المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب حُرمة مكَّة ‌ ‌الحديث الأول عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو الخُزَاعِيِّ - العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار - جـ ٢

[ابن العطار]

فهرس الكتاب

- ‌باب التشهد

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الوتر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الذكر عقيب الصلاة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الجمع بين الصلاتين في السفر

- ‌باب قصر الصلاة في السفر

- ‌باب الجمعة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب العيدين

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الكسوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الاستسقاء

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب صلاة الخوف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌كتاب الزكاة

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌باب صدقة الفطر

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب الصيام

- ‌الحديث الأول

- ‌ باب:

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌باب الصوم في السفر وغيره

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السَّابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌باب أفضل الصِّيام وغيره

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثّاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السَّادس

- ‌الحديث السَّابع

- ‌الحديث الثَّامن

- ‌باب ليلة القدر

- ‌الحديث الأَوَّل

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثَّالث

- ‌باب الاعتكاف

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثَّالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌كتاب الحجّ

- ‌باب المواقيت

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌باب ما يَلْبسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّياب

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌بَابُ الفِدْيةِ

- ‌باب حُرمة مكَّة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌باب ما يجوز قتله

- ‌باب دخول مكَّة وغيره

- ‌الحديث الأوَّل

- ‌الحديث الثَّاني

- ‌الحديث الثَّالث

- ‌الحديث الرَّابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌باب التَّمتُّع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌باب الهدي

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب الغسل للمحرم

- ‌باب فسخ الحجِّ إلى العُمْرَةِ

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادي عشر

- ‌باب المُحْرِم يأكل من صيد الحلال

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌كتاب البيوع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌باب ما نُهي عنه من البيوع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌باب العرايا وغير ذلك

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌باب السَّلَمِ

- ‌الحديث الأول

- ‌باب الشروط في البيع

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌باب الرِّبَا والصرف

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

الفصل: ‌ ‌باب حُرمة مكَّة ‌ ‌الحديث الأول عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو الخُزَاعِيِّ

‌باب حُرمة مكَّة

‌الحديث الأول

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ خُوَيْلِدِ بْنِ عَمْرٍو الخُزَاعِيِّ العدويِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعيدِ بْنِ العاصِ، وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إلى مَكَّةَ: ائذَنْ لي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ قولًا قَامَ بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِه، أنَّهُ حَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَها الله، ولم يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ؛ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ"، فَقِيلَ لأَبي شُرَيْحٍ: مَا قيل لَكَ؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُريَحْ! إِنَّ الحَرَمَ لا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبةٍ" (1).

الخربة -بالخاء المعجمة، والرَّاء المهملة- قيل: الخيانة، وقيل: البليَّة، وقيل: التُّهمة، وأصلها في سرقة الإبل، قال الشَّاعر (2):

وَالخَارِبُ اللِّصُ يُحبُّ الخَارِبَا

(1) رواه البخاري (104)، كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، ومسلم (1354)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة

(2)

انظر: "الكامل" للمبرد (2/ 937)، و "غريب الحديث" للخطابي (2/ 266).

ص: 967

أَمَّا أَبوُ شُرَيْح، فهو -بضمِّ الشين المعجمة، وفتح الرَّاء، وسكون الياء، وبالحاء المهملة- خويلد، -مصغَّر خالد- بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد، وقيل: هانئ بن عمرو، ويقال: عبد الرَّحمن بن عمرو بن صخر بن عبد العزَّى بن معاوية بن المحترمْنَ عمرو بن رَمَان بن عديّ بن عمرو بن ربيعة، أسلم قبل فتح مكَّة، وكان يحمل أحد ألوية بني كعب من خزاعة الثلاثة يوم فتح مكَّة.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون حديثًا، اتَّفق له البخاريُّ ومسلم على حديثين، وانفرد البخاريُّ بحديثٍ.

روى عنه: نافع بن جبير بن مطعم، وسعيد بن أبي سعيدٍ المقبري، وروى له أصحاب السُّنن والمساند، مات بالمدينة سنة ثمانٍ وستِّين (1).

وأمَّا الخُزَاعيُّ: فبضمِّ الخاء المعحمة، وفتح الزَّاي، ثمَّ الألف، ثمَّ العين المهملة، ثمَّ ياء النَّسب، نسبةً إلى خُزَاعة.

والعَدَويُّ: بفتح العين والدَّال المهملتين، ثمَّ الواو، ثمَّ ياء النَّسب، نسبةً إلى عديّ خزاعة، وهي نسبةٌ إلى قبائل خمسة أحدها هذه.

ويقال له: الكعبي، نسبة إلى كعب خُزَاعَةَ، وهي نسبة إلى قبائلَ أربعةٍ، أحدها هذه.

وأمَّا عَمْرُو بنُ سَعيد بنِ العَاص: فكنيته، أبو أميَّة الأموي، قيل: له رواية، ولم يثبت، واسم أبي جده: العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، وهو المعروف بالأشدق؛ لُقِّب به لأنَّه كان عظيم الشدقين، وقيل: لقَّبه به معاوية؛ لكلامٍ جرى بينه وبينه، وهو مشهور.

(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (4/ 295)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 224)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 398)، و "الثقات" لابن حبان (3/ 110)، و "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1688)، و "أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 160)، و "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (2/ 524)، و "تهذيب الكمال" للمزي (33/ 400)، و "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 204)، و "تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 138).

ص: 968

وأبوه سعيد صحابي، كنيته أبو عثمان، ويقال: أبو عبد الرَّحمن.

سمع عمرو هذا أباه، وروى عنه شبابة بن عاصم، روى له التِّرمذيِّ حديثًا من رواية عامر وأيُّوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص. وقال عقبة: حديثه غريبٌ، لا نعرفه إلَّا من حديث عامر، وأيُّوب بن موسى، رواه عن أبيه عن جدّه قال: وهذا عندي مرسل، قال غير واحد من المؤرِّخين: قتله عبد الملك بن مروان بيده، والله أعلم (1).

وأمَّا ألفاظه:

فقوله: "وَهُوَ يَبْعَثُ البُعُوثُ": هي جمع بعث بمعنى المبعوث، وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر، والمراد بالبعوث: القوم المرسلون للقتال، ونحوه.

وقوله: "إلى مكَّة" اعلم أنَّ مكَّة وبكَّة -بالميم والباء-، لغتان عند جماعة العرب، والعرب تعاقب بين الميم والباء، فتقول: سبد رأسه، وسمد.

واختلف في معناهما، فقيل: بكَّة: [موضع البيت، ومكة: اسم البلد. حكاهما المارودي عن النخعي وغيره](2)، وقيل: بكَّة: موضع البيت والمطاف، ومكة: البلد كلُّه. وقيل: بكَّة: المسجد خاصَّةً، ومكة: الحرم كلُّه، حكاه أيضًا عن زيد بن أسلم والزّهري.

فحينئذ مكَّة أعم من بكَّة؛ لكونها اسمًا للحرم كلِّه، أو للبلد كلِّه، وبكَّة إمَّا للبيت فقط، أو مع المطاف، وإمَّا لجميع المسجد.

وسمِّيت مكَّة؛ لقلَّة مائها، من قول العرب: مكَّ الفَصيلُ ضرعَ أمِّه، وامتكَّه: إذا امتصَّ جميع ما فيه من اللَّبن، وقيل: لأنَّها تمكّ الذنوب؛ أي: تذهب بها.

وسميت بكَّة؛ لازدحام النَّاس بها، يبكُّ بعضهم بعضًا؛ أي: يدفع في زحمة

(1) وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" للبخاري (6/ 388)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (6/ 236)، و"تهذيب الكمال" للمزي (22/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (5/ 294)، و "تهذيب التهذيب" له -أيضًا- (8/ 33).

(2)

ما بين معكوفين ساقط من "ح".

ص: 969

الطَّواف، وقال اللَّيث: لأنَّها تبكُّ أعناقَ الجبابرة؛ أي تدقُّها، والبكُّ: الدَّقُّ.

ويقال لمكَّة -أيضًا-: أمُّ القرى، والبلد الأمين، وأمّ رُحْم، بضم الرَّاء وسكون الحاء المهملة؛ لأن الرحمة تنزل بها، وصَلاحِ -بفتح الصاد وكسر الحاء مبني على الكسر كقطام-، ونظائرها، والباسَّة -بالباء-؛ لأنَّها تبسُّ الظالم؛ أي: تحطِّمه، والناسّة -بالنون-، والنساسة؛ لأنها تنس الملحد فيها؛ أي: تطرده. وقيل: لقلَّة مائها، وهو اليبس؛ حكاه الجوهريُّ عن الأصمعي، والحاطِمة، والرَّأس، وكُوثَى -بضمِّ الكاف وبفتح المثلّثة-، والعرش، والقادسةُ، والمقدَّسة، فهذه ستة عشر اسمًا (1).

وكثرة الأسماء؛ لشرف المسمَّى، ولهذا كثرت أسماء الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وهي أفضل البقاع، عند الشَّافعيِّ والجمهور، وقال مالك وطائفة: المدينة أفضل، وقال القاضي عِيَاض رحمه الله: الخلاف إنَّما هو فيما عدا مدفن النبي صلى الله عليه وسلم، أمَّا مدفنه، فهو أفضل بقاع الأرض مطلقًا، ونقل الإجماعَ عليه، والله أعلم (2).

قوله: "ائْذَنْ لي أَيُّهَا الأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ": إنما استأذنه في تحديثه؛ ليكون أدعى إلى قبول حديثه، وتحصيل الغرض منه؛ فإنَّ الغَلَط عليه قد يكون سببًا لإثارة نفسه، ومعاندة من يخاطبه.

وقوله: "أُحَدِّثكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي" إنَّما قال ذلك تخفيفًا لما يريد أن يخبره به.

وقوله: "سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ" نفيٌ لتوهُّم أن يكون رواه عن غيره.

وقوله: "وَوَعَاهُ قلبي" تحقيق لفهمه، والتَّثبّت في تعقل معناه.

(1) انظر: "أخبار مكة" للأزرقي (ص: 280)، وما بعدها، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 114)، و "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 133 - 134).

(2)

انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 163).

ص: 970

وقوله: "وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، أَنَّهُ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنىَ عَلَيْهِ" زيادة في تحقيق السَّماع منه والفهم عنه بالقرب والرؤية، وأن سماعه منه ليس هو اعتمادًا على الصوت دون حجاب، بل على الرؤية والمشاهدة، وأنَّه بدأ بما ينبغي أن يبدأ به في الكلام وغيره.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ حرَّمَ مَكَّةَ، وَلَمْ يُحَرِّمها النَّاسُ" معناه: تفهيم المخاطبين تعظيم قدر مكَّة، بتحريم الله تعالى إيَّاها، ونفي ما تعتقده الجاهلية، وغيرهم؛ من أنَّهم يحرِّموا أو يحللوا، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا؛ لأنَّه من آمن بالله، لزمه طاعته، ومن آمن باليوم الآخر، لزمه القيام بما وجب عليه، واجتناب ما نُهي عنه مخلصًا خوف الحساب عليه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا" يسفك -بكسر الفاء، وحكي ضمّها- ومعناه: يسيله.

"وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً"، والعَضْد: القطع، يقال: عَضَد بفتح الضَّاد، يعضِد بكسرها، وهذا الخطاب عند علماء البيان، من باب خطاب التَّهييج، ومقتضاه: أن استحلالُ هذا المنهيِّ عنه لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر، بل ينافيه، فهذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف، ولو قيل: لم يحل لأحد مطلقًا، لم يحصل فيه هذا الغرض.

ومن خطاب التَّهييج قوله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، وغير ذلك مما يناسبه من الآيات.

وقد توهَّم بعض أصحاب الأصول: أنَّ هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ" إلى آخره، يدل على نفي الكفَّار، وأنَّهم ليسوا مخاطبين بفروع الشَّرع، والصَّحيح عند الأصوليين أنَّهم مخاطبون.

والجواب عن هذا التَّوهم: أنَّ ذكر وصف الإيمان بالله واليوم الآخر للشَّخص، هو المحصّل للإيمان له، والمؤمن هو الَّذي ينقاد لأحكام الشَّرع،

ص: 971

وينزجر عن محرَّماته، ويستثمر الأحكام منه، فجعل الكلام فيه، لا أنَّ غيره من الكفَّار ليس مخاطبًا بالفروع، كيف وخطابه بهذه الكيفيَّة؛ إنَّما هو للتَّهييج إلى عدم استحلال المحرَّم وتحريم المحلل، واستقباح ذلك من المؤمن، والله أعلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بقتالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم" إلى آخره يقتضي هو وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ"(1) وجودَ قتال منه صلى الله عليه وسلم، وأن مكَّة فتحت عنوةً، وهو مذهب أبي حنيفة، والكثيرين، أو الأكثرين.

وقال الشافعي رحمه الله، وغيره: فتحت صلحًا، وتأولوا الحديث على أن القتال كان جائزًا له صلى الله عليه وسلم فيها لو احتاج إليه، لكنه ما احتاج إليه، ولو احتاج إليه، لفعله، وضعَّف ذلك، واستبعده جماعة بما ذكرنا أوَّلًا.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ": كل من حضر شيئًا، وعاينه، فقد شهده، وقيل له: شاهد. والغائب: من غاب عنه. وهذا اللَّفظ جاءت به أحاديث كثيرة، وقد أمر الله عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم في كتابه بالتَّبليغ، وحثَّ عليه في غير آيةٍ؛ من النَّصيحة لله ورسوله، وإقامة الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وفي قوله عز وجل:{إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التَّوبة: 9]، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النَّساء: 64]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة: 66]، ومن جملة ذلك كلِّه البلاغ، والله تعالى أعلم.

وقولُ عمرٍو لأبي شريحٍ: "أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ" إلى آخره: هو كلامه، ولم يسنده إلى رواية.

وقوله: "لا يعيذ عاصيًا"؛ أي: لا يعصمه.

وقوله: "وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ"، الخَرْبَةُ -بفتح الخاء المعجمة وسكون الرَّاء، ويقال بضمِّ الخاء- وأصلها: سرقة الإبل؛ كما قال المصّنف، وقد فسَّرها بالبليَّة والتُّهمة على وجهين:

(1) رواه مسلم (1780)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 972

الأوَّل: في "صحيح البخاري": ويطلق على كل خيانةٍ، سواء كانت في الإبل أو غيرها. وقال الخليل: هي بالضم: الفساد في الدِّين، من الخارب؛ وهو اللِّص المفسد في الأرض، وقيل: هي العيب، والله أعلم.

وفي هذا الحديث أحكام كثيرة:

منها: حسن الأدب في مخاطبة الكبار، لا سيَّما الملوك والأمراء، لا سيما فيما يخالف مقصودهم.

ومنها: التنبيه على قبول علم الإنسان بحفظه ووعيه ومعاينته ممَّن أخذه منه؛ ليكون أدعى إلى قبوله والتَّمسك به محقَّقًا.

ومنها: أنَّ الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي امتثال أمر الله تعالى، واجتناب نهيه، وخوف الحساب على ذلك، ورجاء الثَّواب عليه.

ومنها: أنَّ الرُّجوع في كلِّ حالة دنيوية وأخروية إلى الشَّرع، وأنَّ ذلك لا يعرف إلَّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه وتقريره.

ومنها: النَّصيحة لولاة الأمور ومناصحتهم، وعدم الغش لهم، والإغلاظ عليهم.

ومنها: الخطبة للأمور المهمة والأحكام العامَّة.

ومنها: وجوب حمد الله تعالى والثَّناء عليه في الخطبة.

ومنها: عظم قدر مكَّة.

[ومنها: أنَّ التَّحريم والتَّحليل إنَّما هو من عند الله تعالى، وأنَّ النَّاس ليس لهم فيه مدخل](1).

ومنها: تحريم مكَّة، واختلف العلماء في ابتداء تحريمها، فقال الأكثرون: لم تزل محرَّمة من يوم خلق الله السموات والأرض.

وقيل: ما زالت حلالًا إلى زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كغيرها، ثمَّ ثبت لها التَّحريم من

(1) ما بين معكوفين ساقط من "ح".

ص: 973

زمن إبراهيم، واستدلَّ للقول الأوَّل بقوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هذا البلدَ حرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السمواتِ والأرضَ"(1)، واستدلَّ للقول الثَّاني بقوله صلى الله عليه وسلم:"إِن إبراهيمَ حرَّمَ مكَّة"(2).

وأجاب الأكثرون عن هذا الثَّاني: بأنَّ تحريمها كان ثابتًا يوم خلق الله السموات والأرض، ثمَّ خفي تحريمها، ثم أظهره إبراهيم صلى الله عليه وسلم وأشاعه؛ لا أنه ابتدأه.

وأجاب من قال بالقول الثَّاني عن الأوَّل: بأنَّ معناه: أنَّ الله تعالى كتب في اللَّوح المحفوظ أو غيره يوم خلق الله السموات والأرض: أنَّ إبراهيم سيحرّم مكَّة بأمر الله تعالى، والله أعلم.

ومنها: ما أكرم الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من تحليل القتال له بمكة ساعةً من نهار، وأنَّه استمرَّ تحريمها إلى يوم القيامة.

ومنها: تحريم القتال بمكة.

قال أبو الحسن الماورديُّ، صاحب كتاب "الحاوي" في كتابه "الأحكام السُّلطانية" (3): من خصائص حرم مكَّة: أن لا يحارب أهله، فلو بغى أهله على أهل العدل، فإن أمكن ردُّهم عن البغي بغير قتالٍ، لم يجز قتالهم، وإن لم يمكن ردُّهم عن البغي إلَّا بالقتال، فقال جمهور الفقهاء: يقاتلون؛ لأنَّ قتال البغاة من حقوق الله عز وجل الَّتي لا يجوز إضاعتها، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها، وهذا هو الصَّواب الَّذي نصَّ عليه الشَّافعيُّ في "الأمِّ"، في: اختلاف الحديث، منه، وفي "سير الواقديِّ" منه.

وقال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم، ويضيَّق عليهم حتَّى يرجعوا إلى الطَّاعة،

(1) سيأتي تخريجه قريبًا.

(2)

رواه البخاري (2022)، كتاب: البيوع، باب: بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم (1360)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.

(3)

انظر: "الأحكام السلطانية" للماوردي (ص: 260).

ص: 974

ويدخلوا في أحكام أهل العدل، قال القفَّال: في "شرح التلخيص" في أول كتاب: النكاح، في ذكر الخصائص: لا يجوز القتال بمكة، قال: حتَّى لو تحصَّن جماعة من الكفَّار بمكَّة، لم يجز، فإنَّه يحرم بها قتالهم فيها. وهذا غلط ينبغي أن يعرف، ولا يغترَّ به (1).

وأجاب الشَّافعيُّ رحمه الله في "سير الواقدي" عن الأحاديث بأنَّ معناها: تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعمُّ؛؛ كالمنجنيق وغيره، إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك، بخلاف ما إذا تحصَّن الكفَّار ببلدٍ آخر، فإنَّه يجوز قتالهم على كل وجه، وبكلِّ شيءٍ، والله أعلم.

قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد القاضي رحمه الله (2): وأقول: هذا التَّأويل على خلاف الظَّاهر القويِّ، الَّذي دلَّ عليه عموم النكرة في سياق النَّفي، في قوله صلى الله عليه وسلم:"فلا يحلُّ لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك بها دمًا"، وأيضًا فإن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن خصوصيَّة إحلالها له ساعة من نهار بأن قال:"فَإنْ أَحَدٌ ترخَّصَ بقتالِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إنَّ اللهَ أَذِنَ لِرسُولِهِ وَلَمْ يَأذَنْ لَكُمْ"، فأبان بهذا اللَّفظ أن المأذون للرَّسول فيه لم يؤذن فيه لغيره، والذي أذن للرَّسول عليه السلام فيه إنما هو مطلق القتال، ولم يكن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم؛ كما حمل عليه الحديث في هذا التَّأويل. و -أيضًا- فالحديث وسياقه يدلُّ على أنَّ هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها، وسفك الدَّم، وذلك لا يختصُّ بما يستأصل، وأيضًا فتخصيص الحديث بما يستأصل ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه لأن يحمل عليه الحديث، فلو أنَّ قائلًا أبدى معنى آخر، وخصَّ به الحديث، لم يكن بأولى من هذا. هذا آخر كلامه، والله أعلم.

ومنها: أنَّ الملتجئ إلى الحرم، إذا وجب عليه قتل، لا يقتل به، وبه قال

(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (9/ 125).

(2)

انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 25 - 26).

ص: 975

أبو حنيفة وأحمد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا"، وهذا عام، تدخل فيه صور النِّزاع، قال أبو حنيفة: بل يُلجأ إلى أن يخرج من الحرم، فيُقتل خارجه، وذلك بالتَّضييق عليه.

ومنها: تحريم قطع شجر الحرم، واتَّفق العلماء عليه فيما لا يستنبته الآدميون في العادة، سواء كان له شوك يؤذي، أم لا، وسواء الكلأ، وغيره، وقال جمهور أصحاب الشَّافعيِّ: لا يحرم قطع الشَّوك؛ لأنَّه مؤذ، فأشبه الفواسق الخمس، ويخصون الحديث بالقياس، واختار المتولِّي من الشَّافعية التحريم مطلقًا، وهو الصَّحيح.

وأمَّا ما يستنبته الآدميون، ففيه خلاف للفقهاء، فلو قطع ما يحرم قطعه، هل يضمنه؟ قال مالك: يأثم، ولا فدية عليه، وقال الشَّافعيُّ، وأبو حنيفة: عليه الفدية، واختلفا فيها، فقال الشَّافعيُّ: في الشَّجرة الكبيرة بقرة، وفي الصَّغيرة شاة، وكذا جاء عن ابن عباس، وابن الزُّبير، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: الواجب في الجميع: القيمة، قال الشَّافعيُّ: ويضمن الخلا بالقيمة.

ويجوز عند الشَّافعيِّ ومن وافقه رعيُ البهائم في كلأ الحرم، وقال أبو حنيفة، وأحمد، ومحمَّد: لا يجوز، والله أعلم.

ومنها: أنَّ مكَّة فتحت عنوةً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ"، وقال الشَّافعيُّ وغيره: فتحت صلحًا، وتقدَّم ذلك وتأويله.

ومنها: التَّصريح بوجوب نقل العلم وإشاعته، خصوصًا الأحكام والسُّنن، وهذا مجمع عليه.

ومنها: أنَّ الاعتصام إنَّما هو بالشَّرع واتباعه، وأنَّ الأماكن الشريفة ونحوها من الأنساب والخلفاء لا يمنع من حقٍّ أوجبه الله عز وجل، ولا يعيذ من حدوده وعقابه.

* * *

ص: 976