الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدّمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيدنا محمد وسلّم (1)
تمهيد:
الحمد لله ذو المجد والعز والملك الذي لا يزول، الغالب على أمره فلا معقب لحكمه ولا مغير، ولا ينتقض ولا يحول، دائم الوجود، فلا يتحدد بالأعصار والدّهور، والأوقات والفصول، تنزه عن الجهة والمكان، وعن أن يحيط بكنه ذاته الأوهام بل ولا العقول، كرّم بني آدم وحملهم في البرّ والبحر، وفضّلهم على كثير ممن خلق تفضيلا، ورفع بعضهم على بعض خلافة وملكا، وعلما وعملا، وحكمة ونبوءة وولاية، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا، علّم الإنسان بالقلم ما لم يعلم، ووهبه خيرا جزيلا، ويسر علينا ضبط العلوم والآثار، ونقل ما انتقش على صفحات الأيّام من الأخبار، وألهمنا إلى ردّ وقائع الأكوان الماضية إلى أوقاتها، وتقييد الحوادث الحاضرة بساعاتها، وجعل لنا في القصص عبرة وذكرى، وأيقظنا به من سنة الغفلة، وجعل لنا أحسن القصص في كتابه العزيز تلاوة وذكرى، فكم شاهدنا ببصائرنا ما لم نشاهده بأبصارنا، وكم سرحت أفكارنا في ديار قوم نأت عن ديارنا، حتى حضرنا في لحظة واحدة في بقعة واحدة ما تطاولت به الدهور ونأت به الأقطار، وصارت واقعات الكون محصورة في دور من الأدوار، ودار من الديار، وجعلنا القاصين (2) لآثار من سلفنا، مبلغين (3) ما ثبت لدينا لمن خلفنا، ناقلين ما أبقاه الدهر من الأخبار، راقمين لأحوال من مضى وما لهم من الآثار، والصّلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمد أشرف من تعلّم وعلّم، ووعظ بذكر من مضى من الأمم، وزهد في الدنيا الدنيئة فهي عبرة لمن اعتبر، وفي تقلبها بأهلها تبصرة لمن تبصر، ورضي الله تعالى عن
(1) في ط: «وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم» .
(2)
في ت، وط:«وجعلنا من القاصين» .
(3)
في ت: «ناقلين مبلغين» .
آله وصحبه الذين بنقل آثارهم المرضية، وتصفح سيرهم الزكيّة، نهتدي إلى الصّواب والحق المبين، والتمسك بأذيال شبههم السّنية، نفوز بعين اليقين، إن هذا لهو حق اليقين، وسبحان الله العظيم.
أما بعد فإن علم التاريخ الذي اعتنى بتحريره أساطين حفّاظ الرواة، واشتغل بتنقيحه الأئمة المحققون الهداة، من أفضل العلوم نفعا، وأشرف المزايا قطعا، إذ بمعرفته يكون اللّبيب في دار الغرور على أهبة سفر، وبتعاطيه يكون الموفق دائما على حذر، وفيه للفضلاء النبلاء تذكرة وهن للتهيئ للرحيل، وإيقاظ للغافل (4) من نومة كسله، وتسويفه إلى المبادرة بالتوبة التي هي إلى السعادة أهدى دليل، وتنشيط للمتواني ليتلافى (5) ما بقي من عمره فإنه نزر (6) قليل، وفيه مع ذلك امتثال لقوله صلى الله عليه وسلم «ليبلغ الشاهد الغائب» أو كما قال:«فإنه علم شامل لتبليغ جميع ما فيه نفع للخلق، من أحكام ومواعظ وكل نافع من الكلام» ، وقالوا:«من كتب وقائع أيامه فقد كتب كتابا لمن بعده، ليشاهد حوادث دهره وأعوامه، ومن قيّد ما شاهد فقد أهدى لمن بعده أسرارا، ومن كتب التاريخ فقد زاد في عمر من يخلفه أعمارا، وبوّأه بسماعه (7) ديارا لم تكن له دارا، وأحلّ أهل الآفاق بلادا ما كانت لهم منزلا ولا قرارا. شعر (8): فإنني إن لم أر الديار بعيني، فلعلّي أرى الدّيار بسمعي، ولقد أفادنا الأمم الماضون بأخبارهم، وأطلعونا على ما دثر وما بقي من آثارهم، فأبصرنا ما لم نشاهده بأبصارهم، وأحطنا بما لم نحط به خبرا بأخبارهم، فحق على من تيسر عليه نقل ما شاهد، وسمع ما لم يشاهد أن يبلّغ من بعده كما بلغه من قبله كما قال: «لقد غرسوا حتى أكلنا وإننا، لنغرس حتى يأكل الناس بعدنا» .
هذا وقد سألني بعض اخواننا من أهل العصر لما سمع بعض مغازي الصحابة الأعلام - رضي الله تعالى عنهم - حين فتحوا المغرب الفتح الأول، ومغازي المجاهد في سبيل الله عبد المؤمن رحمه الله لإفريقية الفتح الثاني لما استولى عليه الكفار من البلاد البحرية، ومغازي العساكر العثمانية لتونس عند الفتح الثالث لما استولى عليها الكفرة (9) فاستنقذوها - رحم الله أسلافهم وأخلافهم وقرن النصر براياتهم -، وطلب مني تقييد شيء من ذلك مع تقييد شيء من أحوال أمراء الإسلام القائمين بحفظ المغرب من الفتح الأول إلى الآن،
(4) في ت، وط:«وإيقاظ الغافل» .
(5)
في ت، وط:«ليلاقي» .
(6)
في ش: «نور» .
(7)
في ش: «ساعة» ، والظاهر أنها هفوة من الناسخ لعدم استقامة المعنى.
(8)
ما سيأتي ونصن عليه المؤلف بالشعر ليس إلاّ نثرا كما يلاحظه القارئ.
(9)
في ش، وط:«الكفرة اللئام» .
وتحديد المغرب برا وبحرا، وذكر بلدان المغرب وخواصها وسكانها، ومساحة ما بينها، مع ذكر أهل الفضل من العلماء والصالحين بخصوص صفاقس من الماضين والحاضرين، وذكر أحوالها مع ذكر ما تيسّر من فضلاء غيرها على سبيل الإختصار، فرأيت فيما دون ما طلب خرط القتاد سيّما من مثلي ممن لا مادة له في تعاطي هذا الخطب العظيم الشأن، ومع ذلك فلست أعد نفسي أهلا لأن أكون من فرسان هذا الميدان، وأحرى وأنا في بلد مطروح في زوايا الإهمال لإقبال أهله على تحصيل الدينار والدرهم والسعي على العيال، ولم يعتن الماضون بضبط أحوالها إلاّ بقدر ما (10) ليس له بال. فأكّد علي السائل الطلب، وصار لي كالغريم الممطول، ومدافعتي له كالفضول. فتصفحت ما لدي من المادة فإذا هي بضاعة مزجاة، وقد جرف الطاعون من بلدنا من كنا نعده من الرواة، ورأيت أنه لا يصلح لهذا الأمر إلاّ الوزراء وأرباب الدول الذين يتقلّبون في ظلال الملوك والسلاطين، ويطالعون خزائنهم المحتوية على مادة التواريخ ويتدارسونها كل وقت وكل حين، وتتصرف على أيديهم حوادث العصر والأوطان، ووقائع السلاطين والبلدان، فأحجمت عما سئلت إحجام العاجز الكليل، وتقاعست عن التقدم لهذا الخطب الجسيم، إلاّ أن السائل حسب أن كل بيضاء شحمة وكل سوداء (11) تمرة، وظن أن هذا الأمر عندي على طرف اللثام (12)، وأنه مما يقال في أيسر أيام. فجعل يكرر السؤال المرة بعد المرة، وأنا أتعلل في كل كرة، فشبهت حاله معي بحال الطفل الصغير، إذ يظن أن أباه على كل شيء قدير. ولما لم ينفع التعلل والمدافعة بالتي هي أحسن وأوفق. قلت:«أدفع السائل بظلف محرق» . فعزمت على إسعافه بقدر الطاقة، وتوكّلت على الله، وطلبت منه الإعانة والتّوفيق، فإنه بتحقيق الأمنية حقيق، وبيده أزمّة (13) التّحقيق. وكتبت ما تيسر لي وإن كان شيئا يسيرا، لكنه بالنسبة لأمثالي قد يعده المنصف خيرا من الله كثيرا. والمرغوب من ذوي الفضل والكرم أن يعاملوني بالفضل والرضا والسماح، لا بالسخط والإفتضاح. ولله در القائل:
[طويل]
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
…
كما أن عين السخط تبدي المساويا
[طويل]
فقلت لهم لا تنسوا الفضل بينكم
…
فليس ترى عين الكريم سوى الفضل
(10) في ت: «إلاّ ما قدر هما» ، وفي ط وش:«إلاّ مما قدره» ، والتّصويب من عندنا ليستقيم المعنى.
(11)
كذا في ط، وفي ت:«أسود» ، وفي ش:«سواد» .
(12)
ما على الفم من النقاب، تاج العروس 9/ 55.
(13)
في ط: «أزمنة» .
وإذا عثروا لي علي غلط صريح أو نقل غير صحيح أن يردوه بالّتي هي أحسن بعد التثبت والتحقيق لأن هذه أخبار ينقلها الرواة وكل ينقل على حسب ما ثبت عنده وتقرر، ويؤرخ حسب (14) ما لديه تحرر، والتعرض لنقل الأقوال المختلفة قد يفضي إلى الملل (15) ويورث الكسل، فيأخذ الإنسان بحسب اجتهاده ما يراه أقرب للصواب، والله أعلم وعنده أم الكتاب.
وحصرت ما كتبته في مقدمة وإحدى عشرة مقالة وخاتمة، فجاء بحمد الله مهماته كأحد عشر كوكبا والشّمس والقمر بازغة غير كاسفة ولا آفلة، وسميته «نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار» .
وها أنا أشرع في المقصود بعون الله المعبود فنقول:
أما المقدمة ففي حدّ علوم التاريخ وموضوعه وفائدته ومنفعته، وأول من أرّخ في الإسلام فيكون هو كواضعه.
وأما المقالات:
فالأولى في تحديد المغرب برّا وبحرا، وأسماء البلدان وخواصّها وسكّانها، ومساحة ما بينها، والمراسي وما يتعلق بذلك.
الثانية في ذكر الخلافة وخلفاء الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاء بني أميّة بالمشرق، وما وقع من الفتح الأول لأرض المغرب على أيدي الصحابة وأمراء بني أمية.
الثالثة في ذكر خلفاء بني العباس وبعض أمرائهم بالعراق وأمرائهم بالمغرب.
الرابعة في ذكر ملوك الشيعة غربا وشرقا وما يتعلق بذلك.
الخامسة في ذكر ملوك صنهاجة بالمغرب، ونور الدّين بالشّام وصلاح الدّين بمصر والشّام، وكيفية قطع مذهب الشيعة من هذه الأقطار.
السّادسة في ذكر خلفاء بني أمية بالأندلس ودول الطوائف بعدهم.
السّابعة في ذكر ملوك لمتونة بالعدوة والأندلس.
الثّامنة في ذكر دولة الموحّدين بالعدوة والأندلس، وفتح عبد المؤمن الفتح الثاني لمّا استولى عليه الكفار من البلاد البحرية.
التاسعة في ذكر بني مرين (16)، وبني زيّان بتلمسان، وبني نصر بالأندلس.
العاشرة في ذكر دولة بني حفص بإفريقية.