الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ليلة القدر
الحديث الأَوَّل
عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رِجالًا مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المَنَامِ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأتْ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ"(1).
أمَّا ليلة القدر: فإنما سميَّت بذلك؛ لما يكتب الله فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السَّنة، لقوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، وقوله عز وجل:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)} [القدر: 4].
ومعناه: يظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، وكل ذلك مما سبق علمُ الله تعالى به، وتقديره له.
وقيل: سمِّيت ليلةَ القدر؛ لعظم قدرها وشرفها.
وأجمع من يُعتد به من العلماء على دوامها ووجودها إلى آخر الدَّهر، وشذَّ قوم فقالوا: رفعت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حتَّى تلاحى الرَّجلان، فرفعت"(2).
(1) رواه البخاري (1911)، كتاب: صلاة التراويح، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، ومسلم (1165)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر.
(2)
سيأتي تخريجه قريبًا.
قال القاضي عياض رحمه الله (1): وهذا غلط من هؤلاء الشَّاذين؛ لأنَّ آخر الحديث يردُّ عليهم، فإنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"فَرُفِعَتْ، وعَسَى أَنْ يكونَ خيرًا لكُمْ، التمِسُوها في السَّبْعِ، والتِّسْعِ"(2)، هكذا هو في أول "صحيح البخاري"، وفيه تصريح بأن المراد برفعها رفعُ بيان علم عينها، ولو كان المراد رفعَ وجودها، لم يأمر بالتماسها، والله أعلم.
واختلف العلماء في انتقالها وتعيينها، فقال قوم: هي منتقلة تكون في سنة في ليلة، وفي سنة أخرى في ليلة أخرى، وهكذا أبدًا، وهؤلاء قالوا: إنما تنتقل في شهر رمضان، وجمهورهم قالوا: تنتقل في العشر الأواخر منه.
قالوا: وبهذا نجمع بين الأحاديث. ويقال: في كل حديث جاء في أحد أوقاتها، ولا تعارض فيها، وهذا نحو قول مالك، والثَّوري، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور وغيرهم.
وقال قوم: هي معيَّنة، لا تنتقل أبدًا، بل هي ليلة معيَّنة في جميع السِّنين، لا تفارقها، وهؤلاء اختلفوا، فقال قوم: هي في السَّنة كلها، وممَّن قال به: ابن مسعود، وأبو حنيفة وصاحباه، وقال قوم: هي في شهر رمضان كلِّه، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما، وجماعة من الصَّحابة رضي الله عنهم، وقيل: بل في العشر الأوسط والأواخر، وقيل: في العشر الأواخر.
وقيل: تختصُّ بأوتار العشر، وقيل: بأشفاعها، وقيل: بل في ثلاث وعشرين، أو سبع وعشرين، وهو قول ابن عباس، وقيل: تطلب في ليلة سبعَ عشرةَ، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وحكي عن علي وابن مسعود، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين، وهو قول كثير من الصَّحابة وغيرهم، وقيل: ليلة أربع وعشرين، وهو محكيٌّ عن بلال، وابن عبَّاس، والحسن، وقتادة، وقيل:
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 58).
(2)
رواه البخاري (49)، كتاب: الإيمان، باب: خوف المؤمن من أنَّ يحبط عمله وهو لا يشعر، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
ليلة سبع وعشرين، وهو قول جماعة من الصَّحابة، وقيل: سبع عشرة، وهو محكيٌّ عن زيد بن أرقم، وابن مسعود -أيضًا-، وقيل: تسع عشرة، وحكي عن ابن مسعود -أيضًا-، وحكي عن علي -أيضًا-، وقيل: آخر ليلة من الشَّهر.
ولا شكَّ أنَّ ليلة القدر موجودة، وأنَّها تُرى، ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان، والأحاديث الثابتة الصَّحيحة تدلُّ على ذلك، وإخبار الصَّالحين بها، ورؤيتهم لها أكثرُ من أن تحصر.
ومنع المهلَّب بن أبي صفرة إمكان رؤيتها حقيقة، وغلَّطه العلماء، وحكوه عنه؛ للتنبيه على غلطه؛ لئلا يُغتر به، قالوا: وإنَّما أُخفي بيان علم عينها عن النَّاس؛ لأجل الاجتهاد في العبادة، وعدم الكسل؛ لأنَّهم لو علموا عينها، حملهم ذلك على تركها إلى ليلتها، واستغنوا بالاجتهاد فيها عن باقي اللَّيالي، والله أعلم.
قَولُه صلى الله عليه وسلم: "أَرَى رُؤيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ"؛ أي: توافقت وتواطأت، مكتوب في النُّسخ كلِّها جميعها، بطاء ثمَّ تاء، وهو مهموز بغير ألف بينهما، وينبغي أنَّ يكتب بالألف بين الطاء والتَّاء صورة للهمزة، ولا بدَّ من قراءته مهموزًا، قال الله عز وجل:{لِيُوَاطئُوا عَدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ} [التوبة: 37].
قوله صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا، فَلْيَتَحَرَّهَا في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ" التَّحَرِّي: الاجتهاد وطلب الأحرى، ومعناه: فليجتهد في طلبها يطلب حينها وزمانها.
وفي الحديث دليل على عظم الرؤيا، والاستناد إليها في الاستدلال على الأمور الوجوديات، وعلى ما لا يخالف القواعد الكلية من غيرها، فلو رأى النَّبي صلى الله عليه وسلم في الرُّؤيا، وأمره بأمر سهل، يلزمه ذلك، وقيل: إنَّ فيه أنَّ ذلك إما أنَّ يكون مخالفًا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الأحكام في اليقظة، أو لا، فإن كان مخالفًا، عمل بما ثبت في اليقظة؛ لأنا، وإن قلنا بأنّ من رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على الوجه المنقول من صفته، فرؤياه حقٌّ، وهذا من باب تعارض الدليلين، والعمل بأرجحهما، وما ثبت في اليقظة، فهو أرجح، وإن كان غير مخالف لما ثبت في اليقظة، ففيه خلاف.
وقد ذكر الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في كتاب "أدب الجدل" له (1)، قال: لو أنَّ رجلًا رأى النَّبيَّ في المنام على الهيئة الَّتي نقلت في صفاته، فسأله عن مذهبه، فأفتى بخلاف ما هو مذهبه، ولكن لم يكن مخالفًا لنصٍّ ولا إجماع، هل يأخذ بفتياه، أو يأخذ بمذهبه الَّذي يستند إلى الدَّليل؟ فيه وجهان:
أحدهما: يأخذ بقوله؛ لأن قوله مقدَّم على القياس، وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم:"من رآني في المنام، فقد رآني؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يتمثَّل بي"(2)، فصار كقوله في حياته.
وفي الوجه الثَّاني: الأخذ بالقياس أولى؛ لأنَّه دليل شرعي، والأحلام لا تعويل عليها، فلا يترك لأجلها الشَّرعي، والله أعلم.
لكن الاستناد إلى الرؤيا هاهنا أمر ثبت استحبابه مطلقًا في طلب ليلة القدر، وإنَّما يرجح السَّبع الأواخر بسبب المرائي الدَّالة على كونها في السَّبع الأواخر، وهو استدلال على أمر وجودي لزمه استحباب أمر شرعي بالتأكيد بالنِّسبة إلى هذه اللَّيالي، مع كونه غير مناف للقاعدة الكلية الثابتة من استحباب قيام ليلة القدر، وقد قالوا: تستحبُّ في جميع الشَّهر.
وفيه دليل على أنَّ ليلة القدر في شهر رمضان، وهو مذهب الجمهور، وقيل: إنَّها في جميع السنة كما تقدم.
قال الفقهاء: لو قال في رمضان لزوجته: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق حتى تأتي عليها سنة؛ لأن كونها مخصوصة برمضان مظنون، وصحَّة النِّكاح
(1) كتاب "أدب الجدل" للإمام علي بن أحمد السهيلي أبو الحسن الإسفراييني، المتوفى سنة (418 هـ)، وضع فيه غرائب من علم أصول الفقه وغيره. انظر:"طبقات الشافعية الكبرى" للسبيكي (5/ 246)، و"كشف الظنون"(1/ 45).
(2)
رواه البخاري (110)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم (2266)، كتاب: الرؤيا، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام، فقد رآني"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا لفظ مسلم.
معلومة، فلا يزال مرور ليلة القدر إلا بتعين، وهو مضي سنة.
قال شيخنا أبو الفتح الإمام رحمه الله: وفي هذ انظر؛ لأنَّه إذا دلَّت الأحاديث على اختصاصها بالعشر الأواخر، كان إزالة النِّكاح بناء على مستند شرعي، وهو الأحاديث الدَّالة على ذلك، والأحكام المقتضية لوقوع الطَّلاق يجوز أنَّ تبنى على [أنَّ] أخبار الآحاد يرفع بها النِّكاح، ولا يشترط في رفع النكاح وأحكامه أنَّ يكون مستندًا إلى خبر متواتر، أو أمر مقطوع به اتِّفاقًا، نعم ينبغي أنَّ ينظر إلى دلالة ألفاظ الأحاديث الدَّالة على اختصاصها بالعشر الأواخر، ومرتبتها في الظهور والاحتمال، فإن ضعفت دلالتها، فللَّذي قيل وجه، هذا آخر كلامه رحمه الله (1).
والأشهر في مذهب الشافعي رحمه الله أنَّ ليلة القدر منحصرة في العشر الأواخر من شهر رمضان، وأنها ليلة معيَّنة لا تنتقل، بل تكون كل سنة في تلك الليلة. والمختار: أنَّها تنتقل، فتكون في بعض السِّنين في ليلة، وفي بعضها في ليلة أخرى، ولكن إنَّما تنتقل في العشر الأواخر، حتَّى قال أصحاب الشَّافعي أو جماعة منهم: لو قال لزوجته صبيحة اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق إلا صبيحته من السَّنة المستقبلة؛ لجواز أنَّ تكون وقعت تلك الليلة التي حلف صبيحتها.
وبالمختار في انتقالها يجمع بين الأحاديث الصحيحة والمختلفة فيها، وممن قال به من أئمة أصحاب الشَّافعي: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، وصاحبه إمام الأئمة أبو بكر محمَّد بن إسحاق بن خزيمة - رحمهما الله تعالى -.
وفيه دليل: لمن رجَّح في ليلة القدر غيرَ ليلة الحادي والعشرين، والثالث والعشرين.
وفيه دليل: على العمل بقول الأكثر، أو الكثير؛ في الرُّؤيا وغيرها من
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (2/ 249 - 250).