الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس مراعاة أحوال المدعوين النفسية، وظروفهم الخاصة، وحاجاتهم الملحة
.
من أفضل ما يتحلى به الداعية، إدراكُ ما عليه المدعوون من حالة نفسية خاصة، أو ظرف طارئ، وما يكون عادة بينهم من التفاوت في المنازل.
فإذا كان ثمة زلزال، أو حريق .. وحصل هلع، ووقع هرع، وتكشفت النساء، واختلطن بالرجال، فليس من الشرع أن يعاب عليهن، وهن لم يقصدن ذلك، أو يقف الداعية- وقتئذ- ليعظهن في حلال وحرام، والأمر فيه موت، وشغل عما هو فيه.
أو كان المسلمون في بلد تحت الاضطهاد، كما كان الأمر في عهد الحكم الشيوعي، فعليه أن يقدر ظروفهم، وأن لا يحملهم مالا يطيقون.
وقد عذر الله الذين لا يستطيعون الهجرة إلى ديار الإسلام نظراً لظروفهم الخاصة.
وقال تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللهِ وَالّذِينَ آوَوا وّنَصَرُوَا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]
فكل هذه الأحكام تقديراً لظروفهم الخاصة.
ففي صحيح البخاري أن أبا ذر لما أسلم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه فقال له: ((ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)). (1)
أي: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمكث في أهله، ولا يهاجر الآن، حتى ينتصر الرسول صلى الله عليه وسلم ويتمكّن في الأرض.
وذلك تقديراً لظرفه الخاص، إذ لم يكن أبو ذر من أهل مكة، ولم يكن له ناصر منهم، فيؤذونه أذى كبيرًا، فطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
كما لا يجوز للداعية، إغفال منازل الناس، ومقاماتهم الخاصة، وعليه مراعاتها، وفي الأثر عن عائشة رضي الله عنها:((أنزلوا الناس منازلهم)) (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) (3).
(1) رواه البخاري (3861). ومسلم (2474).
(2)
ذكره مسلم في المقدمة (1/ 170) فقال: وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم، وأخرجه أبو داود (4842) وهو ضعيف، فيه انقطاع بين ميمون وعائشة وفيه علل أخرى، وأخرجه ابن عساكر (42/ 522) عن علي، وفيه الأصبغ بن نباته متهم بالكذب، فلعله من قول عائشة رفعه من رفعه خطأً لضعفه في الحفظ.
(3)
صحيح لغيره، أخرجه أبو داود (4375) وأحمد (6/ 181) والبيهقي في السنن (8/ 334) من طرق يرتقي بها إلى درجة الصحة لغيره.
والمقصود من الحديث: أنه إذا سقط من عُرِفَ عنه التُّقى، أو الوجاهة، في زلة أن يُعفى عنه، ويُغض الطرف عن زلته.
قال الإمام الشافعي: ((وذوو الهيئات الذين يقالون في عثراتهم: هم الذين ليسوا يُعرفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة)). (1)
وفي هذا تقدير واضح لبعض الظروف التي يمر بها الناس.
ولما قدم عدي بن حاتم الطائي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استضافه، وقدم له وسادة إكراماً له، فهو ابن كريم مشهور. (2)
والمقصود؛ تقدير ذوي الهيئات .. ومن كان وجيهاً، أو سلطانا، فلا يستحسن مناصحته أمام الناس، بل لابد أن يكون على انفراد، وبأسلوب لا يدفعه إلى الاعتزاز بسلطته، أو استخدامها إذا لم ترُق له الموعظة.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان بأمر فلا يُبْدِ له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه، فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له)). (3)
وأهدت إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم للنبي طعاماً، وكانت ليلته عند بعض نسائه، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها بيدها يد الخادم فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، ويقول:((غارت أمكم)) وقال:
(1) السنن الكبرى للبيهقي (8/ 334).
(2)
انظر سيرة ابن هشام (4/ 223)، وتاريخ ابن عساكر (40/ 77) وأصل الحديث في الترمذي (2953)، وأحمد (4/ 378)، وصحح أصله الألباني في الصحيحة.
(3)
رواه أحمد (3/ 403 - 404)، والطبراني في الكبير (17/ 367)، والحاكم (3/ 290) وصححه الألباني في السنة لابن أبي عاصم (1096 - 1098).
"كلوا" وحبس الخادم والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة، وحبس المكسورة. (1)
أي: أخذ من بيت التي كسرت القصعة قصعة سليمة، وأرسلها للزوجة صاحبة القصعة المكسورة.
ومع بساطة هذه القصة، إلا أنها لا تخلوا من مدلول عظيم على سمو خلقٌ النبي صلى الله عليه وسلم، وتقديره لأحوال الناس، وظروفهم الطارئة.
ولو فعل أحد العلماء مثل هذا الفعل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان فيه من الاستهجان وتجاوز حدود الأدب الشيء الكثير، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك -وقتئذ- حالتها الخاصة، وما ثار فيها من غَيْرة النساء التي تُفقِدُهُن عقلَهن، وحُسنَ التصرف، فما زاد أن قال:((غارت أُمّكم)).
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي على ولدها، فقال:((اتقي الله واصبري))، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بَوَّابِين، فقالت: لم أعرفك، فقال:((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) (2).
ولا شك أن كلمتها (إليكَ عني) كلمة كبيرة على أحدنا، فكيف إذا قيلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! ؟
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الحكماء، أدرك ما كانت المرأة عليه من حالة خاصة، فضلاً عن أنها لم تعرفه .. فأعرض عنها، بل أعرض عن تعليمها، لأنها في حال لا يُمَكّنها من القبول والفهم، فلما جاءته وكانت
(1) رواه البخاري (2481، 5225).
(2)
أخرجه: البخاري (1283)، ومسلم (926).
في نفسية غير نفسيتها الأولى، أقبل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم يعظها ويعلمها ولا يعاتبها.
ولما نزلت الآيات بتبرئة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، قالت لها أمها: قومي فاحمدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:((لا والله؛ لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل). (1)
ولا شك أن هذا القول لا يتناسب، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان مع أحدنا، لوجد في نفسه ما وجد.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الدعاة أدرك حالها الخاصة، فلم يجد في نفسه عليها، بل لم يعاتبها مجرد عتاب على هذا التصرف.
وانظر -يا رعاك الله- إلى هذا الحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وتأمل ما فيه من الحكمة في مخاطبة المدعو بما يناسب حاله.
جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال:"أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم" قال: "أفتحبه لابنتك؟ " قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم" قال "أفتحبه لأختك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم" قال: "أفتحبه لعمتك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم" قال: "أفتحبه لخالتك؟ " قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: "ولا الناس
(1) انظر قصة حادثة الإفك عند البخاري (4750).
يحبونه لخالاتهم". قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحَصِّن فَرْجَه" قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. (1)
لقد أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حالته الخاصة، فلقد كان يتصارع في نفس الشاب شهوة عارمة، وإيمان صادق، ولم ير الشاب -وقتئذ- حلاً لهذا الصراع، وَفَضَّاً لهذا النزاع .. إلا إذناً مؤقتاً من النبي صلى الله عليه وسلم يتجاوز به حدود الشرع مؤقتا .. ثم يرجع إلى الشرع.
فتَقَدَّم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذنه بالزنى بكل صراحة، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم حال الشاب، فلم يتوجه إليه بموعظة إيمانية، فضلاً عن أن يُعنِّفه أو يُوَبِّخه أو يطرده، لأن الشاب كان ممتلئاً إيماناً، ولولا ذلك لزنى دون إذن النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه، وما دفعه إلى الاستئذان إلا الإيمان. فراح النبي صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُهُ بما في هذا العمل من مفسدة أخلاقية عظيمة .. تستبشعها الفطر السليمة، وتستقبحها النفوس العفيفة .. إذ أن المسألة ليست مسألة حرام فحسب
…
بل فيها مفاسد أخرى، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: إذا استأذنت لك من الله
…
فكيف نحصل على الإذن من آباء المزني بهن، وإخوانهن، وأعمامهن، وأخوالهن .. وإذا أذنت لك بالزنى بقريبات هؤلاء .. فهل ترضى أن آذن لهم فيزنوا بقريباتك
…
ولما بدأ الشاب يشعر أن لا مجال للإذن، ولا سماح بالإثم .. سارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تثبيته بدعاء، يثلج الصدور .. ويطمئن القلوب .. ويهدئ الأنفس ((اللهم اغفر ذنبه .. وطَهِّر قلبه .. وحَصِّن فَرْجَه)) (2)
(1) رواه أحمد (5/ 256 - 257) واللفظ له، والطبراني في الكبير (7679، 7759)، وفي مسند الشاميين
(1523)
، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 129): رواه أحمد، والطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.
(2)
تقدم تخريجه في ص (
…
).
ولو ذهبنا نتتبع النصوص من الكتاب والسنة، في تقدير ظروف المدعوين، لطال بنا المقام، واللبيب يكفيه الإلمام.