الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع حاجتنا إلى مخاطبة الناس بما يعقلون، وبما يحتاجون
.
يكفي في هذا المعْلَم حتى يتضح؛ أن نورد قوله تعالى ((لايكلف الله نفسا إلا وسعها))
قال المفسرون)) الوسع: الطاقة والقدرة)) (1)
قلت: والسع يشمل: الوسع العقلي، والبدني، والعلمي، فلا تكليف لإنسان فوق أي وسع منحه الله إياه
ومما يؤيد هذا المعنى؛ ما ورد عن إمامين كبيرين، يُهتدى بهديهما، ويُقتدى بآثارهما.
النص الأول: لعلي رضي الله عنه قال:
((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله)) (2).
الثاني: لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة)) (3).
والمقصود من هذه الإلماحة: أن يُحدَّث الناسُ بما يعقلون .. ويدركون .. ويفهمون .. وبما يحتاجون إليه، وبما ينفعهم، وبما كلفوا به، وبما سيحاسبون عليه، وبما يقدرون على فعله.
(1) زاد المسير لابن الجوزي (1/ 346)، وتفسير ابن كثير (1/ 350)، وفتح القدير للشوكاني (1/ 459).
(2)
أخرجه البخاري (127).
(3)
أخرجه مسلم في مقدمته (1/ 191).
ولقد كان من أعظم أسباب جهل الناس بدينهم، وانحرافهم عن صراطه المستقيم، مخاطبتهم بما لا يعقلون، وبما لايحتاجون.
أو بعبارة أخرى: مخاطبتهم بما هو فوق مستواهم الإيماني، والعلمي، أو بما لا حاجة لهم به، فكانوا يخرجون من كثير من الدروس العلمية كما دخلوا ..
لقد كانت كثير من دروس العلماء في التوحيد فلسفةً، وعلم كلام .. في (العرض والجوهر .. )(والعدم والمعدوم)(والاسم والمسمى (1))
مما لا يفهم منه العامة شيئاً، بدل أن يلقنونهم التوحيد من مصدريه الأساسين الكتاب والسنة، لذلك انفض العامة عن دروس العلماء .. وأقبلوا على مواعظ الدعاة، وحكايات الوعاظ، مما أضعف الحصيلة العلمية عندهم .. ولا تسأل بعد ذلك عما يفعله الجاهل .. ؟ ؟ ! !
كما يجب على الداعية، أن يخاطب الناس بما ينفعهم، وبما يلبي حاجاتهم.
(1) ومن ذلك على سبيل المثال قولهم: ((إن القِدم يضاد الحدوث، وليس العدم ضداً للقدم، وإذا كان جواز العدم على القديم منتفياً، كان وجوبه أولى بالانتفاء لقول الإمام: ((فإن قُدِّر العدم واجباً، كان ذلك محالاً ضرورة)) (الشامل في أصول الدين) للجويني ص (90)، نقلاً عن (كتاب الأشعرية وتطورها. لجلال موسى)، فانظر - يارعاك الله - الفرق بين هذا الذي يسمونه توحيداً، وبين نصوص القرآن والسنة في التوحيد.
فانظر في التوحيد قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصّمَدُ
…
} فلا يوجد عربي إلا فهمها.
وانظر إلى تعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم للشرك ما أبسطه، وما أقواه، وما أنفعه لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكبر الكبائر قال:((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (141)، والند هو الشبيه والمثيل. ولاحاجة لمزيد تعليق.
ولولا خشية الإطالة لنقلت من عباراتهم مما يسمونه توحيداً مالايفهمه المسلمون إلا قليلاً جدًا منهم.
فلا ينبغي له أن يحدثهم بدقائق العقيدة، التي لم يوجبها الشرع، ولا بتفصيلات الفقه، وخلافات العلماء .. فهذا كله مما لا حاجة لهم فيه إلا نادراً.
ولا ينبغي له أن يكثر عليهم من ذكر أعداء الله وما يمكرون، فإن في ذلك تخويفًا لهم، أو إشغالهم عن الأصل والأهم - وهو التعليم والتربية، وإزالة الجهل، وتقوية الإيمان -، ويصرفهم عن ما ينفعهم، ويشغلهم بما لا ينفعهم.
فإن مِثْل هذا، لا يكون في مقام الدعوة، وإنما له مقام آخر.
وليس من الدعوة في شيء، مخاطبة الناس بما لا يعنيهم، كالكلام عن مشكلات مشرقية في ديار مغربية، أو الكلام عن سلطان بعيد، لا تعني حاله المخاطبين من قريب أو بعيد.
كما يجب أن يخاطب المدعوين بلغة يفهمونها، وأسلوب يعونه ..
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه)). (1)
وعن أنس: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، حتى تفهم عنه)). (2)
وأما ما يفعله بعض العلماء والدعاة بلغة عالية، وأسلوب معقد، حتى غدا أحدهم يكتب لأجل الكتابة، ويخطب لأجل الخطبة، سواء فهم القارئ أو السامع، أو لم يفهم.
(1) البخاري (3567)، ومسلم (3567)
(2)
البخاري (95).
حتى بدت بعض تعليمات الدين وكأنها طلاسم، لا يحل ألغازها إلا المتخصصون، ولا يدركها إلا العالمون، فليس هذا من الحكمة في شيء، بل ربما كان سبباً في صدود كثير من الناس عن قبول الدعوة وإعراضهم عنها (1).
(1) حضرت في شبابي درساً علمياً، فلم أفهم ما يقال. فسألت من كان عن يميني: هل تفهم ما يقال؟ قال: لا .. وسألت الذي عن شمالي .. ثم الذي أمامي وخلفي، فأجاب جميعهم بالنفي .. فأين هذا من سيرة سيد المعلمين صلى الله عليه وسلم، الذي كان يخاطب الناس بما يفهمون.