الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسكين، فلما رجعوا إلى بلدهم سألهم ملكهم عن حال البلدة التي قدموا منها فقالوا له:
ما رأينا بلدا أكثر منها مالا وأقل سلاحا وأعجز أهل عن مدافعة عدو فحكوا له الحكايتين، فتأهّب ملكهم لدخولها في مراكب البحر فدخلها في ليلة واحدة بلا كبير مشقّة، واستولى عليها، ولم ينج من أهلها إلاّ من كان تسوّر ليلا، وانحاز المسلمون إلى تاجوراء، وجبال غريان ومسلاتة، وصارت المدينة للنّصارى / إلى أن كان من أمرها ما كان» (502) اهـ.
ومما وقع في أيّام الحسن لما أدخل النّصارى لتونس انهم تمكنّوا من بناء حصار حلق الوادي (503)، وشاركوه في تصرّفاته في الأحكام، فأقاموا منهم كبيرا اسمه جوان بن جاكمو (504) في القصبة مشاركا للحسن في أحكامه وتصرّفاته، وصار معه كالمتمكّن على حلقومه بمدية أن قال لأقطعه.
أحمد الحفصي واستمرار التصارع العثماني الإسباني:
ثم إن أحمد الحفصي لما استقلّ بالأمر بعد أبيه التفت بما يقوم به في مصالح البلاد «وجد (505) الخزائن خالية لأن أباه أتلفها، وغلب النّصارى على أكثرها، وشرع أولاد سعيد في النهب على جاري عوائدهم، وكانوا يجاهرون بشن الغارات إلى أن آل بهم الحال ووصلوا إلى الجبل الأخضر (506) وساقوا (507) مواشي الأمير أحمد الحفصي، فخرج لهم بنفسه وأدركهم بسيجوم، وطعن شجاعا من شجعانهم، وركب ثلاثة آلاف فارس سمّاهم زمازمية وكانوا قبلا يسمون موحدية (508)، واستفتى أرباب الأحكام الشرعية في شأنهم» (509)، فأجابوا بأن ابن يونس المالكي لما سئل عن حكم أموال المفسدين القاطعين للطّرق المغيرين على المسلمين ويسفكون الدّماء وينهبون الأموال كبوادي الغرب وشبههم،
(502) رحلة العياشي نقلا حرفيا ص: 66 - 67.
(503)
انظر اتحاف أهل الزمان 2/ 13.
(504)
في الأصول: «جاكموا» والتصويب من المؤنس ص: 168.
(505)
النقل بتصرف من المؤنس ص: 169.
(506)
فجاه باردو، الاتحاف 2/ 16.
(507)
في الأصول: «وسبوا» والتصويب من المؤنس.
(508)
في الأصول: «موحدين» والتصويب من المؤنس.
(509)
المؤنس ص: 169.
قال: قال سحنون لمالك - رضي الله تعالى عنهما -: أتكون دماؤهم وأموالهم هدرا؟ قال:
نعم. قال ابن القاسم: وإن كان فيهم ركن من أركان الاسلام / مثل الذين يصلّون ويصومون شهر رمضان ويقولون لا إلاه إلاّ الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مالك - رحمه الله تعالى -: لو كانوا مسلمين ما ضرّوا باخوانهم المسلمين، وإن الجهاد فيهم فريضة، وقال مالك أيضا: جهادهم أحبّ إليّ من جهاد الرّوم، قال سحنون بن سعيد: مالهم سائغ حلال لمن أخذه كان بالوجفة (510) أو بغير الوجفة أو بسبب من الأسباب، صح من الأحكام، نقله ابن يونس من المدوّنة، ونقل عن الرّصاع مثل ذلك، وفي ابن ناجي تحريم مبايعتهم السّلاح حتى الأخفاف والرواحي.
وكان المولى أبو عمرو عثمان الحفصي أجلاهم عن الوطن، وحددّ لهم السّكنى من وادران إلى القبلة لا يتعدونه (511).
ثم إن أحمد الحفصي اتخّذ عسكرا من السّود لما كان يتوقّع من تملّك البلاد لقوم لغتهم العربية، فاتخذ لذلك الجيش السّوداني، ورفع منزلتهم رجاء أن يكونوا أولائك المرموز إليهم - حسبما وقع عليه في الأجفار أو أخبره به منجّموه - وكان له اهتمام بهذا الفن ودار على آذانه كثيرا أن الحكم ينتقل عنهم إلى رجل اسمه علي من غير جنس العرب، ويكون انقراض ملكهم على يديه، فأقام مملوكا من أعلاجه سمّاه عليا، وأجلسه مجلسه، وفوّض له الأمر (512)، ويأبي الله أن يكون إلاّ ما أراده وقدره ولا ينفع حذر مع قدر.
هذا وإن النّصارى / الذين تخلفوا من نجدة الحسن - المتقدم الذكر - في غاية الاهتمام والإعتناء بانشاء الحصارات التي بحلق الوادي واحداث ما لم يسبق لحدوثه من قبل، وضايقوا الحضرة غاية الضّيق إلى أن صاروا يرمون الصّوف والجير على أهل تونس فإن أتوا به فذلك مرادهم، وإلاّ أغاروا عليهم برّا وبحرا وبارت (513) الحيلة في مدافعتهم فمن أعظم بناءاتهم حصار حلق الوادي والبرج المقارب له، والثّالث البستيون خارج باب البحر، أما الحصار فهو بناء عظيم كالمدينة مربّع، وعلى أركانه (514) الأربع أربعة ابراج في غاية الضخامة على كل ركن برج، والبحر من جنوبيها والبحيرة من الغرب، وحفروا
(510) ساقطة من ش.
(511)
المؤنس ص: 170.
(512)
المؤنس ص: 171.
(513)
أي انعدمت.
(514)
في الأصول «أركانها» .
حفيرا عميق الماء بينهما حتى أحاط الماء من جميع الجهات، وعند مجتمع البحر والبحيرة البرج، وتدخل سفنهم على هذا الحصن الأعظم، فترسي عند بابه، وعمق الخليج ستّون ذراعا، وقعره متّصل بالبحر، وخارج الحصن دور يسكنها المنافقون، وقدرها أزيد من مائتي دار والخندق والبحر محيط بالجميع، ونقبوا تحت الأرض نقبا طويلا يتّصل إلى البرج الخارج عن الحصن، وبين الحصن والدّور سور يمنع من يريدهم بسوء وعرض سور الحصن يسير عليه سبعة من الخيل من غير مضايقة ولا مزاحمة، وهو ذو وجهين خارج وداخل بحجارة ضخمة اقتطعوها / من الحنايا التي مرّ وصفها، وما بين وجهي السّور حشو الجير افراغا مع دقيق الحصباء كي يعسر نقبه، ولا تعمل فيه الآلات من البونبات والألغام والمدافع، وجعلوا كنيستهم وسطه ودواميس المياه المحكمة بأتقن الصّنع، وأقاموا في بنائه ثلاثا وأربعين سنة لم يخل يوم فيها من التّحصين، وأما البستيون فكان خارج باب البحر قرب كنيسة النّصارى، وكان أشد ضررا على أهل تونس من غيره لأنهم أرادوا أن يبنوا فيه حصارا ومدينة وقد ابتدؤوها، وفصّلوا (515) شوارعها وأسواقها، وكادت أن تسكن لولا لطف الله ومعالجة العساكر العثمانية، والذي تمّ لهم منه قلعة واحدة، فكانت الحرب عليها لما دخلت العساكر العثمانية كما يأتي إن شاء الله تعالى.
ولما اشتدت أذيّة الكفّار للمسلمين وعجزوا عن مدافعتهم جعل الأمير أحمد حيلة فأظهر سفرا لافريقية (516) على جاري عادته وصحب في محلّته ألف فارس، وأردف كل فارس رجلا وسار إلى أن بلغ ماطرا، ورجع منعطفا وقصد الغزو إلى أهل حلق الوادي، ولكن خاف من جواسيس المنافقين من الأعراب الذين تزندقوا، فأخفى أمره ورجع على ناحية المعلّقة، وكمن هنالك وأرسل طائفة يسيرة من الخيل نحو الحصار، فتبعهم النّصارى ففر المسلمون أمامهم راجعين لتونس، فلما تباعدوا عن الحصار خرج الكمين لنحو / الحصار، فهرب من كان باقيا فيه من النّصارى، ودخلوا الحصار، وذهلوا من شدّة الفزع عن غلق الباب، ووصل المسلمون إلى الباب، فلم يقدروا على الدّخول لظنهم أن النّصارى أبقوه مفتوحا مكيدة، فرجع المسلمون فالتقوا بالنّصارى الذين كانوا تابعين للفارّين لتونس، فاقتتل الفريقان، فوقعت هناك مقتلة عظيمة بين الفريقين، وأكثر ما لاقى المسلمون من الأذى إنما كان من الزّنادقة المرتدّين من الأعراب، ثم إن الأمير
(515) أي رسموا.
(516)
هي الشمال التونسي في اصطلاح للتونسيين.
أحمد جعل يكاتب باشاوات العساكر العثمانية بطرابلس والجزائر، وهادنهم وطمع في اعانتهم، فكانوا عليه لا له. فبعث أولا محمد القصبي في أيام الحسن بن خير الدّين، وجاء معه إلى الجزائر لاحسانه إليه، وبعث بعد ذلك أبا الطّيب تاجا الخضار للباشا علي وهو بمدينة طرابلس، وعاد مع الباشا علي إلى الجزائر، وكاتب حاكم قسنطينة، وجعل مع درغوث باشا صحبة أكيدة، ولما نزل درغوث باشا على جربة ليفتكها من أيدي النّصارى أرسل له الأمير أحمد مددا من العساكر والمؤونة (517) وافتكها على يد علي باشا الذي كان على طرابلس، وكان مكث جربة في أيدي النّصارى ستة أشهر.
ثم إن الأمير أحمد خاف من علي باشا أن ينتزع منه تونس فطرقه همّ أشد من همّ النّصارى، وصار حائرا في أمره فدخل عليه أبو الطّيب الخضار فوجده / مطرقا إلى الأرض مطيل الفكرة، فسأله عن ذلك فقال له:«خوفا يفاجئني علي باشا ولا طاقة لي (518) به» ، وكان الخضّار يود دخول العساكر العثمانية لفساد الحفصية من أجل أن أحمد الحفصي بعد أن استقامت أحواله رجع بالفساد وظلم العباد، ومدّ النظر إلى حريم النّاس، على عكس ما كان عليه أبوه من النّظر إلى أطفال المسلمين، فاجتمع عند أحمد أكثر من ثلاثمائة امرأة من بنات النّاس، فامتدت أيّامه حتى بلغ خمسا وعشرين وثلاثة أشهر ونصف.
فخرج أحمد الحفصي من تونس إلى قتال بعض أحياء العرب، فلما بعد عن البلد اتفق الخضّار مع أهل البلد باستدعاء علي باشا من الجزائر لاستنقاذ البلاد من أيدي الحفصيين لفساد نظام ملكهم وغلبة الفساد عليهم، فراسل علي باشا وحرّضه على القدوم واغتنام الفرصة، فخرج من الجزائر في عساكر عظيمة، وانضاف إليه طوائف من الأعراب كمغراوة وسويد وغيرهم نحو سبعة آلاف، وأقبل يجرّ ذيل عسكره لتونس، فلما سمع الأمير أحمد تلقّاهم بما التأم (519) عليه من العساكر ليدافع عن نفسه، وكان الملتقى على باجة، ولم يكن معه سوى الزمازمية (520) مع ما انضاف إليه وهو ألف وستمائة رجل، فلم يغن عنه ذلك شيئا فانهزم عند الملتقى، وأخذت محلته، ووصلت عساكر علي باشا / إلى مجردة، وكان زائدا، فعسر عليهم مجاوزته، فأرسلوا إلى بنزرت فجاءت الأخشاب
(517) في الأصول: «مونة» .
(518)
في الأصول: «له» .
(519)
في الأصول: «التم» .
(520)
في الأصول: «زمازمة» والتصويب مما سبق ومن المؤنس ص: 173.