:
إنَّ مما لا شك فيه، أن الله فطر الناس على صفات متفاوتة، وسجايا متنوعة، وإدراكات متباينة.
فمنهم صاحب الحس المرهف، والطبع الرقيق، الذي يتأثر بالعاطفة، ويستجيب للموعظة ..
ومنهم العقلاني ذو التفكير، الذي يناسبه الطرح العقلي، والاستدلالات الرياضية ..
ومنهم الذي يؤخذ بالترغيب .. ومنهم الذي يتأثر بالترهيب .. ومنهم المسالم المنصت .. ومنهم المجادل العنيد .. ومنهم المتعالم .. ومنهم المتجاهل .. ومنهم القوي .. ومنهم الضعيف.
وقد يكون لبعضهم ظروف مؤقتة، تمنعه من الإدراك، وتحول دونه ودون الاستجابة، كمصيبة مفاجئة، أو خسارة فادحة، أو حالة نفسية معينة.
ومما لا شك فيه أن مُقتضى الحكمة، ونفع الخطاب. أن تُراعى هذه الطباع، وأن يُهْتَمَّ بخطاب كل صنف بما يناسبه، في إطار الشرع الحنيف.
والناظر في أسلوب القرآن الكريم: يجد تنوعاً عجيباً في الأسلوب، وتفاوتاً بديعاً في الطرح، ومعالجة ناجحة لكل أصناف البشرية.
قال سيد في الظلال: ((كان هذا القرآن يُواجه به النفوس في مكة، ويروضها حتى تسلس قيادها، راغبة مختارة، ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة، تنوعاً عجيباً .. تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر، من الدلائل الموحية، والمؤثرات الجارفة .. وتارة يواجهها، بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس، فلا يطيق وقعها، ولا يصبر على لذعها! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة، والمسارَّة الودودة، التي تهولها المشاعر، وتأنس لها القلوب .. ! وتارة يواجهها بالهول المرعب، والصرخة المفزعة، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب .. ! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة، ونصاعة، لا تدع مجالاً للتلفت عنها، ولا الجدل فيها .. وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح، والأمل الندي، يهتف لها ويناجيها .. وتارة يتخلل مساربها، ودروبها ومنحنياتها، فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها، فترى ما يجري في داخلها رأي العين، وتخجل من بعضه، وتكره بعضه، وتتيقظ لحركاتها، وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها! .. ومئات من اللمسات، ومئات من اللفتات، ومئات من الهتافات، ومئات من المؤثرات .. يطلع عليها قارئ القرآن، وهو يتبع تلك المعركة الطويلة، وذلك العلاج البطيء، ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصيّة العنيدة)). (1)
وهكذا ينبغي أن يكون أسلوب الداعية متنوعاً، يتناسب وكل موقف؟ ويتوافق مع كل نفس، وما فيها؛ من قدرات خَلْقية، وصفات
(1) في ظلال القرآن (6/ 3692 - 3693).
مكتسبة. غير مُغْفِل لحال المدعو، ولا لصفاته الفطرية، ولا مزاياه الشخصية.
ولولا خشية الإطالة، لسردت الكثير من الشواهد .. ولا يفوتنا أن نذكر أمثلة للتذكير.
فانظر كيف تتغلغل هذه الآيات في النفس البشرية، لتوحي إليها قدرة بارئها في معرفة ما يجري داخلها.
{وَاعْلَمُوا أَنّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . [الأنفال: 24]
{يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ} [غافر: 19]
وانظر كيف تُشعر الآيات التالية: هيمنة الله على ملكوته؛ بالعلم والقدرة والسمع والبصر، وبمراقبة الله للعبد في كل حين، وفي كل قول وفعل:
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18] والخبير هاهنا: هو العالم بخفايا الأمور، والمطلع على دقائق الأشياء.
{مّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . [ق: 18]