الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقالة الثّامنة
في ذكر دولة الموحّدين وأمرائهم بالعدوة والأندلس وافريقية
وفيها ثلاثة أبواب
الباب الأول
في أول ملوكها ومن بعده من الملوك
المهدي بن تومرت:
أقول: إن أول من قام بهذه الدّولة وثبّت هذه الدعوة محمد بن عبد الله بن عبد الرحمان بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن سفيان (1) بن صفوان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحسن [بن الحسن](2) بن علي بن أبي طالب (3)، «وقيل إنه محمد بن عبد الله بن تومرت» (4) وبقية النسبان
(1) في الأصول وفي إحدى نسخ تاريخ الدولتين للزركشي محمد بن إبراهيم، نشر المكتبة العتيقة، تونس 1966، ط 2، تحقيق محمد ماضور:«شعبان» والمثبت من هذا المحقق اعتمادا على سياقة ابن خلدون. ص: 3 هامش 1، وفي الوفيات:«عدنان بن صفوان بن سفيان» 5/ 46.
(2)
اضافة من تاريخ الدولتين للزركشي، وهي ساقطة في بعض نسخ هذا الكتاب، نفس المرجع.
(3)
هذا النسب ينطبق مع النسب الوارد في تاريخ الدولتين وأورده ابن خلدون وعزاه لابن نخيل وأشار إلى الاضطراب فيه بنقل سلاسل أخرى بأسماء بربرية عن ابن رشيق وابن القطان وغيرهما من مؤرخي العرب كما نقل الخلاف في نفس النسب الطالبي وجعله من زعم المؤرخين على افتراض التحامه في هرغة من قبائل المصامدة المنحدر منها المهدي تاريخ الدولتين هامش 1 من صفحة 3، انظر ابن خلدون كتاب العبر 6/ 465 ويختلف ابن خلكان مع الزركشي وابن خلدون بعد الجد رباح، يقول ابن خلكان في الوفيات:«بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد ابن الحسن بن علي بن أبي طالب» 5/ 46.
(4)
الوفيات 5/ 45.
الحسن، وهو المنعوت بالمهدي، مولده سنة ست وثمانين وأربعمائة (5)، وقيامه بالدّعوة سنة خمس عشرة وخمسمائة (6)، وساح بالمشرق مدّة ولقي أبا حامد الغزالي وأخذ عنه، وذكروا أن أبا حامد كان يتفرّس فيه، ومولده «عند ابن خلكان سنة أربع وثمانين (7)، وعند الغرناطي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، / وقرأ بقرطبة على القاضي ابن حمدون، ثم ارتحل إلى المهديّة فأخذ عن الامام المازري، ثم انتقل إلى الاسكندرية وهو ابن ثماني عشرة سنة فأخذ عن الامام أبي بكر الطرطوشي، ثم انتقل إلى بغداد فأخذ عن الامام الغزالي، ولمّا وصل كتاب الأحياء إلى المغرب أشار من أشار على الملك المتولي على لمتونة بتمزيقه فبلغ ذلك الغزالي فقال: اللهم مزّق ملكهم، فقال له [المهدي] على يدي يا سيدي؟ فقال له على يدك (8) فأكّدت هذه الدّعوة ما في علم المهدي من ذلك، فتوجه المهدي إلى المغرب بعد أن قام (9) بالمشرق خمسة أعوام» (10).
وقال ابن خلكان (11): «وهو من جبال السّوس من أقصى بلاد المغرب، ونشأ هنالك، ثم رحل إلى المشرق طالبا للعلم، فانتهى إلى العراق، واجتمع بأبي حامد الغزالي، والكيا الهرّاسي (12)، والطّرطوشي وغيرهم، وحجّ وأقام بمكّة مدّة (13) وحصل طرفا صالحا من علم الشّريعة والحديث النبوي وأصول الفقه والدّين.
وكان ورعا ناسكا متقشفا كثير الإطراق بسّاما في وجوه النّاس، مقبلا على العبادة، لا يصحبه من متاع الدّنيا إلاّ عصا وركوة، وكان شجاعا فصيحا (14) لا يتتعتع
(5) 1093 م على رواية ابن الخطيب الأندلسي، وعند ابن خلكان سنة خمس وثمانين، وعند الغرناطي سنة احدى وسبعين، وعند ابن سعيد في البيان المغرب:«سنة احدى وتسعين» وناقشها محمد ماضور ورأى في التسعين تصحيفا عن السبعين لتقارب الحروف، انظر تاريخ الدولتين ص: 4 هامش 1 بها.
(6)
1121 م الزركشي، تاريخ الدولتين ص: 6 وفي الوفيات «سنة أربع عشرة وخمسمائة» 5/ 53.
(7)
هكذا نقلها عن الزركشي، وفي الوفيات «سنة خمس وثمانين وأربعمائة» 5/ 53. والنص الذي يلي ناقله عن الزركشي أيضا.
(8)
في الأصول: «يديك» والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 4.
(9)
كذا في ش وتاريخ الدولتين، وفي ط:«أقام» .
(10)
انتهى النقل من الزركشي ص: 4.
(11)
5/ 46.
(12)
في ش: «الهراشي» وفي ط: «الهواشي» والمثبت من الوفيات، 5/ 46.
(13)
في الوفيات: «مديدة» .
(14)
«في لسان العربي والمغربي» الوفيات 5/ 53.
في الشّرع (15) ولا يقنع في أمر الله بغير اظهاره. وكان مطبوعا على الالتذاذ بذلك محتملا للأذى من الناس بسببه، وناله بمكّة شيء من المكروه بسبب ذلك، فخرج منها إلى مصر وبالغ في الانكار، فزيد (16) في أذاه، وطردته الدّولة، وكان إذا خاف من البطش وايقاع الفعل [به] خلط في كلامه فينسب إلى الجنون / فخرج من مصر إلى الاسكندرية، وركب البحر متوجّها إلى بلاده، وكان قد رأى في منامه وهو في بلاد المشرق كأنه شرب البحر جميعه كرّتين، فلمّا ركب في السّفينة شرع في تغيير المنكر على أهل السّفينة، وألزمهم باقامة الصّلاة وقراءة أحزاب من القرآن، ولم يزل كذلك حتى انتهى إلى المهدية (17)، فنزل بمسجد معلّق على الطريق (18) فجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارّة فلا يرى منكرا من آلة الملاهي أو أواني الخمور إلاّ نزل عليها وكسّرها، فتسامع النّاس به في البلد، فجاءوا إليه، وقرأوا عليه كتبا من أصول الدّين، وبلغ خبره الأمير يحيى (بن تميم بن المعز بن باديس)(19) فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء، فلمّا رأى سيمته وسمع كلامه أكرمه وأجله وسأله الدعاء، فقال له: أصلحك الله لرعيتك، ولم يقم بعد ذلك بالمهدية إلاّ أياما يسيرة، وقيل كان دخوله المهدية في مدة علي بن يحيى بن تميم بن المعز، ثم انتقل إلى بجاية فأقام بها مدة وهو على حاله بالانكار، فأخرج منها إلى بعض قراها واسمها ملاّلة، فوجد بها عبد المؤمن (20).
وفي «كتاب المعرب (21) عن سيرة [ملوك] المغرب» أن محمد بن تومرت كان قد اطّلع على كتاب علوم يسمّى «الجفر» (المأثور عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه -)(22) وأنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى ببلاد السوس (وهي بلاد المترجم)(23) من ذريّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، / يدعو إلى الله تعالى، يكون مقامه ومدفنه بموضع من المغرب يسمّى باسم هجاء حروفه (ت ي ن م ل) (وذلك لأن هذا الموضع بين
(15) في الوفيات: «شديد الانكار على الناس فيما يخالف الشرع» .
(16)
في الوفيات: «فزادوا» .
(17)
الوفيات 5/ 46.
(18)
الوفيات 5/ 47.
(19)
زيادة من المؤلف عما هو موجود بالوفيات.
(20)
عبد المؤمن بن علي القيسي، الوفيات 5/ 47.
(21)
قال احسان عباس: «يتردد اسم هذا الكتاب في النسخ بين المعرب والمغرب» ، الوفيات 5/ 47 هامش 8.
(22)
زيادة عما هو موجود بالوفيات.
(23)
توضيح من المؤلف وفي ط: «مترجم» وفي ش: «المتمزح» .
قريتين اسم احداهما مل، واسم الثانية تين - الذي هو اسم الفاكهة) (24) ورأى فيه أيضا أن استقامة ذلك الأمر وتمكّنه يكون على يد رجل من أصحابه هجاء اسمه (ع ب د م وم ن) ويجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله في نفسه أنه القائم بأوّل الأمر، وأن أوانه قد أزف، فكان محمد لا يمرّ بموضع إلاّ سأل عنه، ولا رأى أحدا إلاّ أخذ اسمه وتفقّد حليته، وكانت حلية عبد المؤمن معه، فبينما هو في الطريق رأى شابّا قد بلغ أشدّه على الصّفة التي معه، فقال له محمد بن تومرت: ما اسمك؟ فقال:
عبد المؤمن، فرجع إليه بعد ما كان جاوزه وقال: الله أكبر، أنت بغيتي، فنظر في حليته فوافقت ما عنده، فقال له: من أين أنت؟ قال: من كومية، فقال: أين قصدك؟ قال: المشرق، فقال له: ما تبغي؟ قال: أطلب علما (25)، قال: وجدت علما وشرفا وذكرا، اصحبني تنله فوافقه على ذلك، فألقى إليه ابن تومرت أمره وأودعه سرّه» (26).
قال ابن الخطيب (27) الأندلسي: وقالوا كان يزعم أنه مأمور بنوع من الوحي الالهامي، وينكر كتب الرأي والتقليد، وله باع في علم الكلام، وجرت عليه نزعة خارجية وكان ينتحل القضايا الاستقبالية، ويشير إلى الكوائن الآتية، ورتّب قومه ترتيبا غريبا فمنهم أهل الدّار، وأهل الجماعة، وأهل خمسين، وأهل سبعين، والطّلبة، والحفّاظ، وأهل / السّاقة، وأهل القبائل.
فأهل الدّار للامتهان والخدمة، وأهل الجماعة للتفاوض والمشورة والمباهاة، وأهل خمسين وسبعين والطّلبة (28) لحمل العلم والتلقي، وسائر القبائل لمدافعة العدو، وكان يعلّمهم أوجه العادات (29)، وكان يأمرهم باتخاذ مرابط الخيل التي ينالون من فئ عدوّهم (30)، وأنه يعطي الرجل على قدر ما أعد من مرابطه (31) فكان ذلك (32)، ووافقت أيامه أيام المسترشد بن المستظهر بن القائم بن العادل» اهـ.
(24) زيادة من المؤلف عما هو موجود بالوفيات للتوضيح.
(25)
في الوفيات: «علما وشرفا» .
(26)
ابن خلكان، وفيات الأعيان: 5/ 48.
(27)
من الطبيعي أن النقل عن ابن الخطيب الأندلسي لا يكون في ابن خلكان ذكر ذلك لسان الدّين بن الخطيب في «رقم الحلل» . أنظر الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى لأحمد بن خالد الناصري السّلاوي (1315/ 1896)، 2/ 86 الدار البيضاء 1964.
(28)
«والحفّاظ والطلبة» .
(29)
أوجه العبادات والعادات.
(30)
«من عدوهم» بعدها.
(31)
المرابط.
(32)
المصدر السالف 2/ 81.
وكان حين خرج من ملالة ومعه عبد المؤمن لحق بونشريس (33) - بفتح الواو وسكون النون وفتح الشين المعجمة وكسر الراء وسكون المثناة التحتية ثم سين (34) معجمة - بليدة من أعمال بجاية، فصحبه من برابرها جملة هم أجلة أصحابه، ثم لحق بتلمسان وقد تسامع النّاس بخبره فرحل إلى فاس، ثم إلى مكناسة، ونهى فيها عن المنكر، فأوجعه الأشرار ضربا.
ابن خلكان: (35) «كان ابن تومرت قد صحبه رجل يسمّى عبد الله الونشريسي (36) ففاوضه فيما عزم عليه من القيام، فوافقه على ذلك أتمّ موافقة، وكان الونشريسي (36) ممّن تهذّب وقرأ على الفقهاء، وكان جميلا فصيحا في لغة العرب وأهل المغرب، فتحدثا يوما في كيفية الوصول إلى الأمر المطلوب، فقال ابن تومرت لعبد الله:
أرى أن تستر ما أنت عليه من العلم والفصاحة عن النّاس وتظهر العيّ (37) واللّكن والحصر والتّعريّ عن الفصاحة (38) ما تشتهر به عند الناس، ليظهر ما أنت عليه دفعة واحدة / وقت الحاجة إليه، فيكون كالمعجزة والكرامة فتصدّق بما تقوله، ففعل ذلك عبد الله.
ثم ان محمد استدنى أشخاصا من أهل المغرب أجلادا في القوى الجسمانية أغمارا، وكان إلى الأغمار أميل من أولي الفطن والاستبصار، فاجتمع له منهم ستة سوى عبد الله الونشريسي (39) فتوجّهوا إلى مرّاكش وملكها يومئذ أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين، - المقدم الذكر - ملك الملثّمين، وكان علي ملكا عظيما حليما ورعا عادلا متواضعا وكان بحضرته رجل يقال له مالك بن وهيب (40) الأندلسي، قاضي مرّاكش، فشرع ابن تومرت في الإنكار على عادته، حتى أنكر على الملك وعلى أهل بيته (41).
فبلغ ذلك الملك وأنه تحدث في تغيير الدّولة، فقال مالك بن وهيب للملك: نخاف من فتح باب يعسر علينا سدّه، والرأي أن تحضر هذا الشخص وأصحابه لتسمع كلامهم
(33) في الأصول: «ونشريش» والمثبت من الوفيات 5/ 48 وتاريخ الدولتين ص: 5.
(34)
في الأصول: «شين» .
(35)
الوفيات 5/ 48.
(36)
في الأصول: «الونشريشي» .
(37)
كذا في ط وفي ش: «الغي» ، وفي الوفيات:«العجز» .
(38)
في الوفيات: «الفضائل» .
(39)
في الأصول: «عبد المؤمن» والمثبت من الوفيات التي ينقل عنها المؤلف.
(40)
في الأصول: «وهب» .
(41)
في الوفيات: «حتى أنكر على ابنة الملك» .
بحضور جماعة من العلماء، فأجاب الملك إلى ذلك، وكان ابن تومرت وأصحابه مقيمين بمسجد خراب خارج البلد، فطلبهم، فلمّا ضمّهم المجلس قال الملك لعلماء بلده اسألوا هذا الرجل ما يبغي منّا، فانتدب إليه قاضي المريّة محمد بن أسود فقال: ما هذا الذي يذكر عنك من الأقوال في حق الملك العادل الحليم المنقاد إلى الحق المؤثر طاعة الله على هواه؟ فقال له ابن تومرت: ما نقل عنّي فقد قلته ولي من ورائه أقوال، وأما قولك انه يؤثر طاعة الله / على هواه وينقاد إلى الحق فقد حضر اعتبار صحة هذا القول [عنه] ليعلم بتعريّه عن (42) هذه الصّفة أنه مغرور بما تقولون له، مع علمكم (43) أن الحجة عليكم (44) فهل بلغك يا قاضي أن الخمر يباع جهارا، وتمشي الخنازير بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى؟ وعدّد من ذلك شيئا كثيرا.
فلمّا سمع الملك ذلك ذرفت عيناه وأطرق حياء، ففهم الحاضرون من فحوى كلامه أنه طامع في المملكة، ولمّا رأوا سكوت الملك وانخداعه لكلامه لم يتكلّم أحد منهم، فقال مالك بن وهيب، وكان كثير الاجتراء على الملك مخاطبا له فيما بينه وبينه:
إن عندي لنصيحة إن فعلتها حمدت عاقبتها، فقال الملك: وما هي؟ فقال: إني خائف عليك من هذا الرّجل، (فاني أظنه صاحب الدرهم المربع - لأنه كان ينظر في علم النجوم -) (45) ثم قال له: أرى أن تعتقله وأصحابه وتنفق عليه كلّ يوم دينارا لتكفي شرّه وان لم تفعل ذلك لتنفقن عليه خزائنك، ثم لا ينفعك ذلك فوافقه الملك، ثم قال له (46): يقبح عليك أن تبكي من موعظة هذا الرّجل ثم تسيء إليه في مجلس واحد، وأن يظهر منك الخوف منه مع عظم ملكك، وهو رجل فقير لا يملك سدّ جوعته، فلمّا سمع الملك كلامه أخذته عزّة النفس واستهون أمره وصرفه وسأله الدعاء.
ولمّا خرج من عند الملك لم يزل وجهه تلقاء وجه؟؟؟ الملك إلى أن فارقه / فقيل له:
نراك قد تأدّبت مع الملك إذ لم توله ظهرك، فقال: أردت أن لا يفارق وجهي الباطل ما استطعت حتى أغيره.
فلمّا خرج ابن تومرت وأصحابه من عند الملك قال لهم: لا مقام لنا بمرّاكش مع
(42) في الأصول: «من» .
(43)
كذا في ط والوفيات، وفي ش:«علمه» .
(44)
في الأصول: «عليه» .
(45)
زيادة عما هو موجود بالوفيات وموجودة بتاريخ الدّولتين للزّركشي ص: 5 وكتاب العبر لابن خلدون 6/ 469.
(46)
وجود مالك بن وهيب، فما نأمن أن يعاود الملك (47) في أمرنا فينالنا منه مكروه، وإن لنا بأغمات أخا في الله، فنقصد المرور به فلا نعدم منه رأيا ودعاء صالحا، واسم هذا الرّجل عبد الحق بن ابراهيم، وهو من فقهاء المصامدة (ولمّا مرّ بهنتاتة لقيه من أشياخهم الشّيخ أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي)(48) ولمّا وصل للشيخ عبد الحق خرج إليه مع جماعة المصامدة وأنزلوه، فأخبره ابن تومرت خبره، وأطلعهم على مقصوده، فقال عبد الحق: هذا الموضع لا يحميكم، وان أحسن المواضع المجاورة لهذا البلد تين مل (49) وبيننا وبينها مسيرة يوم في هذا الجبل، فانقطعوا فيه برهة ريثما يتناسى (50) ذكركم، فلمّا سمع ابن تومرت بهذا الاسم تجدد له اسم الموضع الذي رآه في كتاب الجفر، فقصده مع أصحابه، فلما أتوه رآهم أهله على تلك الصّورة فعلموا أنهم من طلاّب العلم، فقاموا إليهم وأكرموهم وتلقوهم بالتّرحاب وأنزلوهم في أكرم منازلهم، وسأل الملك عنهم بعد خروجهم من مجلسه فقيل له: إنّهم سافروا فسّره ذلك، وقال: تخلّصنا من الاثم بحبسهم.
ثم إن أهل الجبل تسامعوا بوصول ابن تومرت / إليهم، وقد كان شاع ذلك فيهم، فجاؤوه من كلّ فجّ عميق وتبرّكوا بزيارته، وكان كل من أتاه استدناه وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على الملك، فان أجابه أضافه إلى خواصّه، وان خالفه أعرض عنه، وكان يستميل الأحداث وذوي الضراوة (51)، وكان أولوا العلم والعقل من أهاليهم ينهونهم ويحذّرونهم من أتباعه ويخوّفونهم من سطوة الملك، ولمّا لم يتمّ لابن تومرت مع ذلك حال، وطالت المدّة، وخاف من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل، وخشي أن يطرأ على أهل الجبل من جهة الملك ما يحوجهم إلى تسليمه إليه والتّخلي عنه (52)، شرع في إعمال الحيلة فيما يشاركونه فيه ليعصوا على الملك بسببه، فرأى بعض أولاد القوم شقرا زرق العيون، وألوان آبائهم السّمرة والكحل، فسألهم عن سبب ذلك فلم يجيبوه، فألزمهم بالإجابة فقالوا: نحن من رعيّة هذا الملك وله علينا خراج، وفي كلّ
(47) بعدها في ش: «لف» .
(48)
زيادة عما هو موجود بالوفيات التي ينقل عنها المؤلف، انظر عنها ابن خلدون 6/ 469.
(49)
كذا في ط والوفيات، وفي ش:«يزمل» .
(50)
«ينسى» .
(51)
في الوفيات: «ذوي الغرة» ، 5/ 51.
(52)
كذا في ط والوفيات، وفي ش:«منه» .
سنة تصعد مماليكه إلينا ينزلون بيوتنا ويخلون بمن فيها من النساء، فيأتي الأولاد على تلك الصفة، وما لنا قدرة على دفع ذلك عنّا، فقال ابن تومرت: والله إن الموت خير من هذه الحياة، وكيف رضيتم هذا وأنتم أضرب خلق الله بالسّيف وأطعنهم بالحربة؟ فقالوا:
بالرغم لا بالرضا قال: أرأيتم لو أن ناصرا نصركم على أعدائكم ما كنتم تصنعون؟ قالوا:
نقدم أنفسنا بين يديه للموت، فمن هو؟ قال: ضيفكم - يعني نفسه - قالوا: السّمع والطاعة، / وكانوا يغالون في تعظيمه، فأخذ عليهم العهود والمواثيق واطمأن قلبه» (53)«قيل (54) إن المصامدة بايعوه يوم الجمعة الرابع عشر لشهر رمضان من عام خمس عشرة وخمسمائة (55)، فأول من بايعه أصحابه العشرة تحت شجرة خرنوب وهم عبد المؤمن بن علي، وعمر أصناك (56) الصنهاجي، والشيخ أبو حفص عمر الهنتاتي واسماعيل بن مخلوف وابراهيم [بن اسماعيل] (57) واسماعيل بن موسى، وأبو يحيى بن مكيث (58)، ومحمد بن سليمان، وأبو محمد (59) عبد الله بن ملويات (60) وعبد الله بن عبد الواحد المكنّى بالبشير، والعاشر (61) الشّيخ عبد الواحد بن أبي حفص، ثم بايعه من هنتاتة يوسف بن وانودين، وابن يغمور (62) وابن ياسين، (ومن ينتمي إلى) (63) عمر بن تافراجين وجميع قبيلة هرغة، ولمّا كملت بيعته لقّبوه بالمهدي، وكان لقبه قبل «الامام» وانتقل بعد بيعته بثلاث سنين إلى جبل تينمل (64) فأوطنه وبنى داره ومسجده بينهم، وقاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا له» (65).
(53) الوفيات: 5/ 46 - 52.
(54)
النقل الآن من تاريخ الدولتين للزركشي ص: 6.
(55)
26 نوفمبر 1121 م.
(56)
كذا في كتاب العبر 6/ 470 وفي تاريخ الدولتين: «الشيخ ابو علي عمر الصّنهاجي» .
(57)
اضافة من تاريخ الدولتين ص: 6.
(58)
كذا في تاريخ الدولتين، وصوابه:«يكيت» كما في ابن خلدون 6/ 469 والاستقصا. انظر تعليق الشيخ محمد ماضور هامش 2 ص: 6 من تاريخ الدولتين.
(59)
في الأصول: «ابن» .
(60)
في ط وفي تاريخ الدولتين: «ملتوتات» وفي ش: «حلوتات» ، وعلق عليها الشيخ ماضور بقوله: صوابه «ملويات» كما في أولها» وكتبها ابن خلدون ملويات أيضا 6/ 470.
(61)
به صار العدد احدى عشر خلافا لما نصّ عليه المؤلف، وما رتبه من الأسماء مطابق للعبر وتاريخ الدولتين.
(62)
في ش: «ابن مغمور» وفي ط: «ابن مغور» .
(63)
في الأصول: «ومن تين مل» والمثبت من تاريخ الدولتين ص: 6.
(64)
كذا في ط، وفي تاريخ الدولتين وفي كتاب العبر:«تينملل» 6/ 470 - 471. وفي ش والوفيات: «تين مل».
(65)
انتهى النقل من تاريخ الدولتين ص: 6.
ثم قال لهم (66): استعدّوا لحضور مماليك السّلطان بالسّلاح فاذا جاؤوكم فأجروهم على العادة وخلّوا بينهم وبين النّساء وميلوا عليهم بالخمور، فاذا سكروا فأذنوني بهم، فلمّا حضر (67) المماليك فعل أهل الجبل ما أشار به ابن تومرت، وكان ليلا، وأعلموه بذلك، فأمر (68) بقتلهم، فلم يمض من الليل ساعة حتى أتوا على آخرهم، فلم يفلت منهم إلاّ مملوك واحد كان خارج المنازل لحاجة له، فسمع التّكبير عليهم / والوقع بهم فهرب عن غير الطريق حتى خلص من الجبل ولحق بمرّاكش فأخبر الملك بما جرى، فندم على فوات ابن تومرت من يده، وعلم أن الحزم كان مع مالك بن وهيب (69) فيما أشار به، فجهّز من وقته خيلا بمقدار ما يسع وادي تين مل (70) لأنه ضيّق المسلك، وعلم ابن تومرت أنه لا بدّ من وصول عسكر إليهم، فأمر أهل الجبل بالقعود على أنقاب الوادي ومراصده، واستنجد لهم بعض المجاورين فلمّا وصلت الخيل إليهم أقبلت عليهم الحجارة من جانبي الوادي مثل المطر، وكان ذلك من أوّل النّهار إلى آخره، وحال بينهم الليل فرجع العسكر إلى الملك، وأخبروه بما تمّ لهم، فعلم أن لا طاقة له (71) بأهل الجبل، فأعرض عنهم.
وتحقّق ابن تومرت ذلك منه، وصفت (72) له مودّة أهل الجبل، فعند (73) ذلك استدعى الونشريسي (74) وقال له: هذا أوان فصاحتك (75) دفعة واحدة، تقوم لك مقام المعجزة لنستميل بك قلوب (76) من لا يدخل تحت الطّاعة، ثم اتّفقا على أنه يصلّي الصّبح ويقول بلسان فصيح - بعد استعمال العجمة واللكنة [في] تلك المدّة -: إنّي رأيت البارحة في منامي أنّه قد نزل ملكان من السماء وشقّا فؤادي وغسلاه وحشياه علما
(66) عود إلى الوفيات 5/ 52.
(67)
كذا في ط والوفيات، وفي ش:«جاء» .
(68)
كذا في ط والوفيات، وفي ش:«أمرهم» .
(69)
في الأصول: «وهب» وأثبتناها كما أشرنا سابقا.
(70)
كذا في الأصول والوفيات، وكتبها الزركشي:«تينمل» والمؤلف يكتبها حسب النّص الذي ينقل عنه.
(71)
في الأصول: «لهم» والمثبت من الوفيات 5/ 52.
(72)
في الأصول: «وصفى» .
(73)
في الأصول: «ومن» .
(74)
في الأصول: «الونشريشي» وأثبتناها كما سبقت الإشارة إليه.
(75)
في الوفيات: «اظهار فضائلك» .
(76)
في الأصول: «القلوب» .
وحكمة وقرآنا، فلمّا أصبح فعل ذلك، فانقاد له كلّ صعب القياد، وعجبوا من حاله وحفظه القرآن في النّوم، فقال له ابن تومرت: فعجّل لنا البشرى في أنفسنا وعرفنا أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقال له: أما أنت فانك المهدي القائم بأمر الله / فمن تبعك سعد ومن خالفك هلك، ثم قال: اعرض عليّ أصحابك حتّى أميّز أهل الجنّة من أهل النّار، وعمل في ذلك حيلة فقتل بها من خالف ابن تومرت، وأبقى من أطاعه، قال ابن خلكان (77): وشرح ذلك يطول، وكان غرضه أن لا يبقى في الجبل مخالف لابن تومرت، فلمّا قتل من خالفه علم ابن تومرت أن في الباقين من له أهل وأقارب قتلوا وأنه لا تطيب قلوبهم بذلك، فجمعهم وبشّرهم بانتقال ملك مرّاكش إليهم، واغتنامهم أموالهم، فسرّهم ذلك وسلاّهم عن أهلهم، (وقد تقدم ما أمرهم به من اتّخاذ مرابط للخيل التي يغنموها، وكلّ ينال بقدر ما أعد)(78).
ولم يزل ابن تومرت حتى جهّز جيشا عدد رجاله عشرة آلاف ما بين فارس وراجل، (وقيل عدة الأفراس أربعين، وقيل أربعمائة)(79) وفيهم عبد المؤمن والونشريسي (74) وأصحابه كلّهم، وأقام هو بالجبل، فنزل القوم لحصار مرّاكش، وأقاموا عليها شهرا، (ثمّ خرج إليهم الملك بمن معه وصابرهم الحرب خارج الحصن)(80) فكسّرهم كسرة فاحشة وقتل الونشريسي (81)، ونجا عبد المؤمن ورجعوا إلى الجبل وقد بلغ خبرهم لابن تومرت وحضرته الوفاة قبل وصولهم إليه، فأوصى من حضر أن يبلّغ الغائبين أن النّصر لهم، وأن العاقبة حميدة، فلا يضجروا وليعاودوا القتال، وأن الله تعالى سيفتح على أيديهم، والحرب سجال، وأنكم ستقوون وتعلون وتكثرون، وأنتم في مبدإ أمر وهم في آخره» (82).
وكان يقول: «إن مثل هذا الأمر كالفجر يتقدمه / الفجر الكاذب وبعده ينبلج الصّبح ويستعلي الضوء» (83) وهذه الوقعة أتت على معظم أصحابه، وكادت تمحو أثره إلاّ أن لله مشيئته هو منفذها {وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (84).
(77) الوفيات 5/ 53.
(78)
زيادة عما هو موجود بالوفيات.
(79)
زيادة عن الوفيات من تاريخ الدولتين ص: 7.
(80)
زيادة عن الوفيات، نقلها المؤلف بتصرف عن تاريخ الدولتين ص:7.
(81)
في الأصول: «الونشريشي» .
(82)
ابن خلكان الوفيات 5/ 52 - 53.
(83)
انظر الاستقصا للناصري 2/ 81.
(84)
سورة يوسف: 21.
وتوفي سنة أربع وعشرين وخمسمائة (85)، «ودفن في الجبل، وقبره هناك مشهور يزار» (86)، «وكانت مدّته (87) من حين بويع تسع سنين» (88) وكان «حصورا لا يأتي النّساء» (89) ومات ولم يبلغ أربعين سنة.
قال في حقّه صاحب «المعرب في أحوال المغرب» (90):
[وافر]
آثاره تنبيك عن أخباره
…
حتى كأنّك بالعيان تراه
قدم في الثّرى وهمّة في الثّريا، ونفس ترى (91) إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا، وكان قوته كلّ يوم رغيفا من غزل أخته بقليل زيت أو سمن، ولم ينتقل عن هذا حين كثرت عليه الدّنيا، ورأى أصحابه يوما وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه، فأمر بضمّ ذلك جميعه وأحرقه وقال: من كان يبتغي الدّنيا فما له عندي إلاّ ما رأى، ومن يبتغي (92) الآخرة فجزاؤه على الله تعالى. وكان مع خمول زيّه وبسطة [مهيبا] (93) وجهه منيع الحجاب [الا] (94) عند المظلمة (95) وكان يتمثّل بقول المتنبي:
[وافر]
إذا غامرت في شرف (96) مروم
…
فلا تقنع بما دون النّجوم
فطعم الموت في أمر حقير
…
كطعم الموت في أمر عظيم (97)
(85) كذا بالأصول والوفيات وزاد عليها الزركشي: «لثلاث عشرة خلون من شهر رمضان» ص: 7 ويقابله بالمسيحي 1129 - 1130 م وفي كتاب العبر: «هلك المهدي سنة اثنتين وعشرين» 6/ 472.
(86)
الوفيات 5/ 53.
(87)
في ش: «مدة» .
(88)
الزركشي تاريخ الدولتين ص: 7.
(89)
تاريخ الدولتين ص: 7، وكتاب العبر 6/ 471.
(90)
نقله بواسطة ابن خلكان، الوفيات 5/ 53 - 54.
(91)
في ش: «ترا» .
(92)
في ش: «يبتغ» .
(93)
اضافة من الوفيات يقتضيها السياق.
(94)
اضافة من الوفيات يقتضيها السياق.
(95)
للمهدي ابن تومرت أخبار في كتب التاريخ المعروفة، ومن الغريب أن تاج الدّين السبكي ترجم له في طبقات الشافعية الكبرى 5/ 71 - 74.
(96)
في الأصول: «اذا ما كنت في أمر مروم» والمثبت من الوفيات وديوان المتنبي دار صادر، بيروت.
(97)
انظر ديوان المتنبي، دار صادر بيروت ص: 232 والأبيات من قطعة بها 9 أبيات قالها عندما كبست انطاكية وهو فيها فقتل الطخرور وأمه.