الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني حاجتنا إلى التأصيل قبل التمثيل، والعاطفة والارتجال
.
المقصود بهذه الإلماحة هنا: أن حاجتنا إلى معرفة أسس الدين، وأصول العلوم، وقواعد المسائل، كثوابت التوحيد، وقواعد الفقه، وأصول القضاء، وركائز الدعوة، وفهم هذه الأصول، والعمل بمقتضاها، وتربية الناشئة عليها، حاجتنا إلى هذا التأصيل أكثر من حاجتنا إلى فروع المسائل، وإثارة العواطف، وحماسة المواقف.
فإذا كان التأصيل صحيحاً، ثبت أصحابه في الملمات، ونجوا في الفتن، وآتى ثماره، وانتفع الناس به.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السّمَآءِ * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا
…
} الآية [إبراهيم: 24]
وأما إذا ساد -في المواقف الدعوية- الارتجال والتعجل، وتحكمت العواطف والحماسة، اضطربت الدعوة، وماج أصحابها، فسقطوا في حمئة الفتن، ولم يثبتوا في أعاصير المحن، فلم ينفعوا ولم ينتفعوا.
قال تعالى: {فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ} . [الرعد: 17]
فهل من متذكر! ؟ !
وقال: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ .. } . الآية [إبراهيم: 26]
والمقصود بالتأصيل كذلك: معرفة أحكام الكليات، وفهم العموميات، وضوابط الدليل، وأسس الاتباع، وتوضيح معنى الابتداع، وأنواع الخلاف ومواقفه، ومتى يجب الاتفاق، ومتى يسوغ الاختلاف والافتراق، ومتى يكون الاجتهاد خطأً، ومتى يكون الرأي انحرافاً وضلالاً.
ومن التأصيل المنهجي: معرفة قواعد الوصول إلى الحق (1)، والتفريق بين الدليل وبين التزيين (2)، وفهم قواعد المصالح والمفاسد حين التعارض، فيما بينها وبين النصوص، وفيما بين بعضها بعضاً.
والتأصيل في مجال الدعوة يعني: وجوب معرفة أصولها، وقواعدها، وآدابها، ومواقفها من كل فرد، ومن أنواع المجتمعات، ومعرفة أحكام وسائلها، وطرق أساليبها، كل ذلك يجب على الداعية أن يتعلمه، ويتربى عليه، قبل أن ينطلق في دعوته، وهو لا يعرف أصولاً، ولا يحسن سلوكاً، ولا يدرك حكمة، وإلا كان إفساده أكثر من إصلاحه، وصدود الناس عنه كان أكبر من إقبالهم، وسيُتكلم تفصيلاً عن هذا في فصل منهجية الدعوة.
إن فقدان هذا المَعْلَم - معلم التأصيل - جرّ على بعض المسلمين اضطراباً في التفكير، وانحرافاً في المنهج، وخللاً في الدعوة، فجعلهم يتعلقون بالعاطفة والتزيين (2)، لا بالبرهان والدليل، وفهم للتمحور حول
(1) ثمة مؤلَف للمؤلف في ((قواعد معرفة الحق)) يسر الله نشره.
(2)
التزيين مصدر زيّن: والمقصود بذلك؛ ما يفعله المخالفون للشرع من تزيين أقوالهم وأفعالهم لرد النصوص، والخروج عن الشرع، وقد يكون ذلك من أنفسهم أو من الشيطان، وقد أشار الله إلى هذا في أكثر من موضع في كتابه فقال:{أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوَءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً .. } الآية [فاطر: 8]،
…
=
الفروع (1) لا الأصول، والانطلاق من العاطفة والحماسة. لا من الثوابت وبُعد النظر، والتعلق بالحزبية والرجال، لا بالحق والإسلام.
إن فقدان الثوابت والتأصيل لدى جماهير المسلمين جعلهم يباعون ويشترون بأبخس الأثمان، ويجرون وراء كل ناعق.
إن غياب هذا المَعْلَم، يربك الداعية في المواقف الحرجةِ، ويجعله مضطرباً، لا يحسن تصرفاً ولا يجيد رأياً، ويجعلهُ لا يثبت في محنة؛ كريشة في مهب الريح، كحال البيت إذا هبت عليه عاصفة وقد بني بلا أسس.
وإن إعادة تربية الناشئة على التأصيل، وبخاصةٍ في مقام الدعوة، يقي كثيرًا من الانحرافات والانتكاسات، ويضمنُ كثيرًا من السدادِ والتوفيق.
إن التأصيل يَهَبُ للداعية توفيقاً في الدعوة، وحسنَ تصرفٍ في المواقف الحرجة، وثباتاً - على الحق- في مواجهة الفتن.
(1) ولا يعني هذا؛ التقليل من شأن الفروع فالكل من الدين، والكل مهم، وقد أمرنا الله بالدخول في الدين كافة، فقال:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كَآفّةً .. } الآية. [البقرة: 208]، ولكن المقصود ما يفعله بعض الدعاة من التركيز على بعض الفروع، كأنه الدين كله أو أصل من أصوله .. غافلاً عن الأولويات، ومتجافياً عن المهمات.