الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقد، وإن طال المجلس، ووجد القبض فيه، وما ادّعاه القاضي عياض في ذلك من اتفاق العلماء، وجوَّز إسماعيل بن علية التفريق عند اختلاف الجنس، بأن أراد بذلك اختلاف الجنس بالنسبة إلى النقدين وغيرهما من المطعومات، فهو موافق للجماعة، وإلا، فهو محجوج بالحديث والاجماع، والله أعلم.
وفيه: الحثُّ على التساوي في الربويات، بكل ما يمكن من الوزن أو الكيل أو العد.
وإن حملنا الحديث على التوكيد والمبالغة، فتكون الدلالة على غير الموزون من باب التنبيه، لا من باب المراد، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عَنْهُ، قالَ: جَاءَ بلَالٌ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِتَمرٍ بَرنيٍّ، فَقَالَ لَه النبي صلى الله عليه وسلم:"مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ "، قَالَ بِلَالٌ: كانَ عِندَنَا تَمر رَدِيء، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبِي صلى الله عليه وسلم عِندَ ذَلِكَ:"أَوّه! عَيْنُ الربا، لا تَفعَل! وَلَكِنْ إذَا أَرَدتَ أَن تَشتَرِيَ، فَبعِ التمْرَ بِبيع آخَرَ، ثم اشْتَرِ بِهِ"(1).
تقدَّم الكلام على بلال وأبي سعيد.
وأَمّا التمرُ البَرني؛ فهو ضرب من التمر، أصفر مدوّر، واحدته برنيَةٌ، وهو أجود التمر، قاله صاحب "المحكم"، وقال أبو حنيفة الدينوري: أصله فارسي.
وأَمّا قول الشيخِ أبي إسحاق الشيرازي صاحب "التنبيه" فيه: إن المعقلي أجود من البرني، وليس كما قال: بل الصواب المشهور ما قاله صاحب "المحكم"(2).
(1) رواه البخاري (2188)، كتاب: الوكالة، باب: إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا، فبيعه مردود، ومسلم (1594)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل.
(2)
انظر: "التنبيه" للشيرازي (ص: 99)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 25) و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 85).
وقولُه صلى الله عليه وسلم: "أَوّه! عَيْنُ الرّبَا"، أَما أَوَّهْ: فقال أهل اللغة: هي كلمة توجُّع وتحزُّن، وأَمّا:"عَيْنُ الرِّبَا"؛ وتكرارها مرتين: فمعناه: أنه حقيقة الربا المحرم، وأَكَّده بالتكرار.
وفي أَوهْ لغات: أفصحهن: فتح الهمزة والواو المشددة والهاء ساكنة، ويقال بالهاء منصوبة منونة، ويقال أَوه: بإسكان الواو وكسر الهاء منوَّنة وغير منوَّنة، ويقال: أَوٍّ: بتشديد الواو مكسورة منونة بلا هاء، ويقال: آهٍ، بمد الهمزة وتنوين الهاء مكسورة من غير واوٍ (1).
وروى مسلم في "صحيحه"من حديث أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن اشترى صاعًا بصاعين: "هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ"(2)، وفي حديث الكتاب هذا: أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بلالًا بردِّه، بل نَهاهُ عن فعله، وأمره أن يبيعَ التمر ببيع آخر، ثم يشتري به، فيحتمل أنهما واقعتان، أمر فيهما بأمرين، وليس بظاهر، بل الظاهر أنها واقعة واحدة، أمر فيها برده، فبعض الرواة حفظ الرد، وبعضهم لم يحفظه، والزيادة من الثقة مقبولة.
وليس في حديث بلال في الكتاب ما ينافي الرد، بل مقتضى نهيه صلى الله عليه وسلم عن فعله، يلزم منه الرد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما أمره ببيع التمر ببيع آخر، ثم اشترائه، لزم منه ردُّه على بائعه، واسترداد ثمنه، وهي الصاعان من الرديء، ثم اشتراء التمر من البائع أو غيره ببيع آخر، إما في الذمة، وإما بتقويم الرديء بثمن غير ربوي، ثم اشترائه به، ولم يكن شيء من ذلك، ولم تثبت رواية الردِّ، فيحمل حديث بلال هذا على أنه جُهل بائعُهُ، ولا يمكن معرفته، فصار مالًا ضائعًا لمن عليه دين بقيمته، وهو التمر الرديء الذي قبضه عوضًا عن الصاعين الرديئين، وحينئذٍ لا يبقى فيه إشكال ولا معارضة، والله أعلم.
(1) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 339)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 52)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 82)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 22).
(2)
رواه مسلم (1594)، (3/ 1216)، كتاب: المساقاة، باب: بيع الطعام مثلًا بمثل.
وقولُه: "فَبعِ التَّمرَ بِبيعٍ آخَرَ"؛ الألف واللام في "التمر" للعهد في الرديء.
وقولُه: "ثم اشْتَرِ بِهِ"؛ يعني "به": الصاع الجيد، ويكون المعنى: بِعْه على صفقة أخرى، وتكون الباء زائدة، كأنه قال: بِعْهُ بيعًا آخر، وعود المعنيين إلى محلين أولى من عودهما إلى محل، خصوصًا إذا استقام المعنى به، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أحكام جليلة:
منها: النصُّ على تحريم رِبا الفضل في التمر، والأمة كلها عليه، إلا ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما؛ فإنهما قالا بجوازه إذا كانا يدًا بيدٍ في جميع الربويات المتجانسة في أول أمرهما، فلما بلغهما حديث أبي سعيد، رجعا عن قولهما بإباحته إلى منعه، وذكر الراوي عنهما الإباحة الرجوعَ عنها لأبي سعيد.
ومنها: اهتمام التابع بمتبوعه في أكله وجميع أموره، وطعامه الجيِّد الطيب دون الرديء.
ومنها: السؤال عن تصرف المتبوع له عن كيفيته ليعلمه إياها، وليجتنبه المتبوع.
ومنها: تعليم العلم، وتقبيح المحرم والمكروه لمن يعلمه؛ ليجتنبه ويعلمه غيره.
ومنها: تعريف التابع للمتبوع اهتمامه به في المطعم، وعدم الرضا بالرديء له، إما لقصد دعاء المتبوع له، وإما لإقباله عليه، إما بظاهره، أو بباطنه، أو بمجموعهما.
ومنها: ما احتج به أصحاب الشافعي ومَنْ وافقهم على استعمال الحيل في البياعات في مسألة العينة كما يفعله بعض الناس، توصلًا إلى مقصود الرِّبا، بأن يريد أن يعطيه مئة بمئتين، فيبيعه ثوبًا بمئتين، ثم يشتريه منه بمئة.
وموضع الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "بِعْهُ واشْتَرِه ببِيع آخَرَ"، ولم يقصد بذلك سوى الخلاص من العقد الممنوع منه في الشرع، وهو