الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هولاكو وسقوط بغداد وانقراض الدولة العباسية:
فلمّا مات طولي خان قام مقامه ولده هولاكو خان (273)، وكان هولاكو أحد الدّجّالين الموعودين في الأخبار النبويّة، وكان كبار المغولية من المجوس أضلّوه وأعادوه بعد الإسلام إلى الملّة المجوسية فمال إليهم وأراد قلب الملّة الإسلامية إلى المجوسية، - ملّة أجداده والعياذ بالله -، فأراد الخروج على جميع البلاد الإسلامية، وسلّ السّيف على جميعها، فلمّا جلس على سرير الملك، قصد بغداد، وتواترت عليه الرسل من العلقمي ويطمعه في ملك بغداد، ويطالعه بأخبارها، ويعرّفه بصورة أخذها (274) وضعف الخليفة وانحلال العسكر، وصار يحسن للمستعصم توفير الخزانة وعدم الصّرف على العسكر والإذن لهم بالتفرّق والذهاب أين شاؤوا / ويقطع أرزاقهم ويشتّت شملهم، بحيث أذن مرّة لعشرين ألف مقاتل أن يذهبوا أين أرادوا، ووفّر علوفاتهم للخزانة، وأظهر للمستعصم أنه وفّر من علوفاتهم خزائن أموال عظيمة توفّرت في بيت المال، فأعجب المستعصم رأيه وتوفيره وكان يحبّ المال ويجمعه وما علم أنه يجمعه لعدوّه فزحف هولاكو على بلاد الإسلام بعسكر جرّار، لا يعلم عدده إلاّ الله، وكان أقوى سلاطين الإسلام أولاد السلطان علاء الدين خوارزم شاه، وكان أبوهم يملك من العراق إلى بلاد المشرق، وكانت له قوّة وشوكة وعسكر وافر وجند متكاثر، فقاتلهم هولاكو مرارا وهو يكسّرهم إلى أن قتلهم هولاكو وبدّد ومزّق جنودهم (275) وخيولهم قتلا وأسرا، واستباح كثيرا من بلاد الإسلام، وأهلك من فيها بالقتل العام، وصار هولاكو يجول (276) الدّيار والمستعصم ومن معه في غفلة عنه لإخفاء ابن العلقمي عنه سائر الأخبار إلى أن وصل هولاكو إلى بلاد العراق، واستأصل من بها قتلا وأسرا، وتوجّه إلى بغداد، وأرسل إلى الخليفة يطلبه إليه، فاستيقظ الخليفة من نوم الغرور (277) وندم على غفلته حيث لا ينفعه الندم،
(273) قام قبل هولاكو «منكوفان بن طولي» نفس المرجع.
(274)
كتاب العبر 5/ 1149.
(275)
في ت: «وبدّد شملهم، ومزّق جموعهم وجنودهم» .
(276)
كذا في ط وفي ش: «يجوز» .
(277)
بعدها في ت: «وصار حائر العقل مذهولا ما يعرف من أمره ولا يحسن ما يقول، وعلم أن الحيلة تمّت عليه، وذهب الملك من بين يديه، فصار متحيرا في أمره ولا يعرف ما يعمل في هذه المصيبة، فأرسل إلى كبراء دولته ووزرائه وأهل بيته وقال لهم: ما عندكم من الرأي في هذه الواقعة وكيف يكون انفصالها علينا وتزحزحها من =
وجمع من قدر عليه، وبرز إلى قتال هولاكو، فجمع من أهل بغداد وخاصة عبيده وخدّامه ما يقارب أربعين ألفا، لكنّهم مرفهون بلين الأنهار، ساكنون على شطّ بغداد في ظلّ ظليل، وماء معين / وفاكهة وشراب واجتماع أحباب وأصحاب، ما كابدوا حربا ولا دافعوا طعنا ولا ضربا، وعساكر التتار ينيفون على مائتي ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وسالب وباسل وفاتك وقاتل يثبون وثوب القردة، ويتشكّلون بأشكال المردة، يقطعون المسافات الطويلة في ساعات قليلة، ويخوضون الأوحال ويتعلّقون بالجبال، ويصبرون على العطش والجوع، ويهجرون الغمض والهجوع، ولا يبالون بالحرّ والبرد، والسّهل والوعر، والبرّ والبحر، طعامهم كفّ من شعير وشربهم (278) حما البير، يكاد أحدهم يتقوّت بطرف أذن فرسه يقصّها ويأكلها نيّة ويصبر على ذلك أياما عديدة، ويكتفي هو وفرسه بحشيش الأرض مدة مديدة، فوقع المصاف والتحم القتال، وأوقد نار الحرب والنزال، وزحف الجيش للجيش في يوم الخميس عاشر محرّم الحرام سنة نيف (279) وخمسين وستمائة، وثبت أهل بغداد مع ترفهم على حدّ السيوف، وصبروا على حرّ الحتوف، واستمرّوا كذلك من قبل الفجر إلى ادبار النهار، فعجزوا وفرغ الاصطبار فانكسروا شرّ انكسار، وولّوا الأدبار، وغرق كثير منهم في دجلة وقتل أكثرهم أفظع قتلة وأعقبهم التتار بالسّيف والنّار، ونهبوا الخزائن والأموال، فأخذ هولاكو بغداد (280) واحتوى على ذخائرها فاستصفى النّقد، وأمر بإحراق الباقي، ورموا كتب مدارس بغداد في بحر الدجلة، فكانت لكثرتها / جسرا، يمرّون عليها ركبانا ومشاة، وتغيّر لون الماء بمداد الكتابة إلى السواد، وكانت هذه الفتنة من أعظم مصائب الإسلام، وسيق المستعصم هو وأولاده وأمراؤه إلى هولاكو أسارى ذليلين، فقرأ: فسبحان المعزّ المذلّ القادر القاهر تعالى شأنه وعزّ سلطانه، فاستبقى هولاكو الخليفة أيّاما إلى أن استصفى أمواله وخزائنه وذخائره
= بين يدينا فقالوا له: يا أمير المؤمنين وخليفة ربّ العالمين أنت الذي فعلت تلك الأمور وتركت عساكرك ذهبت من بين يديك، وأخربت بيت شرفك حتى ذهبت جلالة الملك عليك ونحن وقت الذي نصحناك وقلنا لك سر في ملكك كما سارت آبائك ولا تسمع قول القائلين، وصن حرمتك وحسّن ملكك ودولتك فأبيت عن هذا الكلام واتّبعت كلام ذلك العلقمي الخائن الولهان، فلمّا سمع منهم ذلك الكلام فاق من نومه».
(278)
ج حمأة: الطين الأسود المنتن. قال الله تعالى مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وفي كتاب المقصود والممدود لأبي علي القالي: «الحما» : الطين المتغير، تاج العروس لمحمد مرتضي الزبيدي، دار مكتبة الحياة بيروت لبنان 1/ 58.
(279)
في كتاب العبر: «ست وخمسون وستمائة» 1258 م.
(280)
في 20 محرّم، وعن أخذ بغداد أنظر كتاب العبر 5/ 1150. =
ودفائنه، ثم رمى رقاب أولاده دونه، وأمر أن يوضع الخليفة في غرارة وترفس إلى أن يموت، ففعل ذلك واستشهد رحمه الله يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من صفر سنة ست وخمسين وستمائة (281)، وكانت القتلى من أهل بغداد ما ينيف على ألفي ألف وثلاثمائة ألف وثلاثين ألفا (282) ممن قدّر الله له الشهادة من المؤمنين منهم ثلاثة عشر ألف فقيه وأقام القتل والنهب ببغداد نحو من ثمانين يوما، ثم أحضر هولاكو الوزير العلقمي وعاتبه وقال: يا خائن خنت أستاذك، لا يرجى منك صلاح، فقتله شرّ قتلة (283).
ثم ان هولاكو أراد قلب الملّة الإسلامية إلى المجوسية، فتدارك الله عباده بلطفه، قال البيضاوي في «تاريخه» إن الله منّ على عباده المؤمنين ببركة سيد المرسلين، فألهم بعض أوليائه بفيض فضله أن يظهر من كرامات الأمة المحمدية عند هولاكو، منهم أبو يعقوب، ومحمد خوجة، ورنبدي (284) - قدّس الله سرّهم - فوصلوا / حضرة هولاكو ودخلوا النّار وشربوا السّموم والنحاس المذاب، فلمّا عاين هولاكو الأمر كذلك رجع عن مذهب الكفر والزّندقة، وخاف من الأولياء وعظّم الملّة الإسلامية وأهلها وهلك من الكفرة المضلّة عند هولاكو من رهابين المجوس جماعة، لما دخلوا النار بأمر هولاكو فاحترقوا، وشربوا السموم فتمزّقوا، وهلك هولاكو بعلّة الصرع، فكان يعتريه في اليوم الواحد مرارا، فمرض ولم يزل ضعيفا نحو شهرين، وكانت وفاته في سابع ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستمائة (285) ببلد مراغة، وكان عمره نحو ستين سنة.
وخلّف من الأولاد سبعة عشر ذكورا، وتولّى الملك بعده ولده أبغا، وقيل أخوه قبلاي (286) فامتدّت أيامه (287) إلى أن توفي سنة خمس وتسعين وستمائة (288)، وكان كرسيّ مملكته مدينة ماليق أم بلاد الخطأ، وكانت مدة ملك قبلاي اثنين وثلاثين سنة.
(281) 20 فيفري 1258 م.
(282)
في كتاب العبر: «ألف ألف وثلاثمائة ألف» 5/ 1150.
(283)
«استبقى هولاكو ابن العلقمي على الوزارة. . . فبقي على ذلك مدة ثم اضطرب وقتله» كتاب العبر 5/ 1150.
(284)
كذا في ش وت، في ط:«زبندي» .
(285)
جانفي 1265. وفي كتاب العبر: «اثنتين وستين» 5/ 1154.
(286)
لم يذكر ابن خلدون هذا الإحتمال، وجعل أبغا خليفة هولاكو، ومات في سنة 681 هـ - 1282 - 1283 م، وخلفه أخوه تكدار، ثم خلف تكدار أرغو بن أبغا الخ. . . أنظر كتاب العبر 5/ 1155 وما بعدها.
(287)
أي قبلاي كما نفهم من سياق الحديث، وهو عكس ما أثبته ابن خلدون كما أشرنا في الهامش السابق.
(288)
1295 م.