الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما يجوز قتله
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، كُلُّهُنَّ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالحِدَأَةُ، وَالعَقْرَبُ، والفَأْرَةُ، وَالكَلْبُ العَقُورُ"(1).
ولمسلم: "يُقْتَلُ خَمْسٌ فَوَاسِقُ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ"(2).
اعلم: أنَّ مسلمًا رحمه الله زاد في بعض روايات هذا الحديث: الحيَّة، ولم يذكر العقرب، وذكر في بعضها: العقرب بدل الحيَّة، فيصير المنصوص عليه منها ستًّا.
ووصفت بالفسق؛ [لخروجها جميعًا بالإيذاء والفساد عن طريق معظم الدَّواب](3)، وقيل: لخروجها عن حكم سائر الحيوان في تحريم قتله في الحرم والإحرام بجوازه، وأصل الفسق في كلام العرب: الخروج، وسُمِّي الرَّجل الفاسق فاسقًا؛ لخروجه عن أمر الله عز وجل وطاعته، وأكَّد فسقهنَّ بكلٍّ،
(1) رواه البخاري (1732)، كتاب: الإحصار وجزاء الصيد، باب: ما يقتل المحرم من الدواب، ومسلم (1198)، (2/ 857)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم.
(2)
رواه مسلم (1198)، (2/ 856)، كتاب: الحج، باب: ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، بلفظ: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم
…
".
(3)
ما بين معكوفين ليس في "ح 2".
ووصفهنَّ به تنبيهًا على إيذائهنَّ، وعدم حرمتهنَّ، وإباحة قتلهنَّ في مواضع تحريم قتل غيرهنَّ من الدَّواب.
والمراد بالحرم؛ ما أطاف بمكة -شرَّفها الله تعالى-، وأحاط بها من جوانبها، جعل الله عز وجل له حكمها في الحرمة تشريفًا لها، وهو محدود معروف عليه علامات من جوانبه كلّها، ومنصوب عليه أنصاب.
وذكر الأزرقيُّ في "تاريخ مكَّة"(1)، بأسانيده، وغيرُه: أنَّ إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم عملها، وجبريل صلى الله عليه وسلم يريه مواضعها، ثمَّ أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتحديدها، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ معاوية رضي الله عنهم، وهي إلى الآن بيته، ولله الحمد.
والمراد بالحلِّ: ما عدا ذلك، وقد ثبت في إباحة قتلهنَّ في الإحرام أيضًا رواية في "صحيح مسلم"، والله أعلم.
وقوله في رواية مسلم: "يُقْتَلُ خَمْسُ فَوَاسِقَ"، هو بإضافة خمس، لا بتنوينه، وقد روى مسلم أيضًا:"خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ"، ففي خمس هنا وجهان: أحدهما، وهو المشهور: تنوينه، وفواسقُ صفة له، والثَّاني: إضافته إلى فواسقَ من غير تنوين.
والرواية الأولى في الكتاب تدلُّ للمشهور من رواية التَّنوين، من غير إضافة إلى فواسق؛ فإنه أخبر عن خمس بقوله: كلُّهن فواسقُ، وذلك يقتضي أن ينون خمس، وينوَّن فواسق أيضًا، وبين التَّنوين والإضافة في هذا فرقٌ دقيقٌ، وهو: أنَّ التَّنوين يقتضي مداخلة الفسق لهنَّ، فيصير كأنَّه جملتهنَّ، بخلاف الإضافة؛ فإنَّها قد تقتضي ذلك، وقد لا تقتضيه.
وقد مثَّلوا ذلك في قولهم: رجلٌ عدلٌ وصومٌ، بالتَّنوين والإضافة. وقالوا: التَّنوين أبلغ، والله أعلم.
وَأمَّا الغُرَابُ: فهو مفرد، وله جموع، نظمها شيخنا أبو عبد الله بن مالك الجياني -رحمة الله عليه- في بيتٍ:
(1) انظر: "تاريخ مكة" للأزرقي (ص: 128) وما بعدها.
بالغُرُبِ اجمعْ غُرَابًا ثمَّ أَغْرِبَةٌ
…
وأَغْرُب وغَرَابِينَ وغِرْبان (1)
وفي "صحيح مسلم": "الغُرَابُ الأَبْقَعُ"، وهو الذي في ظهره وبطنه بياض.
وأمَّا العقرب: فهي مؤنَّثة. ويقال -أيضًا-: عقربة، وعقرباء، وللذَّكر عُقرُبان، بضمِّ العين والرَّاء.
وأمَّا الحِدَأَة: فهي بكسر الحاء المهملة، مقصورة، وبالهاء، وجمعها حِدَأ، كذلك، بغير هاء كعِنَبة وعنب. وفي رواية في مسلم:"الحُدَيَّا"(2) بضمِّ الحاء، مقصور مشدد الياء.
وأمَّا الفَأْرَةُ: فهي مهموزة، ويجوز تسهيلها، معروفة.
وأَمَّا الكَلْبُ العَقُورُ: فالمراد به هذا المعروف، وحمله زفر على الذِّئب وحده، وعدَّاه الجمهور إلى كلِّ عادٍ مفترس غالبًا، ومعنى العقور: العاقر الخارج.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: جواز قتل هذه المذكورات السِّت، في الحلِّ والحرم والإحرام، واتَّفق على ذلك جماهير العلماء.
ونقل عن مجاهدٍ: أنَّه لا يقتل الغراب، ولكن يرمى، وروي عن عليٍّ، وليس بصحيح.
واختلف العلماء في معنى جواز قتلهنَّ، مع اتِّفاقهم على أنَّه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهنَّ، فقال الشَّافعيُّ: المعنى فيه كونهنَّ غير مأكولاتٍ؛ فكلُّ ما لا يؤكل، ولا هو متولد من مأكول وغيره، فقتلُه جائز للمحرم، ولا فدية عليه.
وقال مالك: المعنى فيهنَّ: كونهنَّ مؤذيات، فكلُّ مؤذٍ يجوز للمحرم قتله،
(1) وانظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 170).
(2)
رواه البخاري (3136)، كتاب: بدء الخلق، باب: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم، ومسلم (1198)، (6/ 852).
وما لا، فلا، ومقتضى المذهبين المذكورين: التَّعدية عن المذكورات، وفي كتب الحنفية الاقتصارُ عليهن وعدمُ التَّعدية.
ونُقل عن غير واحدٍ من المخالفين لأبي حنيفة عنه: أنَّه ألحق الذِّئب بها، وعدُّوا ذلك من مناقضاته.
قال شيخنا القاضي أبو الفتح بن دقيق العيد رحمه الله (1): وهذا عندي فيه نظر؛ فإنَّ جواز القتل غير جواز الاصطياد، وإنَّما يرى الشَّافعيُّ جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل بغير المأكول. وأمَّا جواز الإقدام على قتل كلِّ ما لا يؤكل مما ليس فيه ضرر، فغير هذا، ومقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله الَّذي حكيناه: أنَّه لا يجوز اصطياد الأسد والنَّمر وما في معناهما من بقية السِّباع العادية.
وأصحاب الشَّافعيِّ يردُّون هذا؛ بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس، وهو الأذى الطَّبيعي، والعدوان المركَّب في هذه الحيوانات. وإذا ظهر المعنى في المنصوص عليه، عدَّاه القائسون إلى كلِّ ما وجد منه المعنى في ذلك الحكم كما في الأشياء السِّتَّة الَّتي في باب الرِّبا.
وقد وافق أبو حنيفة في التَّعدية فيها، وإن اختلف هو والشَّافعيُّ في المعنى الَّذي يعدَّى به، قال: وأقول: المذكور ثَمَّ هو تعليق الحكم بالألقاب، وهو لا يقتضي مفهومًا عند الجمهور.
فالتَّعدية لا تنافي مقتضى اللَّفظ، والمذكور هنا مفهوم عدد، وقد قال به جماعةٌ، فيكون اللَّفظ مقتضيًا للتَّخصيص، وإلَّا بطلت فائدة التَّخصيص بالعدد، وعلى هذا عوَّل مصنِّفو الحنفيَّة في التَّخصيص بالخمس المذكورات -أعني: مفهوم العدد-، وذكر غير ذلك مع هذا -أيضًا-.
واعلم: أنَّ التّعدية بمعنى الأذى في كلِّ مؤذٍ قويٌّ، بالإضافة إلى تصرف القائسين؛ فإنَّه ظاهر من جهة الإيماء بالتَّعليل بالفسق؛ وهو الخروج عن الحدِّ.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق (3/ 33 - 35).
وأمَّا التَّعليل بجهة الأكل: ففيه إبطال ما دلَّ عليه إيماء النَّص من التَّعليل بالفسق؛ لأنَّ مقتضى العلَّة أن يتقيَّد الحكم بها وجودًا وعدمًا. فإذا لم يتقيَّد، وثبت الحكم حيث يعدم؛ بطل تأثيرها بخصوصيَّتها في الحكم؛ حيث ثبت الحكم مع انتفائها، وذلك خلاف ما دلَّ عليه النَّص من التَّعليل بها.
ومنها على مذهب من قال بالتَّعدية: جوازُ قتل كلِّ مشارك للمذكورات في الأذى، سواء كان المشارك يلسع أم لا؛ كالبرغوث، أم ينقب، أو يعرض بالأذى؛ كابن عرس، أو يخطف؛ كالصقر والبازي، أم عادٍ بطبعه؛ كالأسد والفهد والنَّمر.
وتكون الدَّلالة على المذكورات من باب التَّنبيه على أنواع الأذى، وهو مختلف؛ فأذى الحيَّة والعقرب باللَّسع، والفأرة بالفساد، والغراب والحدأة بالاختطاف، والكلب العقور بالاعتداء بالطَّبع.
والذي قاله بالتَّعدية إلى كل ما لا يؤكل، أحال التَّخصيص في ذكر المذكورات في الحديث، دون غيرها؛ للغلبة في الملابسة للنَّاس، والمخالطة في الدُّور؛ بحيث إنَّه يعم أذاها، وذلك كلُّه سببٌ للتَّخصيص، والتخصيص بالغلبة ليس له مفهوم على ما عرف في الأصول، إلَّا أنَّ خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضًا عليهم في تعديته الحكم إلى بقية السِّباع المؤذية، وتقريره: أنَّ إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق قياسًا، شرطُه مساواة الفرع للأصل، أو رجحانه، أمَّا إذا تعذر الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر، فلا إلحاق.
ولمَّا كانت هذه الأشياء عامَّة الأذى، كما ذكرتم، ثمَّ أمكن أن يكون ذلك سببًا لإباحة قتلها؛ لعموم ضررها، وهذا المعنى معدوم فيما لا يعمُّ ضرره؛ ممَّا لا يخالط في المنازل، فلا تدعو الحاجة إلى إباحة قتلها، كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات، فلا يلحق به، وأجاب الأولون عن هذا بوجهين:
أحدهما: أنَّ الكلب العقور أذاه نادر، وقد أبيح قتله.
والثَّاني: معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوَّة الضَّرر.
ألا ترى أنَّ تأثير الفأرة بالفساد مثلًا، والحدأة بالخطف، شيء يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس، فكان إباحة القتل أولى، وهذا كلُّه يرجع إلى دلالة التَّنبيه، وهو بالأدنى على الأعلى جائزٌ اتِّفاقًا، وبالأعلى على الأدنى جوازه مرجوح، والله أعلم.
قال أصحاب الشَّافعيِّ رحمهم الله: للمحرم تنحية القمل من بدنه وثيابه، ولا كراهة في ذلك، وله قتله، ولا شيء عليه، بل يستحبُّ للمحرم قتله، كما يستحبُّ لغيره. قالوا: ويكره للمحرم أن يفلِّي رأسه ولحيته، فإن فعل، فأخرج منها قملة وقتلها، تصدَّق، ولو بقملةٍ، نصَّ عليه الشَّافعيّ.
واختلف الأصحاب في هذا التَّصدق على وجهين:
أرجحهما: أنَّه مستحبٌّ.
والثَّاني: واجب؛ لما فيه من إزالة الأذى عن الرَّأس واللحية، وكان هذا الوجه يحتجّ إلى منع التَّعدية، في جواز قتل ما سوى السِّت المذكورات في الحديث، ولعلَّ الشَّافعيّ إنَّما أمر بالتصدق استحبابًا، خروجًا من الخلاف، لا وجوبًا، والله أعلم.
ومنها: جواز قتل الكلب العقور، واختلف العلماء في المراد به كما تقدَّم، جمهورُ العلماء على أنَّ المراد به: كلُّ عادٍ مفترسٍ، واستدلُوا على ذلك؛ بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبةَ بنِ أبي لهب بأن يسلَّط عليه كلبٌ من كلابه (1)، افترسه سبع، فدل على تسميته بالكلب.
ورجّح من قال: إنَّ المراد به الكلب الإنسي المتخذ بأنْ يسميه غيره به، خلاف العرف، وإذا نقل اللَّفظ من المعنى اللُّغوي إلى المعنى العرفيِّ، كان حمله عليه أولى، لكن هذا عند الإطلاق من غير نظرٍ إلى قرينةٍ تقوِّي أحدهما، أمَّا إذا عقلت القرينة، كان ما اقترنت به أولى، سواء اقترنت باللُّغوي أو العرفيِّ، والله أعلم.
(1) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 641) و (7/ 641 - 642).
ومنها: جواز قتل صغار هذه المذكورات؛ لعموم الحديث.
وقد اختلف المالكيَّة في قتل صغار الغراب والحدأة على قولين: أشهرهما: القتل، فأمَّا من منع قتلها، فاعتبر الصِّفة التي علَّل القتل بها، وهي الفسق، على ما شهد به إبهام اللَّفظ، وهو معدوم في الصِّغار حقيقة، والحكم يزول بزوال علَّته؛ وكذلك عندهم في صغار الكلب قولان أيضًا، لكنَّ عدم القتل فيه أولى؛ لأنَّه أبيح قتله في حالة تتقيَّد الإباحة بها، وهي كونه عقورًا، وهي مفقودة في الصِّغر، غير معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء؛ بخلاف غيره من المذكورات؛ فإنَّه ينتهي بطبعه عند الكبر إلى الأذى قطعًا، وأمَّا صغار باقي المذكورات، فيقتل، وظاهر اللَّفظ والإطلاق يقتضيه.
ومنها: جواز قتل من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه قتلٌ بقصاص، أو رجمٌ بالزِّنا، أو قتلٌ بالمحاربة، وغير ذلك، وأنَّه يجوز إقامة الحدود فيه، سواء كان موجب ذلك في الحرم أو خارجه، ثمَّ لجا إليه، وهو مذهب مالك والشَّافعيِّ وآخرين.
وقال أبو حنيفة: ما ارتكبه من ذلك في الحرم، يقام عليه، وما فعله خارجه، ثمَّ لجأ إليه، إن كان إتلاف نفسٍ، لم يقم عليه في الحرم، بل يضيَّق عليه، ولا يكلَّم، ولا يجالس، ولا يبايَعُ، حتى يضطرَّ إلى الخروج منه خارجه، فيقام عليه. وما كان دون النَّفس، يقام فيه، وبه قال طائفة، وحجَّتهم: قول الله عز وجل: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97].
وحجَّتنا عليهم: مشاركة فاعل هذه المذكورات في اسم الفسق، فيعمُّه، بل فسقه أفحش؛ لكونه مكلَّفًا، بخلاف المذكورات؛ فإنَّ فسقها طبيعيٌّ، ولا تكليف عليها، والمكلَّف المرتكب للفسق هاتكٌ حرمةَ نفسه، فهو أولى، ولأنَّ التَّضييق الَّذي ذكره لا يبقى لصاحبه أمان، فخالفوا ظاهر ما فسَّروا به الآية.
قال القاضي عياض رحمه الله: ومعنى الآية عندنا وعند أكثر المفسِّرين: أنَّه إخبار عما كان قبل الإسلام، وعطف على ما قبله من الآيات، وقيل: أمن
بالنار. وقالت طائفة: يُخرج منه، ويقام عليه الحدُّ مطلقًا، وهو قول ابن الزبير، والحسن، ومجاهد، وحماد، والله أعلم (1).
ومنها: جواز قتل الفأرة، وحكي عن النَّخعيّ أنَّه لا يجوز للمحرم قتل الفأرة، والله أعلم.
* * *
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (8/ 118).