الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد فرق العلماء بين صلاة العيد والجمعة بفرقين:
أحدهما: أن صلاة الجمعة فرض عين يهتم الناس بالإتيان إليها من خارج المصر قبل دخول وقتها، وينتشرون في أشغالهم بعده في أمور دنياهم، فقدمت الخطبة عليها ليتلاحق الناس ولا يفوتهم الفرض، لا سيما فرض لا يقضى على وجهه، وهذا معدوم في صلاة العيد.
الثاني: أن صلاة الجمعة هي صلاة الظهر حقيقة، وإنما قصرت بشرائط، منها: الخطبتان، والشرط لا يتأخر، ويتعذر مقارنة الشرط للمشروط الذي هو الصلاة، فلزم تقديمه، وليس هذا المعنى في صلاة العيد؛ أي: ليست مقصورة عن شيء آخر بشرط حتى يلزم تقدم ذلك الشرط.
واختلف العلماء في صلاة العيد، هل هي واجبة أم مستحبة؟
فذهب الشافعي إلى أنها سنة مؤكدة، وبه قال جماهير أصحابه.
وقال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: هي فرض كفاية.
وقال أبو حنيفة: هي واجبة.
فإذا قلنا: فرض كفاية، فامتنع أهل موضع منها، قوتلوا عليها كسائر فروض الكفاية، وإذا قلنا: سنة، فوجهان:
أصحهما: لا يقاتلون؛ كسنة الظهر وغيرها من السنن.
والثاني: يقاتلون؛ لأنها شعار ظاهر، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَاِزبٍ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَنَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَضْحَى بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:"مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا، فَقَدْ أَصَابَ النَّسُكَ، وَمَنْ نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلَا نُسُكَ لَهُ"، فَقَالَ أَبُو بردةَ بنُ نِيَارٍ خَالُ البرَاءِ بْنِ عَازِب: يا رَسُولَ الله! إِنِّي نَسَكْتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ اليَوْمَ يَوْمُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ،
وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَكُونَ شَاتِي أَوَّلَ مَا يُذْبَحُ فِي بيتي، فَذَبَحْتُ شَاتِي، وَتَغَذيْتُ قَبْلَ أَنْ آتِيَ الصَّلَاةَ، قَالَ:"شَاتُكَ شَاةُ لَحْم"، قَالَ: يا رَسُولَ اللهِ! فَإنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا هِيَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ شَاتَيْنِ، أفتُجْزِئُ عَنِّي؟ قَالَ:"نَعَمْ، وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ"(1).
أما البراء بن عازب، فتقدم ذكره في باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم".
وأما خاله أبو بردةَ بنُ نِيار، فاسمه هانئ، وقيل: الحارث، وقيل: مالك، والصحيح المشهور الأول.
وأما أبوه نِيار، فاختلف فيه، فالمشهور نِيار، وقيل: عمرو، وقيل: هبيرة، ولم يختلفوا أنه من بُلَي؛ فيما قاله شيخنا أبو الفتح رحمه الله.
قال أبو حاتم بن حبان: هو أسلمي، ويقال: هو حليف لبني حارثة بن الحارث بن الخزرج.
ونسبه غيرهما إلى بني قضاعة؛ لأن بليًا منهم، وقال: هو مدني.
وقال أبو حاتم: هو حليف لبني مجدعة.
قلت: ويسمونه أيضًا هانئ بن عمرو بن نيار، وكان عَقَبيًّا بدريًّا، وشهد العقبة الثانية مع السبعين في قول جماعة من أهل السير.
وقال الواقدي: إنه توفي في أول خلافة معاوية، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اتفق البخاري ومسلم على حديث واحد له، وروى عنه جابر بن عبد الله وجماعة من التابعين، وروى له أصحاب السنن والمساند، مات ولا عقب له، قال أبو حاتم بن حبان: سنة خمس وأربعين، وقال غيره: سنة إحدى أو اثنتين وأربعين (2).
(1) رواه البخاري (912)، كتاب: العيدين، باب: أكل يوم النحر، ومسلم (1961)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.
(2)
وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 451)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (8/ 227)، و"الثقات" لابن حبان (3/ 431)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1608)، =
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلَّى صلاتَنا ونسكَ نسكَنا"، فلا شك أن أصل النسك في اللغة من النسيكة، وهي البقرة المدل المصفاة من كل خلط، والمراد بها هنا الذبيحة أضحية، وقد استعمل فيها كثيرًا، واستعمله بعض الفقهاء في نوع خاص من الدماء المراقة في الحج، وقد يستعمل فيما هو أعم من ذلك من العبادات، ومنه يقال: فلان ناسك؛ أي: متعبد، ومعناه: مخلص عبادته لله تعالى. ثم قوله: "صلى صلاتنا ونسك نسكنا"؛ أي: مثلَ صلاتنا ومثلَ نسكنا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فقد أصابَ النسكَ"؛ أي: فقد أصاب مشروعية النسك وما قارب ذلك.
وقوله: "ومن نسكَ قبلَ الصلاة، فلا نسكَ له" معناه: لا يقع مجزئًا عن الأضحية، وظاهر اللفظ أن المراد منه قبل فعل الصلاة، ولم يتعرض لذكر الخطبتين، وهما معتبران عند الشافعي؛ لكونهما مقصودتين مع الصلاة، فإن وقت الأضحية لا يدخل إلا بمقدار الصلاة والخطبتين عنده.
وقوله: "شاتُك شاةُ لحم"؛ أي: ليست ضحية، ولا ثوابَ فيها، بل هو لحم لك تنتفع به، كما في رواية أخرى:"إنما هو لحمٌ قَدَّمْتَهُ لأهلِكَ"(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولنْ تَجْزِيَ عن أحدٍ بعدَكَ" هو بفتح التاء المثناة فوق، ومعناه لن تقضي، يقال: جزى عَنِّي كذا؛ أي: قضى؛ أي: إن الذي فعله من الذبح قبل الصلاة لم يقع نسكًا، فالذي يأتي بعده لا يكون قضاء عنه، وهذا الذي ضبطناه
= و"أسد الغابة" لابن الأثير (6/ 27)، و"تهذيب الكمال" للمزي (33/ 71)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (2/ 35)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (7/ 36)، و"تهذيب التهذيب" له أيضًا (12/ 22).
(1)
رواه البخاري (922)، كتاب: العيدين، باب: الخطبة بعد العيد، ومسلم (1961)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها، بلفظ:"فإنما هو لحم قدمه لأهله". قلت: وما ذكره المؤلف رحمه الله من اللفظ، فإنما أخذه من شيخه النووي في شرحه على "مسلم"(13/ 312)، وقد أسلفنا القول من قبل: أن طريقة الإمام النووي والمحدثين المتأخرين يغلب عليها الفقه؛ فإني لم أجد الحديث هكذا في كتب الحديث، وإنما لفظهم فيه ما قد ذُكر آنفًا، فكان على المؤلف رحمه الله أن يَفْطن لهذا في نقوله، والله أعلم.
في تَجزي بفتحِ التاء هو في جميِع الطرق والروايات، وهو من نحو قوله تعالى:{وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان: 33]، وقد امتنع بهذا الحديث قياس غير أبي بردة عليه، وتخصيص أبي بردة بهذا الحكم إمضاء له دون من بعده، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عقبة بن عامر رضي الله عنه عتودًا؟، وقال:"ضَحِّ به أنتَ" رواه مسلم في "صحيحه"(1)، وأعطى زيدَ بنَ خالد رضي الله عنه عتودًا أجذع فقال:"ضَحِّ به"، فقلت: إنه جذع، من المعز أضحي به؟ قال:"نعم ضَحِّ به"، فضحيت به (2)، ورواه أبو داود بإسناد حسن (3)، وليس فيها قوله: من المعز، لكنه معلوم من قوله: عتود؛ فإن العتود من أولاد المعز خاصة، وهو ما رعى وقوي، قال الجوهري وغيره: هو ما بلغ سنة، وجمعه أعتدة وعُدَّان بإدغام التاء في الدال، ومعلوم أنه لا يجزئ في الأضحية، وإنما يجزئ الجذع من الضأن، ولهذا روى البيهقي بإسناده الصحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم غنمًا أقسمها ضحايا بين أصحابي، فبقي عتود منها، فقال:"ضحِّ بها أنت ولا رخصةَ لأحدٍ فيها بعدَك"(4)، فهذان الصحابيان حكمهما في الرخصة لهما حكم أبي بردة بن نيار.
وأما العَناق: فهي الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة، فإذا قوي ورعى، وأتى عليه حول، قيل للذكر منه: عتود، وقال بعضهم: هي الصغيرة من أولاد المعز ما دامت ترضع، [ولهذا قال في بعض روايات "صحيح مسلم": عندي
(1) رواه مسلم (1965)، كتاب: الأضاحي، باب: سن الأضحية، والبخاري أيضًا (2178)، كتاب: الوكالة، باب: وكالة الشريك في القسمة وغيرها.
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 270)، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 194)، وهذا لفظ البيهقي.
(3)
رواه أبو داود (2798)، كتاب: الضحايا، باب: ما يجوز من السن في الضحايا، وابن حبان في "صحيحه"(5899).
(4)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 270).
عَناقُ لبنٍ (1)؛ أي: صغيرة قريبة مما ترضع] (2)، وجمع العناق أعنق وعنوق.
وقوله: "هي أحب إلي من شاتين"، وفي رواية في "صحيح مسلم":"عندي عناقُ لبنٍ هو خيرٌ من شاتَيْ لحمٍ"(3)، ومعناه: أطيبُ لحمًا وأنفع؛ لسمنها ونفاستها.
وفي هذا الحديث مسائل:
منها: أن خطبة عيد الأضحى بعد الصلاة، وتقدم الكلام عليها في الحديث قبله.
ومنها: أن الأضحية لا يدخل وقتها إلا بعد صلاة العيد والخطبتين، وقد قال ابن المنذر رحمه الله: وأجمع العلماء على أن الأضحية لا تجوز قبل طلوع الفجر، واختلفوا فيما بعد ذلك، فقال الشافعي، وداود، وابن المنذر: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس، ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإذا ذبح بعد هذا الوقت، أجزأه، سواء صلى الإمام أم لا، وسواء صلى المضحي أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى أو البوادي أو المسافرين، وسواء ذبح الإمام ضحيته أم لا.
وقال عطاء وأبو حنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإذا ذبح قبل ذلك، لم يجزئه.
وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه.
وقال أحمد: لا يجوز قبل صلاة الإمام، ويجوز بعدها قبل ذبح الإمام،
(1) رواه البخاري (5236)، كتاب: الأضاحي، قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: "ضح بالجذع من المعز
…
"، ومسلم (1961)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.
(2)
ما بين معكوفين ساقطة من: "ح".
(3)
رواه البخاري (6296)، كتاب: الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1961)، (3/ 1554)، كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.
وسواء عنده أهل القرى والأمصار، ونحوه عن الحسن، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه.
وقال الثوري: تجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته، وفي أثنائها.
وقال ربيعة: فمن لا إمام له إن ذبح قبل طلوع الشمس لا يجزئه، وبعد طلوعها يجزئه، وظاهر هذا الحديث حجة على من خالفه بالنسبة إلى الصلاة.
ولما كانت الخطبتان مقصودتين في هذه العبادة، اعتبرهما الشافعي ومن وافقه.
ومنها: أن من ذبح قبل الصلاة لم يكن ناسكا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاتُكَ شاةُ لحمٍ".
ومنها: أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر، لم يكن الجهل عذرًا فيها، وقد فرق العلماء بين المأمورات والمنهيات في ذلك، فقالوا: يعذر في المنهيات بالنسيان والجهل؛ كما في حديث معاويةَ بنِ الحكم حين تكلم في الصلاة، ولا يعذر في المأمورات بأن المقصودَ منها إقامةُ مصالحها، ولا يحصل ذلك إلا بفعلها، بخلاف المنهيات، فإنها مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانًا للمكلف بالانكفاف عنها، وذلك إنما يكون بالتعهد لارتكابها، ومع النسيان والجهل لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي، فعذر بالجهل فيه.
ومنها: أن لله تعالى أن يخص ببعض الأحكام التي منع الناس منها من شاء على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لعذر وغير عذر.
ومنها: أن المرجع في الأحكام كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره ومن رجعت إليه من أمته فإنما هو بإذنه صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن يوم الأضحى يوم أكل وشرب يحرم الصومُ فيه؛ حيث وصفه بالأكل والشرب، والله أعلم.
* * *