الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قابس ودفعوه إلى العرب فعذبوه عذابا شديدا وقطعوا مذاكره لأنهم نسبوه للتعرض لحرم مولاه، وكان ليوسف أخ اسمه عيسى ففرّ إلى صقلية مستنصرا بطاغيتها، وزعم أن أخاه إنما فعل ما فعل لأنه منتسب إلى طاعته، فأخرج لجار أسطوله لحصار قابس فحاصرها مدة ثم رجع» (16)، فهذا ما كان من أحد الأسباب الموجبة لوحشة لجار الخبيث مع علي بن يحيى.
ثم إنه «وصل (17) باثر ذلك رسول لجار إلى علي يقتضي أموالا كثيرة كانت تثقفت له بالمهديّة، وكان علي عند تلك الوحشة أمسك وكلاءه فسرّحهم له علي ووجههم إليه بأمواله، فلما وصلت إليه وجّه رسولا ثانيا بمكاتبة فيها إغلاظ وتهديد وتقصير على العادة وإساءة أدب، فأغضب ذلك عليّا وصرف رسوله دون جواب، وبلغ عليّا أن النّصراني يتهدده ويتوعده فأمر باستجداد الأساطيل والاستعداد لقتاله، / فأنشأ أسطولا قويت الأنفس به، ولم تزل الفتنة متأكدة بينهما إلى أن مات علي وولي بعده ابنه الحسن، فكاتب أمير الملثمين بالمغرب علي بن يوسف بن تاشفين، واتّفق باثر ذلك أن وصل أسطول علي بن يوسف مع قائده علي بن ميمون إلى بلاد لجار، فاستفتح منها حصونا وسبى منها سبايا كثيرة، فلم يشك النّصراني أن الباعث لعلي بن يوسف على ذلك انما هو الحسن، فاستجاش من كان قبله وحشد أجناده ومقاتليه، وبالغ في كتم أمره بمنع السفر إلى سواحل المسلمين، ولم يخف عن الحسن مقصده وخشي أن يطرق بلاده دون تأهّب له فأمرهم باتّخاذ الأسلحة وتشييد الأسوار واستقدام القبائل من العرب وغيرهم للجهاد، فوصلت الحشود إليه من كل جهة ونزلت الأعراب بظاهر المهديّة.
احتلال النرمان للمهديّة:
فلمّا كان يوم السبت لخمس بقين من جمادى الأولى سنة سبع عشرة وخمسمائة (18) وصل أسطول لجار إلى المهديّة فأرسى بالجزيرة المعروفة هناك «بجزيرة
(16) عن أمراء بني جامع وأمراء المهدية من سلالة المعز بن باديس ورجار ملك صقلية أنظر رحلة التجاني ص: 97 - 98 عند الكلام عن قابس، ومنه نقل المؤلف نصه بتصرف.
(17)
عاد إلى النقل مما ذكره التجاني عن المهدية ص: 334.
(18)
21 جويلية 1123 م.
الأحاسي» (19) وهي على عشرة أميال من المهديّة، ونزل قائده عبد الرحمان وجرجير إلى الجزيرة، وضربت لهما ولمقدمي الافرنج مضارب هنالك، وكان وصولهم آخر النهار فخرج منهم إلى البر تلك الليلة خلق كثير وانبسطوا حتى بعدوا عن البحر أميالا ثم عادوا إلى الجزيرة، ووصل القائدان في اليوم الثاني في البحر في بعض / قطعهم إلى المهديّة فأطافا بها وانتهيا إلى ساحل زويلة فهالهما (20) ما رأيا بالأسوار والسّواحل من النّاس وانصرفا عائدين إلى الجزيرة، فوجدا طائفة من العرب ومن الأجناد قد دخلوا إليها وكشفوا من كان بها من الرّوم عن مواضعهم، وقتلوا منهم قوما وانتهبوا أسلحتهم.
فلمّا كان اليوم الثالث تمكّن النّصارى من القصر المعروف بقصر الدّيماس، وحصل به زهاء (21) مائة منهم باعانة بعض الأعراب لهم على ذلك لما مناهم به عبد الرّحمان وصاحبه، وقد كان لجار أمرهما (22) بالنزول بجزيرة الأحاسي والتّحيّل في أخذ قصر الدّيماس بمباطنة العرب ثم الزّحف من هناك في البر بالرّجال والخيل إلى المهديّة.
فلمّا كان اليوم الرّابع اجتمع المسلمون وخرجوا من المهديّة وكبّروا تكبيرة واحدة راعت من في الجزيرة، فظنّوا أنهم داخلون إليهم فانهزموا إلى مراكبهم وقتلوا بأيديهم كثيرا من خيلهم، ودخل المسلمون الجزيرة وليس بها أحد منهم فوجدوا فيها خيلا وآلات وأسلحة أعجلهم الهرب عن حملها، وأحاطوا بقصر الدّيماس يقاتلونه والأسطول في البحر يعاين ذلك ولا يستطيع اغاثة من في القصر لكثرة ما اجتمع في البر من عساكر المسلمين، فلمّا علموا أنهم غير قادرين على انقاذ (23) من في القصر أقلعوا عائدين إلى صقليّة، وأقام المسلمون يقاتلون من حصل بقصر الدّيماس منهم إلى أن اشتدّ عليهم الحصار وفني ماؤهم وطعامهم فخرجوا منه ليلة الأربعاء لرابع عشر من جمادى الآخرة، فتخطفتهم سيوف الأعراب / فقتلوا عن آخرهم.
(19) هي جزيرة كائنة في عرض رأس الديماس على نحو 10 أميال شمال المهدية، والاحاسي ج حسي أو حسا بمعنى بئر في أرض رمليه، أرض صلبة مغطاة بالتراب حيث تتسرب إليها المياه وحيث يوجد الماء فيها بسهولة وفي عمق قليل. أنظر: بلاد البربر الشرقية في عهد الزيريين لهادي روجي ادريس، باريس 1962، 1/ 335.
La Berberie orientale sous les Zirides .
(20)
في ش: «أهالهما» .
(21)
في ش: «زهى» .
(22)
في ش: «أمرهم» .
(23)
في الرحلة «استنقاذ» .
وهنئ الحسن بهذا الفتح، ولم يدر ما تحت طيه من المحنة التي خصته وعمّت المسلمين لسببه.
ولما أقلع الأسطول إلى صقلية خائبا خاسرا أغاظ لجار ذلك، ثم اتفق باثره أن وصل أسطول الملثم من المغرب وقائده محمد بن ميمون، فعاث في بلاد لجار وقتل وحمل نساءها سبيا إلى بلاده، وكان لجار كلّما وصله أسطول من المغرب إلى بلاده نسبه إلى الحسن فعزم العزم المصمّم على غزو المهديّة وأنشأ في ظاهر الأمر بينه وبين الحسن صلحا وفي نفسه ما فيها لتتم خديعته ويتمكّن من مراده، وكان بين الحسن وبين ابن عمّه يحيى ابن العزيز بن باديس بن المنصور بن النّاصر بن علناس (24) بن حماد صاحب بجاية من المخالفة ما أوجب أن بعث يحيى في هذه المدّة لمحاصرته (25) بالمهديّة أسطولا في البحر وجيشا في البر، قائده مطرّف بن علي بن حمدون الفقيه، فحصر المهديّة بحرا وبرا ونزل مطرّف بن علي بجيشه بظاهر زويلة فاستمدّ الحسن لجار فأمدّه بأسطول، فعلم مطرّف بذلك فارتحل عن المهديّة مسرعا، وكانت للجار جواسيس بالمهديّة فكتبوا إليه يعلمونه أن بمرساها مراكب قد استوفت وسقها، فأمر جرجير قائد الأسطول المتوجه للنصرة بالهجوم عليها وأخذها ففعل ذلك غدرا وحملها إلى صقلية، ثم هجم بعد ذلك على مرسى المهديّة فأخذ منها مركبا كان الحسن قد احتفل به وشحنه بذخائر ملوكية ليوجه بها إلى الحافظ / العبيدي صاحب مصر وكان ذلك المركب يسمّى «نصف الدنيا» .
ولم يزل يرسل الغزو عليها بأساطيله والمقدم عليها جرجير المذكور وهو العارف بالمهديّة حاضرة وبادية ويضعفه بذلك إلى أن دخلت سنة ثلاث وأربعين.
وقال ابن الأثير (26) ففي سنة احدى وأربعين وخمسمائة (27) سار أهل قابس إلى لجار مستعينين (28) به على ردّ محمد بن رشيد (29) وكان بين لجار وبين الحسن بن علي صاحب
(24) في الأصول: «علقاس» والمثبت من رحلة التجاني ص: 339.
(25)
في الأصول: «لمحاصرة المهدية» والمثبت من رحلة التجاني ص: 340.
(26)
باختصار كبير من الكامل لابن الأثير 11/ 118 - 129 في حوادث سنة 541 و 542 وحوادث سنة 543.
(27)
1146 - 1147 م.
(28)
في ش: «مستعين» .
(29)
معمر (الكامل) وفي ص: 120 محمد ولعل معمر تحريف، وفي تاريخ ابن خلدون 6/ 342 «محمد» وفي المؤنس:«معمر» ومحمد ومعمر أخوان من أبناء رشيد بن كامل صاحب قابس، وهم من بني جامع، ولم يأت في ابن الأثير ولا في كتاب العبر أن أهل قابس استعانوا برجار على رد محمد بن رشيد الذي خرج من قابس بعد أن استبد مولى أبيه يوسف بها، بل ان أهل قابس ثاروا على يوسف واستجاشوا عليه بالحسن صاحب المهدية وولوا معمر بن رشيد فاستجار واستغاث برجار عليهم أنظر الكامل 11/ 120.
المهديّة صلح وعهود إلى مدّة سنتين فلمّا كانت سنة اثنتين وأربعين (30) زاد ما نزل بالنّاس من شدّة الغلاء الذي ابتدأ جميع بلاد المغرب من سنة سبع وثلاثين، ففارق النّاس البلاد والقرى ودخل أكثرهم إلى جزيرة صقليّة، وأكل النّاس بعضهم بعضا (31)، وكثر الموت في النّاس، وكان لجار يتمنى الاستيلاء والتّغلب على بلاد افريقية (فاغتنم الفرصة وقدر أنه لم يبادر في هذه الشدّة لم يتأت له مطلوب)(32)«زاد غيره فأضعف الغلاء أكثر جند الحسن، وأهلك خيلهم ومع ذلك فكانت بقية العسكر في محاربة ابن خراسان صاحب تونس عضدا لمحرز بن زياد صاحب المعلّقة» (33)، فلمّا كانت سنة ثلاث وأربعين (34) «عمّر (35) أسطولا كبيرا وأكثر من المراكب فبلغ نحوا من مائتين وخمسين شينيا (36) وقيل ثلاثمائة مركب مملوءة رجالا وسلاحا وقوتا (37) وسار الأسطول عن صقليّة فوصل إلى جزيرة قوصرة، فصادفوا بها مركبا وصل من المهديّة فأخذ / أهله وأحضروا بين يدي جرجير (38) فسألهم عن حال افريقية ووجد في المركب قفص حمام فسألهم هل أرسلوا منها شيئا فحلفوا أنهم ما أرسلوا شيئا، فأمر الرّجل الذي كان الحمام صحبته أن يكتب بخطه أنه لما وصلنا إلى جزيرة قوصرة وجدنا بها مراكب من صقليّة فسألناهم عن الأسطول المخذول، فذكروا أنه أقلع إلى جزائر القسطنطينيّة.
وأطلق (39) الحمام فوصل إلى المهديّة، فانخدع الأمير حسن والنّاس، وفرحوا بذلك وأراد جرجير بذلك أن يصل بغتة، ثم سار - وقدر وصولهم إلى المهديّة وقت
(30) 1147 - 1148 م.
(31)
تعبير مجازي أقرب للعامية منه للفصحى وقريب من المثل الشعبي: «حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت» وما بالنص يعبر عن اشتداد الأزمة.
(32)
في الكامل: «فاغتنم رجار هذه الشدة» 11/ 125.
(33)
رحلة التجاني 341.
(34)
1148 - 1149 م.
(35)
رجع إلى النقل من الكامل 11/ 125.
(36)
وشيني بالفرنسية (Galere) وبالايطالية (Galera) أقدم أنواع السّفن وردت في التاج للزبيدي «الشونة» المركب المعد للجهاد في البحر وجاء في المستدرك «الشين» المركب الطويل. وفي العصور الوسطى كانت أهم القطع التي يتركب منها الأسطول الاسلامي انظر سعاد ماهر، «البحرية في مصر الاسلامية» ، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، ص:352.
(37)
في الأصول: «وقوة» .
(38)
في الكامل 11/ 125 وفي كتاب العبر 6/ 344 «جرجي مقدم الأسطول» .
(39)
في ش: «وأطلقوا» .
السحر - ليحيط بها قبل أن يخرج أهلها، فلو تمّ له ذلك لم يفلت من النّاس أحد فقدّر الله عليهم بارسال ريح هائلة عاكستهم (40)، فلم يقدروا على المسير الاّ بالمقاذيف، فطلع النّهار ثاني صفر من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة (41) قبل وصولهم، فرآهم النّاس، فلما رآهم جرجير (42)، وعلم أن الخديعة فاتته، أرسل إلى الأمير حسن يقول:
إنما جئت بهذا (43) الأسطول طالبا ثأر محمد بن رشيد صاحب قابس وردّه إليها، وأما أنت فبيننا وبينك عهد وميثاق إلى مدة، ونريد منك عسكرا يكون معنا.
فجمع (44) الحسن النّاس من الفقهاء والأعيان وشاورهم، فقالوا: نقاتل عدونا فان بلدنا حصين، فقال: أخاف أن ينزل إلى البر ويحصرنا برا وبحرا، ويحول بيننا وبين الميرة، وليس عندنا ما يقوتنا شهرا، فنؤخذ قهرا، وأنا أرى سلامة المسلمين من القتل والأسر خيرا / من الملك، وقد طلب مني عسكرا لقابس، فان فعلت فما يحلّ لي معونة الكفّار على المسلمين، وإن امتنعت يقول: انتقض ما بيننا من الصّلح، وليس يريد الاّ أن يثبطنا حتى يحول بيننا وبين البر، وليس لنا بقتاله طاقة، والرأي أن نخرج بالأهل والولد ونترك البلد، فمن أراد أن يفعل كفعلنا فليبادر معنا، وأمر في الحال بالرّحيل وأخذ معه من حضره [وما] خف حمله، وخرج النّاس على وجوههم بأهاليهم وأولادهم وما خف من أموالهم وأثاثهم، ومن النّاس من اختفى عند النّصارى وفي الكنائس، وبقي الأسطول في البحر تمنعه الرّيح من الوصول إلى المهديّة إلى ثلثي النّهار، ولم يبق في البلد ممن عزم على الخروج أحد، فوصل الافرنج ودخلوا البلد من غير مانع ولا مدافع، ودخل جرجير (42) القصر فوجده على حاله لم يأخذ الحسن منه الاّ ما خفّ حمله من ذخائر الملوك وفيه جماعة من حظاياه، ورأى الخزائن مملوءة من الذخائر النفيسة وكل شيء غريب قلّ وجود مثله، فختم عليه، وجمع سراري الحسن في قصره (45) فكان ولاية صنهاجة من زيري إلى الحسن (مائة سنة وثمانين سنة من سنة احدى
(40) في ش: «ريح هائل عاسفهم» وفي ط: «عاصفهم» والمثبت من الكامل 11/ 126.
(41)
22 جوان 1148 م.
(42)
في الكامل «جرجي» وفي رحلة التجاني جرجير كما أشرنا.
(43)
في ش «بهذه» .
(44)
في ش «أجمع» وفي ط «اجتمع» والمثبت من الكامل.
(45)
في الأصول «القصر» .