الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صدقة الفطر
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: فَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الفِطْرِ -أَوْ قَالَ: رَمَضَانَ- عَلَى الذَّكَرِ والأُنْثَى، والحُرِّ وَالمَمْلُوكِ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، قَالَ: فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاع مِنْ بُرٍّ، عَلَى الصَّغِيرِ والْكَبِيرِ.
وفي لفظ: أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ (1).
أما عبد الله بن عمر، فتقدم ذكره.
وأما قوله: "فرض"، فمعناه عند جمهور السلف والخلف من العلماء: أوجب وألزم، وإن كان أصله في اللغة بمعنى قَدَّر، لكنه نُقل في عرف الاستعمال إلى الوجوب، فالحملُ عليه أولى؛ لأن ما اشتهر في الاستعمال، فالقصد إليه هو الغالب، فحينئذ زكاة الفطر فرضٌ واجب عندهم؛ لدخولها في عموم قوله تعالى:{وَءَاتُوْا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، ولقوله:"فرض"، وهو غالب في استعمال الشرع بهذا المعنى.
قال إسحاق بن راهويه: إيجاب زكاة الفطر بالإجماع.
وقال بعض أهل العراق، وبعض أصحاب مالك، وبعض أصحاب الشافعي،
(1) رواه البخاري (1432)، كتاب: صدقة الفطر، باب: فرض صدقة الفطر، ومسلم (984)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.
وداود في آخر أمره: إنها سنة ليست واجبة؛ لأن فرض بمعنى قدر على سبيل الندب، وقال أبو حنيفة: هي واجبة ليست فرضًا، بناء على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض.
قال القاضي عياض: وقال بعضهم: الفطرة منسوخة بالزكاة.
قال شيخنا أبو زكريا النواوي رحمه الله: هذا غلط صريح، والصواب أنها فرض واجب (1).
وقوله: "صدقةَ الفطر، أو قال: رمضان" مقتضاه إضافة هذه الزكاة إلى الفطر من رمضان، لا بغير وقت وجوبها؛ لعدم استلزام اللفظ ذلك، بل يقال: بالوجوب من قوله: فرض، ويؤخذ وقت الوجوب من أمر آخر.
وقال ابن قتيبة: معنى صدقة الفطر؛ أي: صدقة النفوس، والفطرة أصل الخلقة (2)، وهذا بعيد مردود؛ لقوله في "صحيح مسلم":"فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان".
واختلف العلماء في وقت وجوبها، فالصحيح من قول الشافعي: أنها تجب بغروب الشمس، ودخول أول جزء من ليلة عيد الفطر، والثاني: تجب بطلوع الفجر ليلة العيد، وقال بعض أصحابه: تجب بالغروب والطلوع معًا، فإن ولد مولود بعد الغروب، أو مات قبل الطلوع، لم تجب، وعن مالك روايتان كالقولين، وعند أبي حنيفة: تجب بطلوع الفجر.
وسبب هذا الخلاف أن الشرع قد أضاف هذه الزكاة للفطر، وهل هو الفطر المعتاد في سائر الشهر، فيكون الوجوب من وقت الغروب، أو الفطر المعتاد في كل يوم فيكون من طلوع الشمس، أو المراد أول الفطر المأمور به يوم الفطر، فيكون من طلوع الفجر؟ لكن لم أعلم أحدًا قال بوجوبها عند طلوع الشمس يوم الفطر، بل قال أصحاب الشافعي: الأولى أن تخرج يوم الفطر قبل صلاة العيد،
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 58).
(2)
انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (1/ 184).
وكان سبب الإخراج للفطرة أن صوم رمضان عبادة تطول ويشق التحرز فيها من أمور تفوِّت كمالَها، فجعل الشرع فيها كفارة مالية بدل النقص؛ كالهدي في الحج والعمرة، وكذلك الفطرة؛ لما يكون في الصوم من لغو وغيره، وقد جاء في حديث آخر:"أنها طهرةٌ للصائم من اللغو والإثم"(1)، فإن قيل: فقد وجبت على من لا إثم عليه ولا ذنب؛ كالصغير، والصالح المحقَّقِ الصلاح، والكافر الَّذي أسلم قبل غروب الشمس بلحظة، قلنا: التعليل بالتطهير لغالب الناس، كما أن القصر في السفر جُوَّز للمشقة، فلو وُجد من لا مشقة عليه، فله القصر، وهو أفضل، أو هو واجب عند بعضهم.
وأما الصاع: فهو مكيال معروف، وتقدم ذكره وضبطه في أبواب الطهارة، وخالف فيه أبو حنيفة رحمه الله، وجعل الصاع ثمانيةَ أرطال، واستدل مالك بنقل الخلف عن السلف بالمدينة، وهو استدلال قوي صحيح في مثل هذا، ولمَّا ناظر أبو يوسف بحضرة الرشيد في هذه المسألة، رجع أبو يوسف إلى قوله لما استدل بما ذكرناه.
وقوله: "فعدل الناس به نصف صاع من بر"، الضمير في (به) عائد على التمر، ومعناه: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كلم الناس على المنبر فقال: إني أرى أن مُدَّين من سمراءِ الشام تعدلُ صاعًا من تمر، فأخذ الناسُ بذلك، قال أبو سعيد الخدري: أما أنا، فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدًا ما عشت (2)، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله أنه يخرج نصف صاع من حنطة أو زبيب، وخالفه الجمهور ومالك والشافعي، فقالوا: الواجب من ذلك صاع أيضًا؛ لحديث أبي سعيد الآتي بعد هذا: كنا نخرج زكاة الفطر في زمان
(1) رواه أبو داود (1609)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر، وابن ماجة (1827)، كتاب: الزكاة، باب: صدقة الفطر، والحاكم في "المستدرك"(1488)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 162)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
سيأتى تخريجه قريبًا.
رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب.
والدلالة فيه من وجهين:
أحدهما: أن الطعام في عرف أهل الحجاز اسمٌ للحنطة خاصة، لا سيما وقد قرنه بباقي المذكورات.
الثاني: أنه ذكر أشياء قيمتها مختلفة، وأوجب في كل نوع منها صاعًا، فدل على أن المعتبر صاع، ولا نظر إلى قيمته، ووقع في رواية أبي داود: أو صاعًا من حنطة، قال: وليس بمحفوظ (1)، وليس للقائلين بنصف صاع حجة إلا حديث معاوية، ولا يمكن أن يجعل إجماعًا بقول الراوي: فعدل الناس فيه نصف صاع، على هذا الحكم، ويقدم على خبر الواحد في حديث أبي سعيد؛ فإنه ملحق بالمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى مثله عنه، ولا يذكره الراوي في معرض الاحتجاج إلّا وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن الإجماع وقع على إخراج صاع في غير الحنطة والزبيب؛ كيف والمروي عن معاوية قول صحابي قد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة منه وأعلمُ بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا اختلفت الصحابة به، لم يكن بعضهم أولى من بعض، فيرجع إلى دليل آخر، وظاهر الأحاديث والقياس متفقة على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها، فوجب اعتماده، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه، لا أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه -مع كثرتهم تلك اللحظة- علمٌ في موافقة معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذكره؛ كما جرى لهم في غير هذه القضية.
وقوله: "على الذكر والأنثى، والحر والمملوك"، مقتضى هذا اللفظ وجوبُ إخراج الفطرة عن هؤلاء المذكورين، وإن كانت لفظة (على) تقتضي الوجوب عليهم نفسهم ظاهرًا، وقد اختلف الفقهاء في الَّذي يخرج عنهم، هل باشرهم الوجوب أولًا، والمخرِجُ عندهم بتحمله، أو الوجوب بلا في المخرج أولًا؟
(1) رواه أبو داود (1616)، كتاب: الزكاة، باب: كم يؤدى في صدقة الفطر؟
وهما وجهان أو قولان في مذهب الشافعي، فمن قال بمباشرة الوجوب للمذكورين أولًا، أخذ بظاهر الحديث؛ حملًا للفظة (على) مقتضاها ومن قال بلا في الوجوب المخرج أولًا، تأول لفظة (على) معنى (عن).
ثم قوله: "الذكر والأنثى" إلى آخره، يقتضي عموم الإخراج عن كل غني وفقير، فمن تعلق الوجوب به، وهو كونه من المسلمين كما قيد في الصحيح، خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه؛ حيث قالوا: لا يلزم من يحل له أخذها، وورد هذا الحديث لبيان مقدار الفطرة، ومن تقدر عليه، ولم يتعرض فيه لبيان من يخرجها عن نفسه ممن يخرجها عن غيره، بل يشمل الجميع؛ إذ قد ذكر فيهم الحر والمملوك، ولم يفرق بين صغير وكبير، فأما الصغير، فلا خلاف عند من يقول: إنها تخرج بسببه أن وليه هو الَّذي يخاطَب بإخراجها؛ إذ الصبي لم يجر عليه بعدُ قلمُ التكليف، وأما المملوك، فمذهب الجمهور أنه ليس مخاطبًا بها؛ لأنه لا شيء له، ولو كان له مال، فسيده قادر على انتزاعه، خلافًا لداود؛ فإنه أوجبها على المملوك؛ تمسكًا بلفظ المملوك المذكور في الحديث، وقال: على سيده أن يتركه قبل الفطر، فيكتسب ذلك القدر، وليس له منعه من ذلك في تلك المدة، كما لا يمنعه من صلاة الفرض.
ثم إذا تنزلنا على قول في أنه لا يجب عليه شيء، فهل يخاطب السيد بإخراجها عنه، أم لا؟ جمهورهم أيضًا على أنه يجب ذلك عليه؛ لأنه يلزمه نفقته ومؤنته، وهذه من جملة المؤن؛ فإن المخاطب بإخراجها المكلفُ الواجد لها حين الوجوب عن نفسه وعمَّن تلزمه نفقته؛ بدليل ما رواه الدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن تمونون (1)، والذي في "صحيح مسلم" من حديث
(1) رواه الدارقطني في "سننه"(2/ 141)، وقال: رفعه القاسم، وليس بقوي، والصواب: موقوف، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 161).
ورواه الإمام الشافعي في "مسنده"(ص: 93)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 161)، عن جعفر بن محمد، عن أبيه.
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا نخرج إذ كان فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطر عن كل صغير وكبير، حر ومملوك (1)، فصرح فيه بأنهم كانوا مخاطبين بإخراج زكاة الفطر عن غيرهم، وذلك الغير لا بد أن يكون بينه وبين المأمور بالإخراج ملابسة، وتلك الملابسة هي تكون مثل الملابسة التي بين الصغير ووليه، والعبد وسيده، وهو القيام بما يحتاج إليه كل واحد منهما من المؤن، والله أعلم.
قال القاضي عياض رحمه الله: واختلف في النوع المخرَج، فأجمعوا على أنه يجوز البر والزبيب والتمر والشعير، إلا خلافًا في البر لا يعتد بخلافه، وخلافًا في الزبيب لبعض المتأخرين، وكلاهما مسبوق بالإجماع، مردودٌ قولُه به (2).
وأما الأَقِط: فأجازه مالك والجمهور، ومنعه الحسن، واختلف فيه قول الشافعي، وقال أشهب: لا يخرج إلا هذه الخمسة، وقاس مالك على الخمسة كلَّ ما هو عيشُ أهل بلد من القطاني، وعن مالك قول آخر: أنه لا يجزئ غيرُ المنصوص في الحديث، وما في معناه، ولم يجز عامة العلماء إخراجَ القيمة، وأجازه أبو حنيفة، وقال الشافعي: جنس الفطرة كل حب وجب فيه العشر، ويجزئ الأقِط على الراجح، وهو المذهب.
والأصح: أنه يتعين غالب قوت بلده، والثاني: يتعين قوت نفسه، والثالث: يتخير بينهما، فإن عدل عن الواجب إلى أعلى منه، أجزأه، وإن عدل إلى ما دونه، لم يجزئه.
ثم ظاهر الحديث أنها لا تجب إلا على القرى والأمصار والبوادي والشعاب، وكل مسلم حيث كان، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وجماعة العلماء، وعن عطاء، والزهري، وربيعة، والليث: أنها
(1) رواه مسلم (985)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (7/ 60).
لا تجب إلا على الأمصار والقرى دون البوادي.
وفي هذا الحديث فوائد وأحكام:
منها: وجوب صدقة الفطر، وتقدم اختلاف العلماء في وجوبها.
ومنها: جواز قول: رمضان، من غير إضافته إلى (شهر) من غير كراهة، واختلف السلف في كراهته.
ومنها: وجوب الفطرة على الزوجة نفسها، ويلزم إخراجها من مالها؛ حيث قال: على الأنثى، وهو مذهب الكوفيين، وقال مالك والشافعي والجمهور: يلزم الزوجَ فطرةُ زوجته؛ لأنها تابعة للنفقة، وأجابوا عن الحديث ما أجابوا لداود في فطرة العبد.
ومنها: من مفهومه لا من منطوقه أنها لا تخرج إلا عن مسلم، فلا تخرج عن عبد وزوجة وولد ووالد كفار فقراء، وإن وجبت نفقتهم حيث يقول به، وهو قول مالك، والشافعي، وجماهير العلماء، وقال الكوفيون، وإسحاق، وبعض السلف: تجب عن العبد الكافر، وتأول الطحاوي قوله في بعض الأحاديث: من المسلمين، على أن المراد به السادة دون العبيد، وهو مردود بظواهر الأحاديث.
ومنها: وجوب إخراج الصاع من كل نوع مخرَج، وتقدم الكلام والاختلاف فيه.
ومنها: أنه لا يجوز تأخير الفطرة عن يوم العيد، وهو مذهب الشافعي والجمهور، فلو أخرجها بالنية، وعينها لمستحقها، ولم يتفق له قبضها، جاز؛ لأنها لم تؤخر عن يوم العيد في المعنى، نص على ذلك أصحاب الشافعي.
ومنها: أن الأفضل إخراجُها قبل الخروج إلى المصلى، ويجوز إخراجها في جميع رمضان؛ كتقديم الزكاة على الحول، والله أعلم.
ومنها: أن الاجتهاد والعمل به لا ينفذ مع وجود النص أو الظاهر المعمول به؛ فإنه تُرك اجتهاد معاوية في تعديل البر، وعُمل بالنص، أو الظاهر الموصوف.