الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن حاجتنا إلى التواضع:
إن حاجة العلماء والدعاة إلى التواضع أشد من حاجة غيرهم إليه، لما له من أثر إيجابي كبير في نفوس المدعوين.
والمقصود بالتواضع: خفض الجناح، وقبول الحق ممن كان صغيراً أو كبيراً، صعلوكاً أو وجيهاً، صديقاً أو عدواً، واحترام كل الناس (1)، وعدم ازدرائهم للون أو نسب أو مهنة، وتذليل النفس للمؤمنين، ومخالطة الضعفاء والمساكين، والاستشعار بفضل الآخرين بكل شيء، والتقصير في كل شيء وهذا واجب على كل مسلم بعامة، وعلى العالم والداعية بخاصة.
بل على العالم أو الداعية - فوق ذلك - أن يتنازل عن كثير من حقوقه، وأن يغض النظر عن كثير من تجاوزات المدعوين تجاهه، وأن يتحلى بالتواضع فعلاً، بكل ما في هذه الكلمة من معان شرعية، حتى يكون قريباً من الناس بخطابه، ومن المتربين بتوجيهه، ومن المدعوين بنفسه.
إن على كثير من العلماء والدعاة؛ أن ينزلوا من بروجهم العاجية، ليجلسوا مع الناشئة، وأن يفتحوا أبوابهم، ليتحاوروا مع المتعلمين، وأن يوسعوا صدورهم، لمعرفة ما يدور في خلد المدعوين.
(1) ماذكر هاهنا خلاصة كلام الأئمة، راجع - إن شئت- التواضع لابن أبي الدنيا (88 - 116)، تاريخ دمشق (25/ 237)، فتح الباري (11/ 341)، فيض القدير (4/ 278).
إن اعتزال العالم، وإغلاق بابه، والتكلم بلغة لا تُسمع، وبتعابير لا تفهم، له أثره الخطير على الناشئة، بل هو سبب من أسباب انحرافهم.
فإن الناشئة إذا لم يُفرغوا ما في نفوسهم، ولم تُزل شبههم من صدورهم، ولم يجدوا من يأخذ بأيديهم، انعكس ذلك على تصوراتهم .. ثم على أفعالهم.
ولعل من أسباب انحراف الناشئة وتطرفهم هو تلك الفجوة التي حصلت بين العلماء والناشئة بخاصة، وبينهم وبين الناس بعامة، لذا بات من الضروري المسارعة في سدها، ومعالجة ما نشأ عنها، ومن الدعاة من يرى أن علمه ومنزلته لا يسمحان له بزيارة الفقراء، ومجالسة الضعفاء .. وخفي على هذا الصنف أن هذا هو الكبر بعينه، وهو لا يشعر.
كيف وقد عَلِمْنا ما كان من سيد الناس شرفاً ومنزلة ونسباً من تواضع جم، ومخالطته لمن لا يتوقع مخالطة
…
فكان صلى الله عليه وسلم مائدته بعد فتح مكة الخبز والخل (1)، .. وقبل دعوة امرأة يهودية (2).
وعاد غلاماً يهودياً (3) .. وكان يجلس على الحصير حتى تؤثر في جنبه (4)، وكان يجلس مع أصحاب الصفة، وكل هذا معروف لدى المسلمين جميعاً مما يغني عن سرد مراجعه.
(1) رواه الطبراني في الأوسط (6934)، والحاكم (4/ 54).
(2)
رواه البخاري (6875)، ومسلم (2190).
(3)
انظر فصل: الداعية وصفاته، الصفة الخامسة: التواضع والمخالطة.
(4)
انظر المبحث الرابع: مراعاة أحوال المدعوين الإيمانية، المطلب الخامس: مراعاة السنة لأحوال الناس الإيمانية.
فهل نحن معشر الدعاة مهما كنا على علم، ومهما بلغنا من منزلة .. هل نصل معشار علم النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته؟ ، ومع ذلك كان يفعل ذلك سجية في نفسه، وطاعة لربه، ومحبة لإخوانه. فصلاة ربي وسلامه عليه ما دعا داع .. واهتدى مهتد .. وتواضع متواضع.
وقبل مغادرة هذا المعلم لنذكر أنفسنا جميعاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) (1) والله المستعان على ذلك.
وفي آخر هذه الإلماحات أكرر أنه لم يُقصد بهذه الإلماحات التوسع فيها، وإنما أريد بها التنبيه كتمهيد للبحث. لذلك لم يتوسع بالاستدلال. وإلا فإن هذه الإلماحات تحتاج لمؤلف مستقل.
(1) رواه مسلم (2588)، والترمذي (2029) وغيرهما.