الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وامتلأت الأرض من هيبته، وكان ذا فكرة صائبة، وكانت أيامه من غرر الزمان) (242)، وكانت وفاته سلخ شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة (243).
وولّي بعده ولده محمد بن الناصر ولقّب الظاهر [بأمر] الله، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بعهد منه إليه، فأظهر العدل والإحسان، وأبطل المكوس، وكان العمّال يكيلون بكيل زائد للديوان على ما يكيلون به للناس، فأبطل الظاهر ذلك، وكتب إلى وزيره {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (244){الَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى النّاسِ يَسْتَوْفُونَ} (245) إلى {يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} (246) فقال الوزير إن تفاوت الكيل يتوفر عليه ثلاثون ألف دينار، فأعاد الجواب إليه أنه يبطل ولو بلغ ثلاثمائة ألف دينار، وفرّق ليلة عيد النحر على الفقراء مائة ألف دينار، فلامه الوزير على ذلك، وقال: اتركني أفعل الخير فإني لا أدري كم أعيش فلم يلبث أن توفاه الله في رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة (247).
المستنصر بالله:
وولّي بعده ولده أبو جعفر المنصور بن الظّاهر، ولقّب «المستنصر بالله» (248) بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، فنشر العدل وقرّب أهل العلم، وبنى المساجد والربط والمارستانات والمدارس، وهو الذي بنى المدرسة المستنصرية (249) ببغداد التي لم يبن مثلها
(242) ما بين القوسين ينطبق على صلاح الدين أكثر مما ينطبق على الخليفة الناصر لدين الله، فبالنسبة لأبي الفداء وابن الأثير هو ظالم خرّب في أيامه العراق، وتفرّق أهله في البلاد، وكان منصرف الهمّة إلى رمي البندق ويلبس سراويلات الفتوّة، وأعظم سيئاته أنه كاتب التتار وأطمعهم في البلاد، ورأى فيها ابن الأثير «الطامة الكبرى التي يصغر عندها كلّ ذنب عظيم» . أنظر على سبيل المثال الكامل 12/ 440.
(243)
5 أكتوبر 1225 م.
(244)
سورة المطففين: 1.
(245)
سورة المطففين: 2 «ساقطة من ط وش» .
(246)
سورة المطففين: 6.
(247)
في الأصول: «ثلاث وثلاثين» والمثبت من الكامل 12/ 456 وغيره، 14 رجب / 11 جويلية 1226 م.
(248)
في الأصول: «المنتصر» والمثبت من الكامل 12/ 458 وغيره.
(249)
في الأصول: «المنتصرية» والمثبت من المختصر لأبي الفداء 3/ 171.
في مدائن الإسلام، ولم يوجد في المدارس أكثر كتبا منها ولا أكثر أوقافا عليها، وكان لهذه المدرسة / أربعة مدرّسين يدرّسون فيها المذاهب الأربعة، ورتّب فيها الخبز واللّحم والفاكهة وكسوة الشتاء والصيف، وأوقف على ذلك ضياعا وقرى كثيرة، وجعل عليها ثلاثين قيّما وكانت مدارس بغداد يضرب بها الأمثال في ارتفاع العماد وسعة الطّعام والشّراب، وقد حكي أن أول مدرسة بنيت في الدنيا مدرسة نظام الملك في بغداد، فبلغ علماء ماوراء النهر هذا الخبر، فاتّخذ العلماء مأتما وحزنوا على سقوط حرمة العلم، فسئلوا عن ذلك فقالوا: إن العلم ملكة شريفة وحلية لطيفة، لا تطلبه إلاّ النّفوس الفاضلة الشّريفة لمادة الشّرف الذّاتي والمناسبة الطبيعية، ولما جعل عليه أجرة، طلبته النفوس الرّذيلة وجعلته مكسبا لحطام الدّنيا، وتزاحمت عليه لا لتحصيل شرف العلم، بل لتحصيل المناصب الدّنيوية الفانية، فرذل العلم برذالتهم، ولم يشرفوا بشرفه، أنظر إلى علم الطبّ فإنه مع كونه علما شريفا، طلبه أرذال اليهود فرذل برذالتهم، ولم يشرف أرذال اليهود بشرف علم الطبّ، وهذا حال أكثر طلبة العلم في هذه الأعصار الفاسدة، وهذا شأن طلاّب هذه العلوم المتداخلة في هذا السّوق الكاسد الخاسر تجارّه، فإنك ترى أكثرهم مع دأبه في الطّلب وانكبابه على فنون العلم والأدب يزداد كلّ وقت / عجبا وكبرا، ويتعاظم على كلّ أحد بهاء وفخرا، ولم ينتقل عن الأخلاق الرذيلة ولو اكتسب من العلم ما اكتسب من الفضيلة، وقلّما يتحلّى أحد منهم بحلي الأخلاق الحسنة الجميلة والمزايا الجليلة، وما ثمرة كسب العلوم غير التّخلق بحسن الأخلاق، والعمل بطيب الأصول والأعراق.
وهذا المستنصر (*) هو الذي دعا له (250) بالأندلس الأمير أبو عبد الله محمد بن هود (251) ووصلت إليه من قبله الخلعة والرّاية وغير ذلك من طرائف العراق، وكانت وفاته يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة سنة أربعين وستمائة (252).
(*) في الأصول: «المنتصر» والمثبت من الكامل 12/ 458 وغيره.
(250)
ثار ابن هود على الموحدين بالأندلس وزحف إلى مرسية فدخلها واعتقل السيد (أبا العباس والي مرسية) وخطب للمستنصر صاحب بغداد. أنظر تاريخ العبر لابن خلدون، دار الكتاب اللبناني 1968، 4/ 362.
(251)
أنظر نسبه في نفس المرجع ص: 361.
(252)
وقيل في 11 منه، 7 نوفمبر 1242 م.