الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} . [الحجر: 49، 50]
المطلب الخامس: مراعاة السُّنة لأحوال الناس الإيمانية:
ولم تخرج السنة عن هذه المنهجية القرآنية العظيمة، فقد خاطبت كل صنف بما يناسب إيمانه، ولو أمعنّا النظر في السُّنة لِجَمْعِ مثلِ هذا لعجزنا، ولا بأس بذكر قليل من ذلك على سبيل التذكير والتنبيه.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب أهل الكتاب بغير ما كان يخاطب به كفار قريش؟ ؟ .
فخاطب اليهود بوجوب التزامهم التوراة الصحيحة، وعدم التحريف فيها، فلو أنهم التزموها لآمنوا.، ومن ذلك: لما جاءه اليهود بزانٍ منهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:((أنْشُدُك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ )) (1).
وخاطب وفد نجران في إبراهيم أنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً.
(1) رواه مسلم (1700)
وكان قد كتب لهم ((أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد
…
)). (1)
فانظر كيف خاطبهم بتوحيد الألوهية مباشرة، لأنهم مُقرّون بتوحيد الربوبية.
وكان يخاطب من عصى من أصحابه بالإيمان، وبالتذكير بمحبة الرحمن.
فعن عبد الله بن مغفل أن رجلاً لقي امرأة بغياً في الجاهلية، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها، فقالت المرأة: مه، فإن الله عز وجل قد ذهب بالشرك، وقال عفان مرة: ذهب بالجاهلية، وجاءنا بالإسلام، فولى الرجل، فأصاب وجهه الحائط، فشجه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:((أنت عبد أراد الله بك خيراً، إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عليه بذنبه، حتى يوافى به يوم القيامة كأنه عَيْر)). (2)
ولا أدَلَّ على ذلك من الرسائل التي كان يرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وسلاطين الشعوب، فقد كان يخاطبهم بالإيمان، وبدخول
(1) السيرة لابن هشام (2/ 215 - 225)، البدايةوالنهاية لابن كثير (5/ 52)، زاد المعاد لابن القيم (3/ 629)، الطبقات لابن سعد (1/ 357).
(2)
رواه أحمد (4/ 87)، وابن حبان في صحيحه (2911)، والحاكم (1/ 349 و 4/ 376 - 377) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ومعنى (عيْر): جبل بالمدينة، أي: كأنّ ذنوبه مثل عَير.
الإسلام: فخطابه لكسرى المجوسي، لم يكن كخطابه للنجاشي من أهل الكتاب، ورسائله أشهر من أن تسطر هاهنا. (1)
ومن أجمل ما يسطر هاهنا؛ مفارقة خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين من في قلبه إيمان، وبين من خوي قلبه من الإيمان، وكان ذلك بين مادية سراقة، وإيمان عمر رضي الله عنهما:
لما تبع سراقةُ بن مالك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ساعة الهجرة إلى المدينة ليقبض مكافأة قريش
…
فلما أدرك سراقةُ النبي طلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمي عنه، وله مكافأة مالية هي أقرب إلى الخيال -يومئذ- منها إلى الحقيقة .. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كأني بك قد لبست سواري كسرى)). (2)
ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أثّرت الحصير في جنبه فبكى عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما يبكيك؟ )) فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله! ! !
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة)). (3)
فجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول لسراقة، اختلف اختلافاً كبيراً عن جوابه لعمر .. فالأول كان وعداً بالدنيا .. والآخر وعداً بالآخرة .. فلماذا اختلف الخطاب؟ ! ولماذا لم يقل لسراقة ستُسْلم وستكون لك الجنة
…
(1) راجع السيرة لابن هشام (4/ 330 وما بعدها)، وزاد المعاد لابن القيم (3/ 688 وما بعدها).
(2)
أورده ابن حجر في الإصابة (3/ 41)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/ 357، 358).
(3)
رواه البخاري (4913)، ومسلم (1479).
ولماذا لم يَقُل لعمر ستكون أميراً عظيماً، وسلطاناً مهيباً، وستملك ما تحت قدم قيصر وكسرى؟ .
ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في دعوته وإجاباته مستحضراً حال المدعو الإيمانية
…
فأما سراقة فلم يخرج لاحقاً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا للمال، ونفسيته نفسية غير إيمانية، فهو لا يقيم وقتئذ للإيمان والجنة وزناً، فلا يناسب أن يقال له: ستكون مؤمناً، وستدخل الجنة، لأن نفسيته - يومئذ - كانت نفسية دنيوية، وقصده من اتباع النبي كان قصداً مادياً، فناسب أن يَعِدَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم بالمادة (سواري كسرى) التي هي مقصده الأول وقتئذ، ومعلوم عند سراقة أمانة رسول الله وصدقه .. وأنه إذا وعد وفى.
وأما عمر رضي الله عنه فنفسيته نفسية إيمانية، لا تقيم للدنيا وزناً، أمام رضا الله تعالى وجنته، فناسب أن يخاطب نفس عمر بما يناسبها، فقال له:((أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة)).
كما يَصْلُحُ هذا شاهداً قوياً لما سبق ذكره في باب مراعاة أحوال المدعوين الشخصية والنفسية.
ويدخل في هذا الباب كذلك؛ المسلمون الحديثو عهد بالجاهلية، إذ لا يكون خطابهم كخطاب المؤمنين السابقين بالإيمان، أو الذين وُلدوا في الإسلام، كما لا يكون خطاب الصغار كخطاب الكبار.
ذلك لأن الإيمان والعلم لا يكونان عند حديثي العهد، كما يكونان عند المؤمنين السابقين بالإيمان.
فمن ذلك، ما وقع من الأحداث في أول قيام الإسلام في المدينة، فقد قارف ماعز رضي الله عنه ذنبًا، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معترفاً بِذنبه، طالباً إقامة الحد عليه، وكان الإسلام -وقتئذ- كله حديث عهد بالمدينة، فراح رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه .. رغم مصارحة ماعز رضي الله عنه بفعله (1). كل ذلك تقديراً للظروف العامة التي يمر بها الإسلام، والظروف الإيمانية التي يمر بها المسلم الحديث العهد، وما يكون منه من الذنوب.
(1) أخرجه البخاري (6824)، ومسلم (1692).