الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استعمالهما، فهما يرسخان المعلومة، ويدفعان المدعوين للتفاعل، ويذهبان السآمة والملل (1).
وليس من الحكمة في شيء، ثبات الداعية على أسلوب واحد، لا يحيد عنه، ولا يتزحزح، مما يدفع المدعوين إلى الملل والسآمة، وعدم المشاركة، كما يؤدي الأسلوب الرتيب إلى تقليل الفهم، وعدم ترسيخ المعلومة.
المطلب الثاني: أمثلة من تنوع الخطاب في الكتاب والسنة:
إن المتأمل في كتاب الله يجد هذا الأسلوب جلياً وكثيراً .. وقد ذكرنا قسطاً منه في مبحث (الجدال) فليراجع.
وأما في السنة فقد كان سيد الحكماء صلى الله عليه وسلم ينوع أسلوبه مستعملاً الأساليب كلها الإلقائية منها .. والحوارية .. وطرح المشكلات.
فتارة يكون أسلوبه إلقاءً مرعباً، كأنه يخبر عن العدو: أنه على الأبواب ..
فعن جابر بن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول:
(1) كان ثمة مسجد في منطقة صناعية، وكان روّاده لا يجلسون لواعظ .. فقام - مرة - أحد الدعاة، وبدأ قائلاً: لو وزّعت البلدية الأراضي في المنطقة فكيف ستوزّعها؟ .. فجلس الجميع ورجع الذين خرجوا من المسجد .. وأصبح الناس كلهم مشدودين إلى الداعية ينتظرون ماذا يقول؟ فبعد أن هدؤوا قال الداعية: (آالبلدية .. أعز عندنا من الله ورسوله .. )(آالأراضي الدنيوية الفانية أغلى عندنا من أرض الجنة .. )، فكانوا بعد ذلك إذا قام لا يخرجون ..
((صبحكم ومساكم))، ويقول:((بُعثت أنا والساعة كهاتين))، ويَقرُن بين أصبعيه السبابة والوسطى.
وتارة يكون أسلوبه صلى الله عليه وسلم موعظة رقيقة، تقشعر منها الأبدان، وتقف لها الشعور.
فعن العرباض بن سارية قال: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إنّ هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: .... )) الحديث (1)
وتارة يستعمل أسلوب السؤال والجواب (الحوار) مع تلاميذه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم اليوم صائماً؟ )).
قال أبو بكر: ((أنا)).
قال: ((فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ )).
قال أبو بكر: أنا.
قال: ((فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ )).
قال أبو بكر: أنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة)) (2)، وفي رواية، زيادة (في يوم).
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معاذ: أتدري ما حق الله على العباد؟ )).
(1) رواه أبو داود (4607)، وابن ماجة (43)، والترمذي (2676)، واللفظ للترمذي.
(2)
رواه والبخاري في الأدب المفرد (515) والزيادة له، ومسلم (1028).
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: ((أن يعبد الله، ولا يشرك به شيء)).
قال: ((أتدري ماحقهم عليه (إذا فعلوا ذلك؟ ))).
قال: الله ورسوله أعلم.
قال: ((أن لا يعذبهم)) (1).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ ))، فوقع الناس في شجر البوادي.
قال عبدالله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت.
ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ .
قال: ((هي النخلة)) (2).
فانظر إلى هذه المحاورات ما أنفعها! وانظر إلى طريقة التدريس هذه ما أرسخها! .
فما أحرى علماءنا ودعاتنا: أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة لهم، وأن يكون أسلوبه منهجاً لهم في الدعوة إلى الله، فـ صلى الله عليه وسلم ما أعظمه مدرساً! وما أحسنه داعية!
ومن أبدع ما استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يسمّى اليوم عند التربويين: بخَلْق ـ أو إثارة ـ مشكلة ثم مشاركة الطلاب في حلها.
(1) أخرجه البخاري (7373)، ومسلم (30)، واللفظ له.
(2)
رواه البخاري (61، 62)، واللفظ له ومسلم (2811)
فقد قال صلى الله عليه وسلم مرة لصحابته: ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب .. ))، ثم دخل بيته، ولم يبين لهم من هم ..
ولا شك أن في هذا إثارة عظيمة لأذهان التلاميذ، الذين يريدون بشغف أن يعلموا من هم هؤلاء السبعون ألفاً، حتى يكونوا منهم.
وفي هذا شحذ لأذهانهم، وتحريك لتفكيرهم، وترسيخ للمعلومة في أذهانهم، وهذا الأسلوب أقوى من أن يقال لهم: هم كذا .. وهم كذا ..
لذلك بدأت أذهان الطلاب (الصحابة رضي الله عنهم تتحرك لحل المشكلة ..
فقال بعضهم: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم.
وقال آخرون: هم أولادنا الذين ولدوا في الإسلام.
وقالوا .. وقالوا ..
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج.
فقال: ((هم الذين لا يَسْترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)) (1).
(1) رواه البخاري (5705).
لا يسترقون: لا يطلبون الرقية على أنفسهم، المعجم الوسيط (1/ 367)، مادة:(رقا). قلت: ولا يمنع هذا الرقية عليهم.
لا يتطيرون: لا يتشاءمون بشيء، مختار الصحاح (1/ 169)، مادة:(طير).
لا يكتوون: من الكي بالنار. قلت: بغرض التداوي، أي: إلا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي.، ولمعنى الحديث راجع فتح الباري (11/ 410).
[وانظرالمعجم الوسيط (2/ 806)، مادة: (كوَّى)].
وحتى سؤاله عليه الصلاة والسلام عن الشجرة التي تشبه المسلم في الحديث السابق، فيه استعمال الطريقة الاستجوابية مع طريقة الإثارة.
والسنة زاخرة بهذه الأساليب الدعوية التعليمية التربوية الممتعة (1).
فما أجدرنا بالاقتداء بها.
(1) فأعظم بهذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي سبق استخدامه هذه الأساليب بمئات السنين أولئك الذين يتبجحون بأنهم أول من سنها، وأشار بها.